تراجيديا سيدة القصر الشقراء -1

2022.10.20 | 07:11 دمشق

تراجيديا سيدة القصر الشقراء
+A
حجم الخط
-A

كان يمكن لها أن تقضي كامل حياتها في بريطانيا. فتتزوج هناك وتنجب أطفالاً، دون أن يسمع بها أحد، ودون أن يصنفها التاريخ باعتبارها شريكة في جريمة ما آلت إليه البلد من كارثة. نعم كان يمكن أن تكون سيرتها على هذا النحو، فتجنِّب نفسها الدخول إلى قصر عائلة لم تحبها ولم تقبلها، ومجتمع محيط كان رافضاً لزواجها باعتبارها غريبة. مجتمعٌ رأى فيها فألاً سيئاً، لأنها وصلت بعد وقت قصير من موت والد زوجها. قال البعض "لقد أتت إلينا من خلف تابوت". وبينما أمرت السلطات أن يلفَّ الحداد والسواد البلد إثر موت الأب، ارتدت هي ثوب الزفاف الأبيض بدلاً من الأسود.

قبل سنوات قليلة، كانت "فيكتوريا" ملكة بريطانيا، قد عرضت مرتين، في فترتين متقاربتين، على "ألكسندرا"، حفيدتها الألمانية المحبوبة، الزواجَ من أميرين ينتميان إلى أوساط الأسرة البريطانية الحاكمة. رشحتهما لها على التوالي، أحدهما كان الأمير "ألبرت فيكتور" وريث العرش البريطاني، لكنها لم تطاوع جدتها، ولو فعلت لكانت قضت باقي حياتها في بريطانيا. كانت الفتاة الشقراء تخطط للزواج من نيكولاس الثاني، ولي العهد الذي سيصبح قريباً قيصر روسيا. هذا ما تمَّ، وكان أن أصبحت إمبراطورةً، وشريكةً لزوجها في حكم البلد. رغم معارضة القيصر الأب وزوجته لهذا الزواج في وقت أبكر. معارضة سيكسرها مرض الأب، والشعور بضرورة زواج ولي العهد، بما يمكن من السرعة.

على الرغم من زيارة ولي العهد الشاب إلى المملكة المتحدة عام 1893، وإعجابه بآلية حكم الملكية الدستورية، فقد أدار ظهره، حين أصبح قيصراً، لأي فكرة من شأنها أن تؤدي إلى التخلي عن بعض الصلاحيات

على الرغم من حبها للأمير الشاب، إلا أنها كانت مترددة في البداية، فهي لم ترغب في التخلّي عن إيمانها اللوثري للانضمام إلى الكنيسة الأرثوذكسية، كما يَفترض البروتوكول القيصري. في السادس والعشرين من شهر تشرين ثاني/ نوفمبر 1894، تزوجا في الكنيسة الكبرى للقصر الشتوي في سانت بطرسبرغ، بعد إقناعها بأنها ستغدو أرثوذكسية دون أن تضطر للتخلي عن اللوثرية. اعتبر الاثنان أنه يمكن تخفيف مظاهر الحداد في القصر لهذه المناسبة، ولكن ليس في كامل البلد. فموت الإمبراطور ألكسندر الثالث، المعروف بقوته وفظاظته خلال حكمه لروسيا أكثر من ثلاثة عشر عاماً، يستحق تلك المظاهر.

على الرغم من زيارة ولي العهد الشاب إلى المملكة المتحدة عام 1893، وإعجابه بآلية حكم الملكية الدستورية، فقد أدار ظهره، حين أصبح قيصراً، لأي فكرة من شأنها أن تؤدي إلى التخلي عن بعض الصلاحيات، لممثلين منتخبين من الشعب الروسي، بهدف تحسين الحياة السياسية والاقتصادية المأزومة، متجاهلاً كل النصائح المخلصة.

في كلمة ألقاها أمام الأمراء والجنرالات ورجال السلطة، فيما يشبه اليوم "خطاب القسم"، أكد القيصر الجديد متابعة قيادة البلاد على نهج والده. مؤكداً على حقّه الإلهي في حكم روسيا "أريد أن يعلم الجميع أنني لأجل مصالح الأمة، سأكرس كل قوتي، للمحافظة على مبدأ الحكم المطلق، بحزمٍ كما فعل والدي الراحل".

في الرابع عشر من أيار/مايو 1896، بعد أكثر من عام على الزواج، جرى الحفل الرسمي لتتويجهما في كاتدرائية قصر الكرملين. منذ الصباح، تجمع قرابة خمسمئة ألف روسي في ساحة "خودينكا" لمشاهدة العروض الترفيهية، وتناول الطعام الذي يقدّمه القصر بالمناسبة، والحصول على الهدايا تكريماً لقيصرهم الجديد. يبدو أن الطعام لم يكن كافياً للجميع، فاندفعت الحشود نحو الطاولات. فشلت الشرطة في الحفاظ على النظام، وقُتل نحو ألف روسي خلال التدافع.

مساء ذاك اليوم الأسود، حضر الزوجان حفلاً راقصاً أقيم على شرفهما، بدعوة من السفير الفرنسي "ماركيز دو مونتيبيلو". حضر الزوجان بدافع دحض شائعةٍ مفادها أن ألكسندرا الألمانية كانت متحيزة ضد الفرنسيين. علق "سيرجي ويت"، وزير المالية الروسي آنذاك ورئيس الوزراء بعد سنوات قليلة، بالقول "كنا نتوقع إلغاء الحفل. وبدلاً من ذلك، حدث الأمر وكأن شيئاً لم يقع. وافتتح الثنائي الشاب الأمسية برقصة منفردة".

في اليوم التالي زار الزوجان الجرحى، وقدما لهم الهدايا، ودفعا ثمن النعوش لعائلات القتلى. اعتبر العديد من الروس كارثة ساحة خودينكا نذيراً بأن عهد نيكولاس وألكسندرا لن يكون سعيداً، ورأى آخرون أن "ظروف المأساة وسلوك المؤسسة الملكية، تدلل على قسوة الاستبداد، والضحالة البغيضة للقيصر الشاب وامرأته الألمانية".

كانت ألكسندرا مثقفة وقارئة جيدة. وفي سنواتها الأولى كإمبراطورة، قرأت الترجمات الروسية، ودرست موسيقا البلاد. كما ناقشت مع زوجها كامل روايات ليو تولستوي المنشورة. مع ذلك لم تفهم المرأة الشابة الروح الروسية. اتسمت علاقة ألكسندرا مع حماتها "ماري فيودوروفنا" بالصعوبة. خصوصاً أن البروتوكول الروسي، وعلى عكس الممالك الأوروبية الأخرى، أعطى الأرملة الأم الأقدمية في رتبة الإمبراطورة.

في الحفلات الملكية، كانت ماري تدخل متأبطة ذراع ابنها باعتبارها "السيدة الأولى"، تتبعهما ألكسندرا متأبطة ذراع أحد الدوقات، وكانت على الدوام مستاءة بشأن دورها الصغير والتافه. عملت المرأة الشابة بهدوء، لكن بإحكام، على انتزاع هذا الدور من الأم، وخصوصاً عندما هددت بعدم ارتداء أي مجوهرات في المناسبات الرسمية للقصر، إن لم تحصل على المجوهرات الإمبراطورية التي كانت بحوزة الأم. وكان لها ما أرادت.

على عكس الإمبراطورة الأم، وكذلك أخت زوجها الدوقة الكبرى "زينيا" التي تكرهها أيضاً، كانت ألكساندرا ترتدي في المناسبات الرسمية، ملابس باهظة الثمن، بينما يعاني ملايين الفقراء الروس من الجوع. في القصر، تناول رجال البلاط لباسها بسخرية. ارتدت الديباج الثقيل، الذي كانت مولعة به، وقد تناثر عليه الألماس في كل موضع. اعتبروا الأمر تحدٍّ للذوق والفطرة السليمة. عموماً كان مجمل سلوكها مكروهاً من الروس، وعلى نحو خاص من أفراد العائلة المالكة. وانتشر الأمر أوروبياً. في رسالة وجهتها إمبراطورة ألمانيا (خالة ألكسندرا) إلى الملكة فيكتوريا، جدة ألكساندرا لأمها، تقول: "أليكس متسلّطة للغاية، وتصر دوماً على أن تكون لها طريقتها الخاصة، لممارسة القوة التي تتخيل أنها تمتلكها".

خارج القصر، رفضت ألكسندرا إقامة أي اعتبار للمواطنين الروس. عندما كانت مسافرة مع زوجها بالقطار إلى شبه جزيرة القرم، ارتدى الفلاحون الروس أفضل ثيابهم، وانتظروا طوال الليل لرؤية وتحية الزوجين الشابّين. في كل محطة كان القيصر يتّجه إلى النافذة ملوّحاً بيده لمواطنيه، بينما رفضت "الكلبة الألمانية" كما لقّبها الروس، مجرد فتح الستائر. كانت الإمبراطورة الأم غاضبة من اعتقاد ألكسندرا أنها لا تحتاج لكسب محبّة الرعايا. جاء رد ألكسندرا صادماً "أنت مخطئة. روسيا ليست إنكلترا. هنا لسنا بحاجة لحب الناس، فالشعب الروسي يقدّس قياصرته، باعتبارهم كائنات إلهية".

تأخرت الإمبراطورة بإنجاب ولي للعهد. فأنجبت أربع فتيات خلال عشر سنوات. رأى الفلاحون الروس أن "الإمبراطورة لم تكن محبوبة في الجنّة، وإلا كانت ستلدُ صبيّاً".  في تشرين أول/أكتوبر عام 1900 أصيب القيصر بمرض التيفوس، واحتُجِز في الفراش لأسابيع. اضطر مجلس الوزراء لمناقشة ما سيحدث فيما لو مات. حينذاك كانت ألكساندرا حاملاً بابنتها الرابعة "أنستازيا". أصرت الأم الشابّة على تسمية مولودها ولياً للعهد قبل الولادة، على أمل أنها ستلد صبياً.

اشتدت كراهية أفراد العائلة الملكية لألكسندرا أكثر، بسبب "تلويثها دم عائلة رومانوف بمرض عرقها الغريب"

وزراء نيكولاس المضطربين اقترحوا أنه فيما لو مات، فإن أخاه هو من سيكون القيصر، وإذا كان المولود صبياً، فإن العم سيتنازل عن العرش لابن أخيه. لم تقبل الإمبراطورة اقتراح الوزراء الذين لم تثق بهم أصلاً، واعتبرت الأمر محاولة لسرقة ميراث ابنها المستقبلي. شُفي القيصر من مرضه، وكان عليه أن ينتظر أربع سنوات أخرى لتنجب زوجته ابنهما "أليكسي" عام 1904. الكارثة أن الصبي وُلد مصاباً بمرض الناعور، مما سيهدد حياته في كل لحظة.

اشتدت كراهية أفراد العائلة الملكية لألكسندرا أكثر، بسبب "تلويثها دم عائلة رومانوف بمرض عرقها الغريب". سوف تُسِرّ لزوجها "لو كنت تعرف مدى صَلاتي من أجل حماية ابننا من لعنة مرضنا الموروث". سيبقى المرض الذي نقلته الإمبراطورة لابنها وريث العرش، ذروة مأساتها الشخصية طوال سنوات. إلى أن حان موعدها مع التراجيديا المريعة، التي ستواجهها في قبو بناءٍ قديم، في منطقة الأورال، فجر يوم السابع عشر من تموز/يوليو عام 1918.