بي بي سي و"حياة الليل" في دمشق

2018.09.03 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

نشر موقع بي بي سي نيوز تقريراً، بقلم مات ويرهام، عن حانة تدعى "كوزيت بار دمشق" يديرها، في حي الأمين، شخص يدعى سومر حازم.

يتحدث حازم بـ"موضوعية" حتى تكاد تحسبه محرراً في بي بي سي، فيحكي عن ظروف عمله، من غير أي تورط في السياسة، فلا يأتي على ذكر النظام ولا الثورة، ولا يمتدح "الجيش العربي السوري" وانتصاراته وبطولاته، حتى لو كان ذلك على طريقة منذر خدام، ولا يهاجم "الإرهابيين" وثورتهم حتى لو كان على طريقة بعض "معارضي المعارضة" من حزب البوط.

إنه مجرد مقدم خدمة بريئة لأهالي الشام من محبي السهر والكيف. يحب عمله، كما توضح الصور المرافقة التي التقطتها عدسة بي بي سي في الحانة: ابتسامة طفيفة ترتسم على وجهه، وهو يراقب الساقي الشاب يتفنن في عمله، فيملأ ثلاث كؤوس معززة بالثلج، مطبقة فوق بعضها بعضاً على شكل درج، في عملية صب واحدة، على مذهب السقاة في الحانات الأميركية.

وفي الصورة الرئيسية، يظهر حازم وحده وراء الكونتوار، مع شبه ابتسامة، ولحية كثيفة، وصلعة خفيفة في مقدم رأسه، يرتدي تي شرت بسيط. له وجه يثير الارتياح. وراءه على الحائط تمتلئ الرفوف بأصناف المشروبات المستوردة، في نوع من التوكيد على أن دمشق لا تعاني من أي عزلة أو حرمان، حتى في مجال استيراد كماليات كالكحول.

لكن غياب السياسة عن كلام سومر حازم لا يعني أن الحرب غائبة عن التقرير، وإن كانت تظهر فيه في خبر كان. فالتقرير يحمل عنوان "أن تدير حانة في دمشق تحت القنابل"! بقدر ما تبدو الحرب، هنا، شيئاً من الماضي، فهي تبدو أيضاً كأصداء أصوات قنابل تأتي من بعيد، فلا تفلح في التشويش على الموسيقى التي لا بد وأنها تصدح داخل الحانة.

لا يظهر نظام بشار لقارئ هذا التقرير إلا بوصفه حكومة سورية تطهر البلاد من وحوش داعش

كان سومر حازم يملك فندقاً سياحياً صغيراً في دمشق القديمة "حين اندلعت الحرب الأهلية في العام 2011" يقول مات ويرهام في تقريره، مما أرغمه على إغلاق فندقه، في سياق الضرر البالغ الذي تعرضت له السياحة بسبب "الحرب الأهلية". ثم فتح حانته في العام 2015، واستمر في استقبال زبائنه، منذ السابعة من مساء كل يوم. "وفي الوقت الذي غادر ملايين من السوريين البلاد بسبب الحرب، فضل سومر حازم البقاء، على رغم خسارته بإغلاق الفندق".

و"على رغم أن دمشق تعتبر المدينة ذات الشروط الأقل مناسبة للعيش، على مستوى العالم للشهر الحالي، فقد انتعشت حياة الليل فيها كما يقول سومر". هنا يكون مات ويرهام قد أعطانا فكرة عن خلفية هذا التغير، بالقول إن "القوات الحكومية" قد استعادت سيطرتها، بمساعدة روسية، على محيط دمشق. وارتفع عدد الحانات في الشارع نفسه من 3 إلى 20 على ما يخبرنا سومر حازم.

لكن الحرب لم تنته بعد، فما زال هناك، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، ما بين 20 – 30 ألفا من مقاتلي داعش في سوريا والعراق.

لنلاحظ الصورة التي يرسمها كاتب تقرير بي بي سي: هناك حرب أهلية في سوريا منذ العام  2011 (لا حركة احتجاجات سلمية على حكم دكتاتوري، ولا قصف بالبراميل أو الغازات السامة على الأحياء السكنية). حرب دفعت ملايين السوريين إلى الفرار خارج البلاد (مع إصرار سومر حازم وأمثاله من "المواطنين الأبرياء المحبين للحياة والوطن والعمل" على البقاء). حرب ضربت قطاع السياحة، فأصبح سومر حازم عاطلاً عن العمل بعدما أغلق فندقه الصغير، لكنه لم يغادر!

تبدو هذه الصورة "البريئة" ملائمة لأغراض عدة أهمها تطبيع صورة السفاح بشار ونظامه في الرأي العام الغربي

وجوهر هذه الحرب "التي لم تنته بعد" هي محاربة جهاديي داعش (صورة هؤلاء لدى الرأي العام الغربي الذي يخاطبه تقرير بي بي سي، ليست بحاجة إلى توضيح إضافي. فهم قاطعو رؤوس وآكلو أكباد وحارقو أجساد حية ومستعبدو سبايا سنجار.. إلخ). يبدو منطقياً و"أخلاقياً" والحال كذلك أن تواصل قوات "الحكومة السورية" محاربة بقايا داعش الذين تقدر الأمم المتحدة أعدادهم بما بين 20 إلى 30 ألفاً، غير معروف أين هم أو من هم.

وهكذا لا يظهر نظام بشار لقارئ هذا التقرير إلا بوصفه حكومة سورية تطهر البلاد من وحوش داعش، لتتيح لمواطني العاصمة الأبرياء المحبين للحياة أن يشربوا كأساً بين جولتين من قذائف الهاون، كما يقول سومر حازم. الإشارة إلى قذائف الهاون مهمة جداً في إطار الصورة التي أرادت بي بي سي تقديمها عن دمشق. فهذه القذائف كانت تسقط، بين حين وآخر، على أحياء دمشق الواقعة تحت سيطرة النظام، فتوقع قتلى وجرحى، ومصدرها مواقع مسلحي المعارضة.

تبدو هذه الصورة "البريئة" ملائمة لأغراض عدة، أهمها تطبيع صورة السفاح بشار ونظامه في الرأي العام الغربي، وإعطاء دفع لمبادرة روسيا التي تهدف إلى إعادة اللاجئين السوريين، وربما لتبرير حملة النظام الوشيكة على محافظة إدلب التي تعج الآن بأولئك الذين كانوا يمطرون أحياء دمشق الآمنة بقذائف الهاون! ومن يدري، فلعلهم المقصودون في تقديرات الأمم المتحدة بشأن العدد المتبقي من جهاديي داعش!

الإشارة إلى قذائف الهاون مهمة جداً في إطار الصورة التي أرادت بي بي سي تقديمها عن دمشق فهذه القذائف كانت تسقط بين حين وآخر على أحياء دمشق ومصدرها مواقع مسلحي المعارضة

ليست غايتي من تحليل تقرير بي بي سي إضفاء وزن عليه يفوق أهميته الواقعية بذاته. لكنه يساهم، مع غيره من الأخبار والتحقيقات والتقارير الإعلامية، في التأثير على الرأي العام الغربي الذي لا يعرف تفاصيل ما يحدث في سوريا. فهو نموذجي بهذا المعنى، سواء في موضوعه "البريء" أو لغته اللاسياسية أو صوره المؤثرة أو حكايته القريبة إلى وعي الشخص المتوسط الذي يزعجه تدفق اللاجئين الملونين إلى بلاده، وهذا كل ما يهمه من الصراع الدائر في سوريا.

سومر حازم متفائل، يقول "إن دمشق ليست المدينة نفسها التي كانت قبل الحرب، هي تتحول إلى مدينة مختلفة. أظن أننا نحتاج إلى وقت لننسى ما حدث خلال السنوات السبع المنقضية. برأيي أن المستقبل سيكون أفضل".

هذا ما يختم به ويرهام تقريره الوديع. لا نعرف كيف كان تأثير "الماس الكهربائي" الذي قالت وكالة سانا الأخبارية إنه تسبب، ليلة السبت – الأحد، في انفجار مستودعات الذخيرة في مطار المزة العسكري، على رواد حانة كوزيت بار دمشق، وهل نغصت عليهم سهرتهم. فالتقرير قد كتب قبل ذلك.