بين "هنا" و"هناك".. عن مجزرة الخبز المدمّى في حلفايا

2021.12.23 | 13:15 دمشق

thumbs_b_c_b4627f3e2530f75a224c122ed3f2e50b.jpg
+A
حجم الخط
-A

أنا من هناك! من مدينة أطلق العالم عليها قبل سنواتٍ تسع (مدينة الخبز المدمّى)*، أما زلتم تذكرونها بعد هذي السنين التي مرّت؟ أمَا يزالُ منظر أولئك البسطاء الطيبين الذين غافلوا القصف وهرعوا مسرعين إلى فرن المدينة لانتزاع بعض الأرغفة من فكّ الموت المتربّص بهم عالقًا في ذاكرتكم؟ أم أنّهم اسّاقطوا من ذاكرتكم وتناثرت ملامحهم كما تناثرت أشلاؤهم على رصيف انتظارهم الطويل لخبزٍ أبى إلّا أن ينعجن بدمائهم؟

إن كانت تفاصيل المجزرة قد بهتت قليلًا في ذاكرتكم؛ فبوسعكم الاستعانة بمحرّكات البحث التي باتت تتولّى عنا مهمة تحييد الألم وعناء حفظ تفاصيله المؤلمة في مكانٍ منفصلٍ عنّا بوسعنا المرور به متى شئنا، وبوسعنا أيضًا تجاهله وطيّه للأبد إن ساورتنا الرغبة بذلك.

لستُ بصدد بعث تفاصيل المجزرة وإحيائها من جديد في ذاكرتكم، فأنا مثلكم طويتُها وأزحتها من ذاكرتي، وطويت معها مدينتي وذاكرتي عنها لأستطيع المضيّ قُدمًا في دروب الغربة؛ كثير منا منذ اللحظة الأولى له في المنفى شرع بإقامة جدار سميك يفصله عن الماضي، بعض منا لم يستطع مقاومة رغبة استبدّت به، فترك كوّةً صغيرة تشبع فضوله الذي يداهمه في لحظة ضعف، مع مرور الوقت يكتشف أنّ الطرقات كلّها تؤدّي به إلى هناك.

أؤكد لكم مجددًا أنني سأتجنب ذكر تفاصيل المجزرة وأحيلكم إلى مواقع التواصل؛ ما عليكم إلا أن تكتبوا على محركات البحث (مدينة الخبز المدمّى) وسيظهر لكم اسم مدينتي (حلفايا) لكنكم  لن تجدوني هناك، ولا من ماتوا قبل المجزرة وفي أثنائها وبعدها، ولا من يمتّون إليهم بصلة، ستجدون اليوم فيها أناسًا من طينة أخرى، لم نعد نعرفهم، وهم ما عادوا يعرفوننا؛ أناس قد تربطهم صلات قربى ودم بمن ماتوا في تلك المجزرة قبل سنينٍ تسع، وفي مجازر أخرى تلتها في مدينتنا، لكن تلك الصلات بهتت بمرور الزمن، واختفت وكأنها لم تكن موجودة يومًا، والحجّة هي الحياة التي يجب أن تستمر.

في وقت لاحق قد تطرح حجج وأعذار شتّى تتلخص بالمداراة واتّقاء شرّ الظالم، ومن أجل ذلك قد يحتفون بالقاتل؛ اتقاء لشرّه في المكان نفسه الذي كان يومًا حيّزًا لمجزرة لا يمكن إسقاطها من الذاكرة، مهما تفنّن الظالم واجتهد في طمس معالمها وترحيلها إلى غياهب النسيان.  

أنا كنت يومًا ما هناك! في (مدينة الخبز المدمى)؛ تلك المدينة التي أصبحت بفضل الأوغاد وعديمي الضمير والذاكرة مدينة الخبز المغمس بالذل، شأنها شأن معظم المدن السورية، لن أصف لكم ما حدث في مثل هذا اليوم قبل سنوات تسع، فالعالم كله يعرف تفاصيل المجزرة؛ لكن سأسرد على مسامعكم بعض الأحداث من كواليس المجزرة ربّما لم تسمعوا بها من قبل.

هل تستطيعون أن تتخيلوا حجم الألم الذي اعترى بعض الأمهات اللواتي فُقدت أجزاء من جثث أبنائهن؟ اسمحوا لي بأن أرفع منسوب الألم قليلًا وأحدثكم عن أمهات لم يهتدين إلى جثث أبنائهن أصلًا. إحدى الأمهات أوشكت أن تفقد عقلها، لأنّها بتوسلاتها دفعت ابنها الخائف للذهاب إلى الفرن؛ فبقيت فترة طويلة تكرّر عبارتها: "أنا أرسلت ابني للموت بإيدي".

اسمحوا لي أن أرفع منسوب الألم قليلًا وأحدّثكم عن أمّهاتٍ لم يهتدين إلى جثث أبنائهن أصلًا

وحدث أيضًا أنّ أمًا أخرى مكلومة لم تجد أثرًا لجثة ابنها في تلك المجزرة؛ وحين واست قريبة لها بابنها قالت لها: "احمدي ربك، وجدت جثة ابنك كاملة! ودفنتيه بقبر تروحي تزوريه، يا ريتهم جلبوا لي من ابني إيد أو رجل أدفنهم وأعرف إنّه بهذا القبر فيه قطعة من ابني".

قد ينسى العالم كله ما حصل لنا، وقد نتناسى نحن في محاولة منا للاستمرار في هذه الحياة؛ لكن الأمهات السوريات لن ينسين أبدًا، لن ينسين خبزًا انعجن بدماء أبنائهن يومًا، وآخرَ غدا مغمسًا بالذل بسبب نفوس ضعيفة هادنت الظالم وتهاونت بدماء من حاولوا رفع الظلم عنا.

نعم! أنا من هناك! من (حلفايا)؛ وكان لي فيها حياة وذكريات في زمن ما قبل الدم، كان لي فيها عالمي الذي أنا جزء منه، أو هكذا ظننت، كان لي فيها حديقةٌ ودارٌ وأرضٌ تضيء فيها أشجار الخوخ والدرّاق، وشجرة توتٍ عتيقة ـ غرسها جدّ والدي ـ عانقت فوق أعلى نقطة فيها أحلامًا لي كثيرة وأرسلتها إلى السماء؛ أما وقد أصبحتُ اليوم هنا ـ في زمن ما بعد الدم ـ فقد أتلفت بملء إرادتي كل الصور التي تحمل تفاصيل حياتي الماضية هناك، أردت أن أقطع كل الخيوط التي تربطني بعالم جميل غدا بعيدًا؛ ليقيني بأنني لن أقوى على حملها في الغربة، لكم أن تتخيلوا مقدار الألم الذي يعتري الإنسان حين يقرر إعدام ذكرياته لكيلا تخنقه في غربته، وليتخفف من عناء حملها وجرجرتها معه في طريق لا يعلم منتهاه ولا إلى أين سيؤدي به؟

يقتات المقلوع من أرضه ومن جذوره عادة على الذكريات، ينير عتمة لياليه بها، يستعين بدفئها ليمنع صقيع الغربة من التسلّل إلى وجدانه، أمّا أنا ولخوفي من محاصرتها لي، ومن الهزيمة على يديها؛ فقد صرعتها منذ اللحظة الأولى وقطعت الطريق عليها قبل أن تقطعه عليّ.

استعنت بالمدينة الجديدة في المنفى، حاولت أن أبتدع ذكريات جديدة ودافئة فيها، فتحت قلبي للحياة وللحب، نفضت الغبار عن جنبات قلبي وأشرعتها للشمس وللحرية؛ لأبدأ من جديد بذاكرة جديدة، وحياة جديدة أرمّم بها ذاك الجزء المبتور عمدًا من الوجدان والذاكرة.

تشبه المدن البديلة في المنفى زوجات الآباء الحسناوات والعقيمات في آنٍ واحد، قد تحاول زوجة الأب تقمّص دور الأم، وقد تدّعي حب أبناء زوجها، قد تحيطهم بعطفها ورعايتها؛ لكنها أبدًا لن تفلح في دورها ذاك مهما بالغت في العطف والحنوّ، ولن تستطيع أبدًا مهما حاولت أن تنتزع صفة الأم التي حلت محلها؛ لأن دفء الأمومة فيها مستعار وغير أصيل، وهي في أعماقها تدرك أن الحياة مع أبناء زوجها تحت سقف واحد وتقمّص دور الأم لن يجعل منها أمًا حقيقية لهم، وسيغادرونها عاجلًا أم آجلًا.

قال لي صديق طاعن في الغربة والحكمة ذات يوم مؤازرًا ومشجعًا:

ـ "لن تجدي في العالم كله مدينة يمكن أن تضاهي هذه المدينة في جمالها وهدوئها وعراقتها، لن تشعري براحة مماثلة في أي مدينة أخرى تذهبين إليها، ستجدين نفسك دومًا راغبة بالعودة إليها".

آمنت بمقولته تلك نشدانًا للسلام والطمأنينة، بمرور الوقت بدأت أنحاز لشعور آخر؛ الأماكن والديار بأهلها وساكنيها، ما نفع جمال الديار إن لم يكن لك أحبّة فيها؛ يقاسمونك هواءها وتظلك وإياهم سماء واحدة؟ يشعرون بألمك، وأنك في لحظة معينة بحاجة إليهم، تؤلمهم وحدتك وعزلتك فيهرعون إليك، يربّتون على كتفك قائلين لك: " نحن هنا! نحن معك".

 أستطيع أن أرى أصدقاء لي هناك يغالبون دمعة في عيونهم وهم يقرؤون كلماتي هذه، ربما ستراودهم فكرة دعوتي للعودة؛ لشعورهم أن الحنين لمدينتي قد هزمني أخيرًا، بالرغم من مواظبتي على نفي ذلك، لقد أخبرتهم مرارًا أنني منذ اللحظة الأولى لي هنا أجريت عملية بتر إرادية لذاكرتي، ثم عوضت الجزء المبتور منها بذاكرة جديدة في مدينة بديلة؛ هم لا يصدقونني لعلمهم أنني من النوع العنيد المكابر، كما أنهم يمتلكون إيمانًا راسخًا بأن المقلوع من أرضه وبيته سيهزمه الحنين في نهاية المطاف.

أنا كنت يومًا من "هناك" من (مدينة الخبز المدمّى)، وكنت أحب مدينتي، رحلت عنها حاملة حلمي بعودة قريبة متى توقفت الدماء عن النزيف، أمّا وقد فقد خبزها ذاكرته، وطُمست الدماء وأصبح خبزها مغمسًا بالذل، فأنا من "هنا"، ولن أعود إلى هناك؛ لا أجرؤ على مواجهة الأموات بالرغم من حبي الكبير الذي يعرفونه؛ لا أقوى على زيارة قبورهم حتّى، ولن أفلح مهما حاولت أن أرفع يدي إلى السماء لأقرأ الفاتحة على أرواح لم تعد هنا أو هناك!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مدينة حلفايا التي حدثت فيها (مجزرة الخبز) يوم 23 كانون الأول عام 2012 والتي كان جلّ ضحاياها من المدنيين الأبرياء.