icon
التغطية الحية

بين "مرحاض" دوشامب وموزة كاتيلان.. عن الفن المفاهيمي ونهايات الفنون التشكيلية

2023.07.10 | 13:33 دمشق

فن
+A
حجم الخط
-A

كيف يعقل أن تصبح (مَبْولة) جاهزة الصنع عملا فنيا بمجرد أن يمهرها الفرنسي "مارسيل دوشامب" بتوقيعه ويعطيها مفهوما آخر بأن يقلبها رأسا على عقب ويغيّر اسمها إلى "نافورة" أو "منهل ماء"؟ وكيف يعقل أن تباع موزة معلقة على الحائط بشريط لاصق، للإيطالي موريتساو كاتيلان، بمبلغ 120 ألف دولار؟ كيف لمثل تلك (الأعمال الفنية) أن تجد طريقها إلى أرقى صالات العرض؟

التساؤل الأهم يتمحور حول ما يلي: هل انحدر الفن التشكيلي المعاصر إلى هذا القدر من التفاهة والسطحية، ووصل إلى الحضيض حقا؟ وهل يمكن إنقاذه بعدما انهارت جميع القيم الجمالية المتعارف عليها عبر العصور، حتى الشاذة منها، تحت مسميات الفن المعاصر أو فن ما بعد الحداثة أوالفن "المفاهيمي"؟

لا شك أن جماليات الفنون في كل عصر وزمان تختلف عن جماليات غيره، على اعتبار أن أذواق الناس متغيّرة بتغير أفكارهم ورؤاهم وفلسفتهم عن معنى الحياة والفن والأهداف الوجودية للإنسان، وخضوعها للبيئة المجتمعية والمكانية والدينية. كل ذلك يلعب دورا هاما في تقييم الأعمال الفنية، ويؤثر على المنتج الفني للفنان. فلطالما كان الفنان يرغب من خلال إنتاجه للفن إلى التعبير عما يختلج في نفسه من أفكار وعواطف، ورغبته في استثارة إعجاب الناس من عبر طريقته الخاصة في معالجته للعمل الفني وإخراجه.

يتبادر إلى ذهن أي شخص عادي سؤال بديهي عن وصول الفن إلى هذا المستوى وعن تصنيفه إن كان فناً في الأصل، وعن الأفكار والفلسفات التي يتبناها المشتغلون في ميدان هذا الفن

رأينا وشهدنا التغير المتسارع لجماليات الفن التشكيلي والفنون عموما في القرن الماضي بالتزامن مع التطور المتسارع للتكنولوجيا التي تؤثر بشكل مباشر على حياة الناس وأفكارهم وأحاسيسهم، فتشعبت المدارس الفنية وتباينت أساليب الفنانين في معالجة موضوعاتهم إلى حد كبير يصعب حصره وتفنيده تحت تأثير هذا التغيير العميق في نمط حياة الإنسان المعاصر. فنحن نعيش اليوم في زمن الحرية الفنية، حيث لا توجد قاعدة جمالية عامة يمكن الارتكاز عليها في تقييم العمل الفني الحديث، والأمر متروك لكل شخص وذوقه الخاص. كل ذلك كان مفهوما تماما إلى أن بدأنا نشاهد أعمالاً صادمة ومثيرة للاشمئزاز، بل بات من المستغرب حقا تصنيفها كأعمال فنية.

وهنا يتبادر إلى ذهن أي شخص عادي سؤال بديهي عن وصول الفن إلى هذا المستوى، وعن تصنيفه إن كان فناً في الأصل، وعن الأفكار والفلسفات التي يتبناها المشتغلون في ميدان هذا الفن حتى وصل بنا الحال إلى أن نرى تلك الموزة معلقة عى جدار معرض للفن الحديث وتباع بمبلغ خيالي.

كاتيلان
موزة كاتيلان

"الدادائية" والبدايات

بدأ الأمر عندما قرر مجموعة من الفنانين التشكيليين التمرد على كل شيء والسخرية من كل شيء كرد فعل على مذبحة الحرب العالمية الأولى، فأنشؤوا مجموعة فنية سمّوها "الدادائية"، وكان من بينهم الفنان الفرنسي المعروف مارسيل دوشامب الذي قرر يوما ما أن يأتي بـ "مبولة" ويمهرها بتوقيع MR. Mutt (السيد مُت)، وكان ذلك في عام 1917، وقدمها إلى جمعية الفنانين المستقلين في نيويورك تحت عنوان (نافورة) وطبعا تم رفض العمل في حينها من قبل الجمعية على الرغم من أن دوشامب نفسه كان من المؤسسين لتلك الجمعية على أساس أنها ليست عملاً فنياً ولا تتناسب مع الذوق العام. أثارت تلك الحادثة جدلا واسعا في حينها، ثم ما لبثت فورة الدادائيين أن خمدت وتلاشت، إلا أن أمر (النافورة) لم ينته عند هذا الحد.

دوشامب
(نافورة- مبولة) دوشامب

وفي الحقيقة، فإن دوشامب نفسه لم يكن ليتصور أنه قد أسس بفعله هذا لولادة فكرة جديدة كليا في الفن، وتيار جديد سيسمى لاحقا بـ "الفن المفاهيمي"، إذ كان هدفه كحال الدادائيين في ذلك الوقت السخرية والاستهزاء بالفن الحديث وعبثية الحياة.

المفاهيمي

يقوم هذا الفن على مبدأ يقول إن الفكرة يجب أن تكون لها القيمة العليا في العمل الفني، وهي الهدف الحقيقي من الفن، وللفنان أن يطرح فكرته بأي طريقة يراها مناسبة ولا يوجد التزام تجاه المواد المستخدمة، فله أن يستعمل أي عنصر أو مادة متوفرة لديه ولو كانت شيئا مصنوعا في المعامل أو متوفر بشكل طبيعي في كل مكان طالما هذه الأشياء تخدم فكرته التي يريد أن يطرحها أو يناقشها. وغالبا ما تكون الفكرة مكتنفة بالغموض بحيث تحفز المتلقي على إعمال فكره وخياله ليستنبط المفهوم الكامن وراء العمل.

كما أن الفنان المفاهيمي يتمتع بفضاء واسع من الحرية حيث أنه متحرر بشكل كامل من المهارة الحرفية وله أن يختار أي وسيط مناسب لعمله الفني، وهو بذلك يكون قد تخلى طوعا عن كل القيم الجمالية المتعارف عليها وغير بشكل جذري المفهوم العام للعمل الفني التشكيلي.

نشأة المفاهيمية

حسب رأي معظم نقاد الفن فإن أول عمل فني مفاهيمي بالمعنى المتعارف عليه اليوم هو عمل الفنان السريالي البلجيكي رينيه ماغريت المعنون بـ "هذا ليس غليونا". وفي الحقيقة أن معظم أعمال هذا الفنان تحمل بذور الفن المفاهيمي، وكذلك أعمال السرياليين بشكل عام كانت تدور في فلك هذا المبدأ، حيث كان الفنان السريالي يحمّل عمله الفني الكثير من الرموز ويعمد إلى تغيير الأشكال المتعارف عليها ليعطيها بعدا فكريا ومفهوما جديدا.

فن
لوحة (هذا ليس غليونا) للفنان رينيه ماغريت

أول ظهور لهذا المصطلح كان عام 1969 حيث ارتبط بالمعرض الذي أقيم في متحف ليفركوزن بألمانيا تحت عنوان (مفهوم)، ثم أقيمت فيما بعد عدة معارض في عدد من الدول الأوربية والمدن الأميركية شارك فيها العديد من الفنانين الذين يتبنون هذه الفكرة وهذا التيار الجديد. ولعل الفنان جوزيف كوسوث وروبيرت موريس يعتبران الأكثر شهرة من بين رواد هذا التيار الفني.

مفاهيم
عمل مفاهيمي للفنان جوزيف كوسوث بعنوان (كرسي وثلاثة كراسي) حيث نشاهد كرسي حقيقي وخلفه صورة لنفس الكرسي وصورة مطبوع عليها المعنى اللغوي للكرسي بحسب القاموس

وإذا أردنا تلخيص عوامل نشأة الفن المفاهيمي، فإننا نستطيع القول بأن نشوءه جاء كردة فعل على الحربين العالميتين الأولى والثانية والتطور التكنولوجي المرافق لهما، كما أنه امتداد لحركات فنية ابتداء من الدادائية في مطلع القرن الماضي إلى السريالية وصولا إلى الدادائية الجديدة وفن البوب في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

وتضمن الفن المفاهيمي العديد من الممارسات وأصبح له الكثير من الاتجاهات كفن الأرض وفن اللغة وفن الجسد وغيرها الكثير. وقد سعى الفنان إلى الابتعاد عن الفن التقليدي واستبدل اللوحة والتمثال بالصور الفوتوغرافية وشرائط الفيديو والوثائق المكتوبة أو المطبوعة والخرائط وأجساد الفنانين أنفسهم على اعتبار أن الأفكار والمفاهيم هي الهدف من العمل الفني وهي المضمون الخالص للفن، أما أدواته فهي أي شيء يحقق هذا الهدف.

فني
عمل للفنان المفاهيمي لورانس وينر

هذا التغيير الجذري لمفهوم الفن والبعد الفلسفي الجديد كليا على الساحة الفكرية للفن التشكيلي مع التنوع الهائل للوسائط الفنية التي لا حصر لها، أدى إلى تضخم كبير جدا في النتاج الفني وفي عدد الفنانين المتبنين لهذا التيار. كل ذلك أدى بطبيعة الحال إلى اتساع الفجوة بين الفنان والمتلقي العادي الذي لم يعد يستطيع مواكبة هذا التطور المتسارع في عملية إنتاج الفن، خاصة وأن النقد المرافق لفن ما بعد الحداثة لا يقل غموضا من الناحية الفلسفية عن العمل الفني ذاته. من ناحية أخرى فإن الرمزية التي يحملها العمل الفني والمفهوم المتضمن فيه، لا يحتمل نفس الاستجابة الجمالية لدى المتلقين، حيث أن ذوق كل شخص يخضع لمؤثرات عائدة على بيئته وثقافته وفلسفته الخاصة.

من ناحية أخرى، فإن هذه الثورة في تغيير مفهوم الفن وفلسفته وأدواته أدى بطبيعة الحال إلى ظهور كمّ من الأعمال المفرغة من مضمونها والغريبة في طريقة تنفيذها والشاذة في فكرتها، استنادا على ميوعة تعريف ما هو جميل وما هو فني، وكثرة اللغط في المصطلحات الفنية.

تم استغلال هذا الواقع استهلاكيا على أكمل وجه، حيث عمد الكثير من المشتغلين والمنتفعين من سوق الفن إلى إثارة الزوبعات الإعلامية واستثارة الجمهور والنقاد لرفع القيمة المادية لمثل تلك الأعمال، وقد وصل الاستسهال في التعاطي مع الفنون والاستخفاف بعقول الناس حدا لم يكن لأحد أن يتوقعه، بل يمكن وصفه بالعبث الخالص إن شئنا. فعلى سبيل المثال، أقامت غاليري شولبيرغ في نيويورك عام 2014 معرضاً للفنانة لانا نيوستورم، وكانت جميع الأعمال في هذا المعرض عبارة عن لوحات فارغة تماما ولا تحتوي على أي رسم! والأغرب من ذلك أنها باعت أربع لوحات بسعر مليون دولار لكل واحدة منها، حيث تلخّصت فكرتها حينذاك بأن على المشاهد أن يعمل خياله ويتصور على اللوحة البيضاء ما يحلو له!

الأمثلة على مثل تلك الشطحات المجنونة ليست بالقليلة أبدا، وما موزة كاتيلان إلا نموذجا عن ذلك العبث الذي بدأه دوشامب ساخطا وساخرا.

لا شك بأن الفن المفاهيمي له بعده الفكري والفلسفي، وهناك مجموعة من الأعمال التي تتسم بعمق المعنى وتحمل من الرمزية ما يحفز فكر المشاهد بطريقة طرح ذكية وناقدة، ولكن لا بد من وضع حد لهذا الاستهزاء بالفن استنادا إلى معمّيات فلسفية عقيمة انحدرت بفن الشكل إلى الحضيض بكل معنى الكلمة.