icon
التغطية الحية

بين "العصبوية" و"الذهنيّة المدنيّة".. الإسلام بين مكة والمدينة (ج1)

2021.05.30 | 09:07 دمشق

بين "العصبوية" و"الذهنيّة المدنيّة".. الإسلام بين مكة والمدينة (ج1)
لوحة تخيلية عن مكة قديماً (المصدر/wikimapia)
أحمد طلب الناصر
+A
حجم الخط
-A

مصطلح "الذهْـنيَّـة"، بمفهومه الاجتماعي، حديثٌ نسبياً، ويعبر عن طريقة تفكير مستمدّة من معتقدات أو أفكار أو عادات أو ثقافات مكتسبة.. تميّزُ مجتمعًا عن آخر أو جماعة بشرية عن اخرى، كأن نقول: "ذهنية فنية.. أدبية.. عاطفية"، أو "ذهنيّة عرقية" أي تتبع لنمط تفكير عرقي/ عنصري، كالنازية مثلاً، أو "ذهنية طائفية" ذات طابع ديني طائفي ومذهبي متشدّد، وأمثلتها عديدة داخل غالبية مجتمعات ما يُطلق عليه "العالم الثالث".

الحالة تنطبق على الأفراد أيضاً، كأن نقول: فلان له ذهنية فنّان، أو رياضي، أو تاجر.. إلخ. ومردّها نمط تفكير الشخص، أو ميوله، ونظرته إلى الأمور من زاويته الخاصة.

من هنا تأتي عبارة "الذهنية المدنيّة" للدلالة على نهج حضاري متطوّر ومتنوّع اجتماعياً، ويتصف بالتعددية الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعمرانية والدينية.. إلخ؛ وهي بذلك تناقض حالة "الذهنية العصبوية/ البدائيّة" وما ينضوي تحتها من أنماط اجتماعية محدودة نسبياً، تسودها حالات العنصرية والطائفية والعرقية والعشائرية وغيرها من الأنماط الفئوية المنغلقة والمتشددة.

وتشكّل "المدينة" الوحدة الصغرى لحالة المجتمع المتمدن/ المدني الذي أفرزها، وليس العكس. فالأنماط الاجتماعية المتنوعة وتطورها الحضاري، هي التي أفرزت النموذج الفكري المدني، الذي أوجد بدوره هيئات ومؤسسات ونشاطات شكّلت النواة الرئيسة لنشوء المدن والدول والإمبراطوريات عبر التاريخ.

ومما سبق، فإن تصنيف (المدينة) المرتبط بالحجم والاتساع وتعداد السكان –بحسب التقسيمات الإدارية المعاصرة- يختلف عن مفهوم جوهر "الذهنية المدنية"؛ إذ ليس بالضرورة أن تفرز المدينة (وفق تلك التقسيمات) نماذج اجتماعية إيجابية أو حضارية بالمطلق؛ فكثيرة هي مجتمعات المدن التي سيطرت عليها أنماطٌ ذهنية متخلفة ومتشددة، سواء أكانت قبلية أو طائفية أو اثنية، فتكون بعيدة كل البعد عن الذهنية المدنية. والأمثلة على تلك الأنماط السلبية كثيرة ومعروفة، وتنتشر بكثرة داخل مجتمعاتنا العربية.

وانطلاقاً من مفهوم الذهنية، بصورتيها المدنية والبدائية، تبرز أهمية استحضار التجربة التاريخية- الاجتماعية، لكل من "مكّة" و"يثرب/ المدينة"، في محاولة لفهم حقيقة المراحل الدقيقة السابقة للرسالة، وما أفرزته لاحقاً خلال سنوات الدعوة التي شكّلت المنطقتان نواتها الأولى، وخاتمة كتابها وتشريعاتها، ومنطلق حضارتها الإسلامية السامية التي عمت أصقاع العالم القديم قروناً طويلة من الزمن.

أولاً- مكة ويثرب - نظرة على التاريخ الاجتماعي واختلافاته

  1. النشوء والتطوّر التاريخي:

المصادر التي تتناول النشوء التاريخي لمكّة تعتمد أغلبها على أيات القرآن الكريم والمرويات المستندة على تلك الآيات.

البعض يُرجِع نشوءها للنبي (آدم)، استناداً للآية الكريمة: "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ" “آل عمران:96”، والبعض الأخر إلى النبي (نوح) بعد انحسار الطوفان. إلا أن أكثر المصادر ترجعه للنبي إبراهيم الذي رفع الكعبة في مكانها، وسط مدينة مكّة اليوم بالقرب من بئر زمزم.

حصل ذلك بعد أنْ أوحى الله لإبراهيم وابنه إسماعيل أن يُقِيما بناء البيت: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا. إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" “البقرة:124”.

ويروى عن النبي إبراهيم بأنه قَدَم من جنوب أرض العراق، من مدينة "أور" الكلدانية (بحسب المصادر التاريخية التي تستند في معلومتها على رواية التوراة)، وبمعزل عن صحة انحداره من "أور" أم لا، فمن المعروف أنه انطلق في رحلةٍ طويلة ليصل أرض فلسطين، ومن ثم نزل في إحدى رحلاته بمكة المكرَّمة، ترافقه زوجته (هاجر) وولدهما (إسماعيل)؛ حيث أسكنهما عند بيت الله الحرام/ الكعبة.

ولأن البقعة التي أسكن إبراهيم فيها زوجته وابنه صحراء قاحلة مجدبة، فقد استجاب الله عزّ وجلّ لنداء نبيّه حين دعاه: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (إبراهيم:37)، فبدأت تفد إليها، شيئاً فشيئاً، قبائل من البدو الرحّل بعد انفجار نبع "زمزم" ثم بعد رفع قواعد البيت الحرام. ويذكر "ياقوت الحموي" في كتابه "معجم البلدان"[1] بأن (جِرهم)، وهي من قبائل "العماليق" كانت أول من سكنت الوادي بعد أن استأذنت هاجر بنقل خيامهم والإقامة بقرب البيت والنبع، فكان لهم ذلك. ويضيف الحموي بأنهم من أطلقوا تسمية "بكّة" على المكان، وتعني “البيت” في اللغة البابلية، وحين شَبّ إسماعيل تزوج فتاة من قبيلة جرهم.

وتخلو المصادر التي تتحدث عن مكّة والتغيرات التي طرأت عليها خلال الفترات اللاحقة إلا من خبر يذكره المؤرخ "البلاذري" ويعلّق من خلاله أن ذرية إسماعيل تفرقوا بعد وفاته بزمن، فيقول”[2]“: "غلبت جرهم على البيت فكانوا ولاته وقوامه ما شاء الله، وتفرق ولد إسماعيل من العرب بتهامة، وفي البوادي والنواحي إلا من أقام حول مكة من ولد نزار، تبركًا بالبيت".

مكة وقصي بن كلاب

اتفق العديد من المؤرخين على أن مكّة غدت مأهولة بعهد "قصي بن كلاب"، حيث شهدت توسِعة كبيرة، وعُني بتنظيمها خير عناية، حتّى أضحت في زمانه (مدينةً) عامرة مستطيلة المساحة ذات شعاب واسعة.

وقصي بن كلاب هو الجدّ الخامس للرسول محمّد عليه الصلاة والسلام، أبوه مرَّة بن كعب بن لؤي، ولا يوجد تاريخ لمولده أو وفاته، لذا يرجّح البعض بأنه عاش خلال القرن الخامس الميلادي كون الفاصل بينه وبين حفيده النبي خمسة أجيال.

وكان قصي الزعيم الفعلي لـ "قريش" في عصره وكبيرها في مكَّة، حيث جمع قبائلها بمكة، واستَعان بكنانة وقضاعة في قتال جرهم وخُزاعة، وانتصر عليهما وأخرجهما من مكَّة؛ ليصبح سيّدها، وكانت له "الحجابة" و"السّقاية" و"الرّفادة" و"النَّدوة" و"اللِّواء"“[3]“. وسيأتي ذكر تلك المهام في معرض الحديث عن المجتمع المكّي.

مكة ومسمياتها

اكتسبت مكة خلال مراحل تاريخها العديد من الأسماء، أغلبها مذكور في القرآن الكريم. وبالإضافة إلى اسمها الأول المذكور سالفاً، ونقصد "بكة"، هناك أسماء أخرى:

سمّاها الله عز وجل "أمِّ القرى"، فقال: "وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا" (الأنعام:92).

 وسمَّاها "البلد، البلد الأمين": "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ" (التين:1- 3).

وقال تعالى: "لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ" (البلد: 1- 2).

وقوله أيضاً: "وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ" (الحج: 29)، و: "جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ" (المائدة: 97).

 وقوله على لسان إبراهيم عليه السلام: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ" (إبراهيم: 35).

وكذلك ورد في الآية الكريمة التي سبق ذكرها في معرض دعاء إبراهيم حين وصفها بـ "وادٍ غير ذي زرع".

ويعتقد البعض أن اسم "مكَّة" كان يُعرف باسم "مكرب" أي (مقدَّس)، ثم تحوَّل لاحقاً ليصبح مكَّة.

بالإضافة إلى أسماء مكة الواردة في القرآن، توجد أسماء أخرى اكتسبتها عبر تاريخها من خلال أهلها والقبائل والبلاد المحيطة بها. ومن تلك الأسماء على سبيل المثال:

 "أم رحم"، و"الحاطمة"، و"الرأس"، و"الحرَم الأمين"، و"القرية"، و"الوادي"، و"البلدة"، و"معاد"، و"صلاح"، و"العرش"، و"القادس"، و"الناسة"  و"الباسة" ([4]).

ومن خلال استعراض تاريخ نشوء مكّة ومسمياتها العديدة التي وردت في القرآن الكريم والمصادر التاريخية، يتبيّن أن نشوءها، كمكان للمُقام، ظهر بشكل مفاجئ، بالتوازي مع رفع الكعبة وتدفّق نبع زمزم وسط منخفض في أرض قاحلة لم يكن ليسمح بتكوين (مدينة) في ذلك الحين. بل شكّلت العوامل والظروف المحيطة بها، مكاناً أقرب ما يكون للواحة التي يلجأ إليها قبائل البدو الرحّل، أو تُشكَّل بقربها تجمعات صغيرة  ما تلبث أن تنتقل إلى أماكن يتوفر فيها الزرع والكلأ وحاجات المعيشة الأخرى بمجرد الانتهاء من فترة الراحة والتزوّد بالمياه.

القرية والمدينة ودلالاتها في القرآن

بالعودة إلى الأسماء التي اقترنت بمكّة عبر عصورها، نلاحظ أن أياً من تلك التسميات لم يأت على توصيف "مدينة"، على الرغم من ورود الكلمة –المدينة- كصفة للعديد من الأماكن الجغرافيّة الأخرى في سور القرآن.

تدل كلمة "مدينة" في القرآن الكريم على تجمّع سكاني اكتسب الصفة المدنية نتيجة توفّر وتظافر عوامل تاريخية حضارية، وجغرافية وبيئية، أفرزت ذلك المجتمع "المديني" الذي شكّل بدوره مؤسسات تخضع لمعايير فكرية وسياسية وعمرانية

وحين ترد كلمة "مدينة" في آية من الآيات فهي تدلّ بدقّة على تجمّع سكاني اكتسب الصفة المدنية نتيجة توفّر وتظافر عوامل تاريخية حضارية، وجغرافية وبيئية، أفرزت ذلك المجتمع "المديني"، والذي شكّل بدوره مؤسسات تخضع لمعايير (فكرية وسياسية وعمرانية.. إلخ)، واضحة المعالم، سبق وذكرناها.

كما وأن "المدينة" في القرآن الكريم دائماً ما يقترن ذكرها بجوانب تعدّدية مرتبطة بتنوّع سكّاني، سواء من النواحي الدينية أو الأخلاقية أو الفكرية أو العرقية، التي تشكّل أركاناً رئيسةً من أركان التمدن والحضارة منذ ما قبل بزوغ الإسلام.

ومن الأمثلة على ذكر "المدينة" في القرآن الكريم:

  • قوله تعالى: "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" (يس:20).
  • وفي سورة يوسف نلاحظ أن نساء (المدينة) يخالفن "زوجة العزيز" في اتهامها: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ" (يوسف:30).
  • وفي سورة الكهف حين يقوم "العبد الصالح" المرافق للنبي موسى، بإصلاح الجدار كُرمى لوالد اليتيمين الذي كان صالحاً قبل وفاته: "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ" (الكهف:82)

وبالعودة لتوصيف مكة، فلربما يسأل سائل حول وصفها بـ "البلد"، والشائع في ثقافتنا العامة أن "البلد" أكبر من المدينة أو يساويها في التقييم، وهذا بعيد عن الصواب.

فمسمّى "البلد- البلدة" يرد في القرآن الكريم بوصفه: مكاناً مخصّصاً لجماعات أو مجموعات من ذات البيئة والنوع والمكوّن. ويسمَّى المكان الواسع من الأرض بلداً([5])، فسميت "المفازة" بلدًا على سبيل المثال، لكونها موطن الوحوش، والمقبرة بلدًا لكونها موطنًا للأموات([6]) وهلم جرّا. 

والأمثلة على ذكر "البلد" ما جاء في قوله عز وجل: "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّه وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا" (الأعراف:58)، ويأتي البلد هنا بمعنى أرض زراعية أو حقل، إما أن يكون ذو تربة طيبة أو سبخ.

وورد ذكر "البلد" أيضاً ليحمل صفات متفاوتة، إيجابية منها وسلبية، كقوله تعالى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَاد" (آل عمران:196).

وقوله عز وجل: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ" (الفجر:6-7)

"الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ" (الفجر:19-20).

ولكن الله تعالى أطلق على مكّة لقب "أم القرى" كما جاء في الآية: "وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ" (الأنعام:92)، فما دلالات هذه التسمية؟

وردت بعض التفسيرات حول معنى أم القرى، نعرض من بينها أكثر ما اتفق عليه، ومنها ما جاء عند الطبري الذي أرجع السبب إلى "أنها أول بيت وضع بها"[7]. وأضاف البعض على التفسير الأول بأن مكة تعتبر قبلة القرى (التجمعات) المحيطة بها والتي تتجه صوبها للحج والعبادة لذلك أضحت أمّ الأمم المحيطة بها[8].

ومهما يكن من تفاسير تتعلّق بالمعنى اللغوي للتسمية، وهي متقاربة بالمجمل، إلا أن أكثر ما يثير التساؤل هنا هو دلالة تسمية "قرية- قرى" حين ترد بصيغتها المفردة دون سبقها بـ "أم"، في سور القرآن الكريم.

 إذ أن هذه التسمية، وقد وردت عشرات المرات في القرآن، دائماً ما تأتي مرتبطة بتجمّعات سكانية ذات توجّه فكري وسلوكي وأخلاقي واحد، بعكس ما اشتمل عليه مفهوم المدينة في القرآن؛ وغالباً ما حملت "القرية" مدلولاً سلبياً في آيات القرآن، كأن يجتمع أهلها على الكفر أو المعصية أو الكراهية أو العدوان وهلم جرّا، فيكون مصيرهم الهلاك دنيوياً وحساب عسير في الآخرة. ومن الآيات الكريمة التي أتت على ذكر "القرية" ومدلولاتها:

قال تعالى: "وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ" (4:الأعراف)

وقوله: "وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا" (58: القصص)، وأيضاً: "وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ" (34: سبإ)، وقوله عز وجل: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (96: الأعراف).

وبذلك يكون مدلول القرية في القرآن الكريم يختلف عن مفهوم المدينة ويناقضه بالمطلق. ولربما يكون المقصود من لفظ "أم القرى" معنىً مغايراً ومختلفاً لمعنى "القرية- القرى" العام، رغم أن البعض يصرّ على أن من بين أسماء مكة العديدة مسمى "قرية"، ولا نظنّ بأن أرض (بيت الله الحرام) تشابه، بمدلولاتها، بقية القرى المذكورة بالقرآن، أو لربما سمّيت كذلك نتيجة اجتماع أهلها على الشرك قبل الرسالة أو الفتح، وتدنيسهم لحرمة البيت بوضع الأصنام.

ورغم ذلك، فإن الله عز وجل، خصَّ تلك البقعة، التي بني عليها بيته الحرام –مكة- بـ (الأمان)، من خلال قوله: "وهذا البلد الأمين"؛ وسورة "التين" التي احتوت على هذه الآية سبقت([9]) "الأنعام" التي ورد فيها ذكر "أم القرى"! وكلتاهما مكيتان.

ولتبيان الدليل الأقرب والمباشر للاختلاف الشاسع بين مفهومي "المدينة" و"القرية"، نضرب المثالين التاليين:

في القصة التي روتها سورة الكهف، والتي تتناول لقاء النبي موسى مع الرجل الذي خصّه الله بالمعرفة والحكمة (الخضر بحسب شفوياتنا)، يقول تعالى: "فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ". ولدى متابعة سياق القصة نرى أن "القرية" استبدلت بـ "المدينة": "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا". رغم أن القصة واضحة تمام الوضوح وتتحدث عن مكان واحد فقط. في الأولى تم ربط مفهوم القرية بأهلها العُصاة، أما حين جاء ذكر الغلامين اليتيمين وأبوهما الذي كان صالحاً، فقد تحوّل المفهوم إلى "مدينة" نظراً لوجود حالة اختلاف وتعددية، تحمل الوجهين السلبي والإيجابي، أهلٌ بخلاء وأب صالح.

 المثال الثاني: قوله سبحانه في سورة يس: 13/14: "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا.."، ثم قال عنها في الآية 20: "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ". فالآية الأولى تظهر القرية وكفر أهلها، وفي الثانية يتحوّل المكان إلى "مدينة" بمجرد ظهور الرجل المؤمن الناصح، المخالف للحالة الأولى.

من خلال الاختلاف بين المدلولين، يبين الله عز وجل الفرق بين مفهوم الحالة المدنية، كنمط أخلاقي- ديني متنوّع مخالف تماماً للمفهوم المرتبط بلفظ القرية؛ أي، وبمعنى أدقّ: ليبيّن لنا الفرق بين "الذهنية المدنية" التعددية و"الذهنية البدائية/ العصبوية" أحادية التوجّه، وليس الفرق بين حجمين أو موقعين جغرافيين مختلفين، فالمنطقة التي أُطلق عليها مسمى القرية هي نفسها التي وصفها بـ المدينة، كما ورد في المثالين.

****       ****

يثرب/ المدينة المنورة

 يثرب، الاسم القديم للمدينة المنورة قبل الهجرة، ذُكر اسمها في نقوش بابلية- كلدانية، وكتابات يونانية ورومانية وسريانية.

وورد الاسم لأول مرة في التاريخ في نقش للملك الكلداني (نابونيد) أواسط القرن السادس قبل الميلاد، يمجّد من خلاله حروبه في وانتصاراته في الحجاز حين قرر الاستيلاء على عواصم الطرق التجارية وقتذاك؛ فجاء اسمها "أتريبو"؛ وبطبيعة الحال فإن المدينة قد نشأت قبل ذلك التاريخ بعهود طويلة([10]).

وورد الاسم في مؤلفات الرحالة "بطليموس" اليوناني بصيغة "يثربا" (yathripa) في القرن الثاني قبل الميلاد. وكذلك في كتاب "اسطفان" البيزنطي بنفس الاسم، يثرب  (yathrip). وظهر اسمها أيضاً في نقش على عمود حجري بمدينة حران "إتربو"، (itribo).([11])

ولا يوجد معنى مؤكد للتسمية، فقال البعض بأنه يعود لشخص اسمه "يثرب بن قانية" أول من سكن بها بعد الطوفان وتفرّق البشر([12])؛ إلا أن هذه التسمية تبقى في خانة الفرضية والتخيّلات.

نلاحظ مما سبق، أن الأهمية التاريخية لـ "يثرب" تبرز من خلال ذكرها في نصوص الدول والامبراطوريات الكبرى التي عاصرتها، ما يجعلنا نتساءل جدياً عن الدور الحضاري المتقدّم الذي لعبته في المنطقة، لتقوم تلك الدول العظمى بتخليد ذكراها في ألواحها وكتبها وخرائطها الجغرافية.

وعلى العموم، تكفي تلك المؤشرات للقول بأن المدينة تبوأت مكانها كإحدى الحضارات المدنية في الشرق القديم، ما جعلها تنافس الدولة البابلية الحديثة (الكلدانية) تجارياً وسياسياً، الشيء الذي دفع آخر ملوك بابل "نابونيد" لتخليد انتصاره واستيلائه على طرقها التجارية، كما ورد آنفاً.

يثرب/ المدينة، ومسمياتها

في القرآن الكريم، ورد اسم يثرب في أكثر من موضع، منها قوله تعالى، في ذكره لطائفة المنافقين: "وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم" (سورة الأحزاب:13).

وورد اسمها الحديث "المدينة" ثلاث مرات، الأولى في قوله تعالى: "وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق" (سورة التوبة:101).

والثانية في قوله عز وجل: "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم أن يتخلفوا عن رسول الله" (التوبة:120).

والثالثة: "يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" (المنافقون:8).

وكما هو واضح لنا، فإن القرآن لم يصفها إلا بالمدينة؛ والسبب، بحسب الدلالة القرآنية لـ "المدينة"، يكمن في التنوّع السكاني واختلاف توجهاتهم الفكرية والسلوكية والأخلاقية، إذ نجد فيها المسلمين واليهود والمنافقين، بالإضافة إلى تنوّع الأنشطة الاقتصادية من صناعة وزراعة، فضلاً عن التجارة بالتأكيد.

ويتبيّن لنا أن ورود ذكر المدينة/ يثرب في القرآن الكريم معاصر لمرحلة الدعوة في المدينة المنورة، بعكس مكّة التي لم يرد ذكرها كـ "مدينة" في القرآن، عبر مراحل تاريخية متفاوتة في القدم وكذلك خلال المرحلة المعاصرة للإسلام، وإن كان قد تمت الإشارة إليها بأسماء مختلفة عن اسمها المعروف، مثل: بكة، البلد، أم القرى، البيت العتيق.. إلخ؛ بخلاف ما ورد من ذكرٍ صريح لاسم "يثرب/ المدينة".

بعد القرآن الكريم، نأتي إلى نصوص الحديث. فقد ورد ذكر المدينة في الأحاديث النبوية الشريفة، وذِكر أهلها، والكثير من التفاصيل المتعلقة بها، بصورة طغت على ذكر أي بقعة أخرى وأهلها، طوال الفترة المحصورة بين الهجرة ووفاة النبي (ص) فيها.

والمعروف بأن أول عمل قام به المسلمون لدى وصول الرسول (ص) إليها أن أطلقوا عليها مسمى "المدينة المنورة" بدل اسمها القديم الذي نهى الرسول عن تداوله، فقال: "من قال للمدينة (يثرب) فليستغفر الله"([13]).

كما سماها الرسول بأسماء أخرى، في عدد من الأحاديث. وتمتاز تلك الأسماء عن جميع أسماء أماكن المدن الأخرى من حيث الدلالة والأهمية والمكانة الكبيرة التي حازتها داخل عاطفة النبي لدرجة طغت على مدينته الأم، مكة.

ومن تلك الأسماء: طيبة. العذراء. الجابرة. المحببة. الناجيّة. آكلة البلدان. المحفوفة. المحفوظة. البارّة. الحسيبة. الخيرة. دار الأبرار. دار الأخيار. ذات الأحرار. ذات النخيل. دار الهجرة. دار السنة. العاصمة. المرزوقة. المحرمة. القاصمة. الشافيّة. المختارة. المدينة.

****    ****    ****

  1. المكوّن الاجتماعي المكّي والتفاوت الذهني:

ارتبط اسم مكّة، اجتماعياً، بـ "قريش"، وهو اسم النسب الذي يرجع إليه أهل مكّة وقبائلها وأعلامها، وعلى رأسهم بالطبع الرسول الكريم "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب".

فماذا يعني مسمّى "قريش"؟ وكيف ارتبط هذا الاسم بمكة ليغدو سيدها بدون منازع؟

يقول المؤرخ وعالم الاجتماع "ابن خلدون": "النضر" هو الذي يسمى قريشًا. وإنما انتسبوا إلى "فهر" لأن عقب النضر منحصر فيه، لم يعقب من بني النضر غيره، فهذا وجه القول بأن قريشًا من بني فهر بن مالك.. أعني انحصار نسبهم فيه، وأما الذي اسمه قريش فهو النضر([14]).

وذكر "القلقشندي" معنى قريش، فذكر: "روي عن ابن عباس أن "النضر" كان في سفينة فطلعت عليهم دابة من دواب البحر يقال لها "قريش" فخافها أهل السفينة فرماها بسهم فقتلها وقطع رأسها وحملها معه إلى مكة. وقيل لغلبة قريش وقهرهم سائر القبائل كما تقهر هذه الدابة سائر دواب البحر وتأكلها وقيل أخذًا من "التقريش" وهو التجميع سموا بذلك لاجتماعهم بعد تفرقهم وقيل "لقرشهم" عن حاجة المحتاج وسد خلته وقيل من "التقاريش" وهو التجارة.[15]

أما ابن إسحاق وابن حزم وابن هشام وغيرهم فيذكرون أن قريشاً هو "فهر"، حفيد "النضر"، وأوردوا نسبه في مؤلفاتهم.
وعلى أية حال، يتفق المؤرخون على أن قريشاً مجرد لقب لرجل، سواء أكان "النضر" أو حفيده "فهر"، وبمعزل عن سبب تلقيبه بـ "قريش" الذي تشوبه الكثير من الأساطير والتكهنات -وأغلب الظن أنه مقرون بمفهوم "التقريش" والتجارة-، نستعرض البطون التي تفرعت عن قريش لتتربع على عرش مكة في نهاية المطاف.

وعلى افتراض أن قريش هو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فإن أشهر قبائل قريش وبطونها هي: جمح، وسهم، وعدي، ومخزوم، وتيم، وزهرة، وبطون قصي بن كلاب، وهي: عبد الدار، وأسد بن عبد العزى، وعبد مناف .

وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس، و نوفل، والمطلب، وهاشم، وهو الجد الثاني للرسول محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم([16]). أما عبد الدار فخرج منها بطن بنو أمية التي ينتمي لرجالاتها أبو سفيان وعثمان بن عفان..

ويعود نسب قريش عموماً إلى "عدنان" من ذرية النبي إسماعيل، وهو الجد الحادي والعشرون للرسول صلى الله عليه وسلم.

قصي وسيادة مكة

سبق قريش في زعامة مكة وسدانة كعبتها كل من قبيلة "جرهم" و"خزاعة" التي استمرت بتزعمها إلى أن انتزعها منهم "قصي بن كلاب" أواسط القرن الخامس الميلادي. وتفتقر المصادر للتفاصيل المتعلّقة بالوضع الاجتماعي الذي كان سائداً قبل وصول قصي إلى مكة.

أمّا قصي، واسمه "زيد"، وسمي قصي لأن أمه تقصّت به إلى الشام([17]) بعد ولادته بمدة بسيطة. وعاش في كنف قضاعة إلى أن شبّ وقوي عوده، فخرج من ديارهم بعد عيّره أحد أفراد القبيلة بأنه ليس منهم، فقرّر السفر والعودة إلى مكّة برفقة حجيج القبيلة. فأقام في مكة بعد الحج، وشيئاً فشيئاً ارتفع شأنه بين أهلها، فتزوج ابنة "حُليل" زعيم خزاعة.

مات حُليل بعد فترة وجيزة من زواج قصي من ابنته، وكان قد سلّمه مفاتيح الكعبة قبل ذلك الوقت قائلاً: "أنت أولى بالكعبة، وبالقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر"([18]). ولأن حليل لم يكن له أولاد فقد آلت الأمور لقصي بن كلاب من بعده؛ ليبدأ منذ ذلك الوقت عهد قريش وسيادتها في مكة.

دارت حرب ضروس بين قصي وبطون قريش وحلفائه من قبيلة قضاعة من طرف، وبين قبيلتي خزاعة وبكر من الطرف الآخر؛ وكان قصي قد أعلن الحرب عليهم لإخراجهم من مكّة بعد أن استتب له أمر إدارتها، ولتوزيع مهام الإشراف عليها بين بطون قريش، عشيرته.

وبعد سقوط العديد من القتلى بين الطرفين طلبوا رجلاً من رجالات العرب ليحكم بينهم ويوقف القتال؛ فقضى أن تكون إدارة مكة والكعبة لقصي.
تولى قصي البيت وأمر مكة دون منازع ينازعه، وجمع قومه، بطون قريش، داخل مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، فكان قصي أول ملك على مكة. ثم قطّع أرض مكة بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها([19]).

إصلاحات قصي

أصلح قصي العديد من المرافق داخل مكّة، وعمل على تنظيمها. فأصلح بئر "زمزم" بعد أن أهمل منذ أيام "جرهم"، حيث زاد من أحواض الماء ليشرب منها الحجاج وأهل مكة. كما وزّع المهام المنوطة بالكعبة وموسم الحج (الرفادة والحجابة والسقاية..) بينه وبين أبنائه.

وشيّد قصي دار "النَّدوة" لتصبح داراً للتشاور وناديًا لقريش، بها يتشاورون في أمورهم، ويزوجون بناتهم، وكان لا يُسمح بدخولها إلا لمن بلغ الأربعين. وكان مقرها في بيته، يعقد فيها كل أمر عظيم؛ فلا تنكح امرأة رجل إلا في داره، ولا يعقد لواء حرب إلا في داره، ولا تلبس الجواري من بنات قريش الدروع - أي قمصانها - إذا بلغت المحيض إلا في داره ثم يُنطلق بها إلى أهلها؛ فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد وفاته، كالدين المتبع لا يعمل إلا به، واتخذ لنفسه دار الندوة التي جعل بابها إلى مسجد الكعبة، حيث كانت تقضي قريش فيها أمورها كلها([20]).

وأكثر ما يثير الاهتمام حول دار الندوة، هو إجماع أغلب المؤرخين على أنها أول دار بنيت بمكة المكرمة، ولم يكن قبلها بناء سوى الكعبة المعظمة. وكان سكان مكة قبل ذلك يدخلونها نهاراً ويخرجون منها ليلاً تعظيماً للبيت وشأنه. وهناك روايات أخرى تذكر بأن سكانها كانوا يقطنون في مضارب من الشعر الأسود، أو على سفوح الجبال المحيطة بالوادي؛ فكانوا ينزلون إليه نهاراً لزيارة الكعبة أو الطواف بها، أو للجلوس عند الكعبة لإدارة بعض شؤونهم.

توزيع بطون قريش

وبعد أن بنى قصي دار الندوة وأسكن قومه معه، في "بطاح" مكة وحول الكعبة –ومن هنا جاءت تسميتهم بـ قريش "البطاح"- كانوا بذلك أول من بنى مكة (البلدة) المحيطة بالكعبة المشرفة([21]). ومن هنا يُستدل على أن مكة لم تكن يوماً من الأيام مدينة أو حتى قرية صغيرة، حسب المفهوم العمراني والسكّاني للكلمتين، وإنما عبارة عن مكان للعبادة -الكعبة المشرفة- في واديها؛ ومنه يُستدل أيضاً على عدم ذكرها في القرآن الكريم بصيغة "مدينة" أو "قرية".

وأنزل قصي طائفة من بطون قريش ظواهر مكة فسموا "قريش الظواهر" بعد أن أنزل قبائل قريش السابقة "بطاح" مكة.

فأما قريش البطاح: فهم المسؤولون عن الحرم والحج، يعدّون أكثر تحضّراً من قريش الظواهر، لذا يسيطرون على الحج ويحمون الحرم، كما يسيطرون على طرق التجارة، والبطاح جميعهم من بطون "كعب بن لؤي" جد قصي بن كلاب.

وأما قريش الظواهر: فقد سكنت بظاهر مكة، حيث يعيشون على البداوة، ويغيرون على القوافل التجارية؛ لقلّة أموالهم، ولحاجتهم للطعام والكساء([22]).

ويتوزّع الموالي والرقيق بين البطاح والظواهر؛ ومنزلتهم في المجتمع دونية، مارسوا أعمالا مختلفة يترفع القرشيون وحلفاؤهم عن ممارستها، ومنها معظم الأعمال اليدوية. وتعود أصول أولئك الموالي والرقيق إلى بعض أقاليم الجزيرة العربية وأفريقيا وفارس والروم. ولاحقاً، بعد بدء الدعوة الإسلامية، برز أشخاص من هذه الطبقة الاجتماعية شكلوا أوائل الداخلين في الإسلام.

الإصلاحات وانعكاساتها على المجتمع المكي

دار الندوة: من الواضح أن النظام الذي اتبع في دار الندوة قـَبـَـليٌ في جوهره، وشكل امتداداً بصورة أو بأخرى لمجلس القبيلة مع بعض التطوير الذي أحدثته قريش نتيجة للازدهار التجاري والحضاري الذي شهدته مكة في ذلك العصر والذي تلاه.

مجتمع مكّة تألف من بطون عدة، لكل بطن زعيم يرأسه. وهؤلاء الزعماء هم أصحاب الحل والعقد فيها. وأغلب الاجتماعات التي عقدت في دار الندوة، قبل فتح مكة، كانت لأغراض الغزو والحرب والأعمال العدائية

ولم يكن في مكة حكومة مركزية تتبعها المؤسسات الإدارية –ضمن المفهوم المتعارف عليه اليوم ولو بصورة بدائية تناسب تلك الحقبة الزمنية- وكل ما في الأمر أن مجتمعها تألف من بطون عدة، لكل بطن زعيم يرأسه. وهؤلاء الزعماء هم أصحاب الحل والعقد فيها.

وأغلب الاجتماعات التي عقدت في دار الندوة، قبل فتح مكة، كانت لأغراض الغزو والحرب والأعمال العدائية. ففيها تم الإجماع على مقاطعة بني هاشم وطردهم خارج مكة حتى أنهكهم الجوع والفقر والمرض. وفيها أيضاً تم الاتفاق على اختيار رجال يمثلون القبائل، وإرسالهم في مهمة لاغتيال الرسول الكريم عشية هجرته إلى المدينة المنورة، ليضيع دمه بين القبائل.

إلا أن الدار شهدت أهم حلف حصل في تاريخها السابق للإسلام، ألا وهو "حلف الفضول" الذي أنهى حالة الحروب بين قبائل قريش، وامتدحه النبي لاحقاً، إذ عاصر انعقاده قبل نزول الرسالة.

بطون قريش: وبخصوص تقسيم بطون قريش بين "بطاح" و"ظواهر"، يتّضح أنه مستند بالكامل على نظام "العصبية القبلية" الذي كان سائداً، وكرّس حالة الانقسام الاجتماعي والطبقي بين شطري قريش، على الرغم من رغبة قصي في نقل مكة إلى نظام حكم (مركزي) إن صح التعبير، من خلال انتزاع الاعتراف من قبائلها بشرعية تزعمه لهم كملك أو رئيس -بحسب مفاهيم اليوم- أو بتعبير أخر: رغبته بنقل مكة إلى نظام "مديني" ربما عايشه واكتسب ثقافته خلال فترة وجوده بأرض الشام، قبيل عودته إلى مكة.

أغلب الظن أن قصيّاً أراد بخطوته في إبقاء بطون قريش الذين تربطهم به صلة الدم (أبناء كعب بن لؤي) في قلب مكّة، الاحتماء والاستقواء بهم، وليشكلوا سنده وبطانته الاجتماعية والسياسية داخل حدود الكيان الجديد الذي سعى لتشكيله. إلا أنه كرّس بذلك رابطة الدمّ القبليّة، بحيث أضحت مكّة أشبه بـ (مدينة قبليّة) إن صحّ التعبير، ظاهرها مديني وجوهرها عصبوي.

لذا، وعلى الرغم من الإصلاحات (المؤسساتية) التي أطلقها قصي داخل مكة، هيمن نظام العصبية القبلية على المناخ العام لمكّة واستمر إلى ما بعد الرسالة.

وبمقاربة سريعة، تذكرنا الآلية التي طبّقها قصيّ بما يحدث اليوم داخل الأنظمة الشمولية المعاصرة، حيث يقوم الحاكم بإحاطة نفسه بدائرة، عائلية كانت أو طائفية أو عشائرية، ضيّقة، يسلّمها إدارة مفاصل الدولة ومؤسساتها ليضمن ولاء أفرادها. لكن، ومع مرور الوقت، ستنشأ حالة من الاحتقان غالباً ما تتنامى لتتحول في نهاية المطاف إلى صراعات داخلية، سواء بين أقطاب تلك الدائرة أو بينهم وبين المحيطين بها.

هذا بالضبط ما حصل في مكة عقب وفاة قصي، إذ وقع نزاع بين بطونها نتج عنه تحالفان؛ فتحالف بنو عبد مناف وأسد وزهرة وتيم والحارث بن فهر، وتحالف بنو عبد الدار وبنو مخزوم وعديّ وجُمَح وسهم. ولم ينته النزاع إلى أن نشأ "حلف الفضول" الذي جمع الحلفين معاً.

المجتمع المكي لن يتمكن لاحقاً من إفراز نمط مديني، بسهولة ويسر، سواء كان في نظام الحكم أو داخل المجتمع، وظل بعيداً عن نمط "الذهنيّة المدنية" المنشودة؛ على الأقل خلال الفترة السابقة لفتح مكّة. أما بعد فتحها وما لحقه من اشتراك أبنائها في الفتوحات، واختلاطهم بمختلف الأمم والمجتمعات الأخرى؛ جعلهم يسهمون في بناء دولة استثنائية، نجحوا في إدارة شؤونها. ولعل المثال الأنسب في ذلك يتجلّى بـ"معاوية" و"عمرو بن العاص"، وكثيرين غيرهما، تمكنوا خلال سنوات معدودة من تأسيس نواة دولة حضارية متمدنة استمرت لقرون من الزمن.

****    ****    ****

المكوّن الاجتماعي في يثرب/ المدينة المنورة

أما يثرب، فسكنتها "الأوس" و"الخزرج"، وهما قبيلتان من قبائل "غسان بن الأزد" القحطانية الجنوبية، هاجرت من اليمن إبان انهيار "سد مأرب" لتستوطن المدينة.

وهذا السدّ يعود لمدينة "مأرب" عاصمة مملكة سبأ التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ضمن سورة تحمل اسمها. وذكر القرآن أيضاً سيل "العرم" الذي دمّر ذلك السدّ. يقول تعالى: "لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.." (سبأ:15- 16).

وبحسب علم الآثار والوثائق التاريخية، يرجع تاريخ بناء السدّ إلى القرن الـ8 قبل الميلاد، ويعتبر واحداً من العجائب الهندسية في العالم القديم وجزءًا أساسياً من الحضارة العربية الجنوبية التي سادت قبل وبعد ذلك التاريخ؛ تلك الحضارة التي وضعت أسسها مملكة "حِمْيَر"، ومملكة "سبأ" التي ينتمي إليها الأوس والخزرج، ومملكة "مَعين" .

أما نسبهم فهو كالآتي: الأوس، هم بنو الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن غسان بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.. وصولاً لـ قحطان.

والخزرج ، هم بنو الخزرج، شقيق الأوس، بن حارثة.. وصولاً لـ قحطان أيضاً.

إذن، الأوس والخزرج تنتميان أصلاً لحضارة عربية مدنيّة موغلة في القدم، ولم تكونا طارئتين على المدنية في يثرب؛ وهذا ما خلّد ذكر المدينة في وثائق ونقوش الدول والحضارات المجاورة، كما سبق وذكرنا حين تحدثنا عن تاريخ نشوء المدينة.

أما بطون القبيلتين فهي:

بطون الأوس: منهم بنو عوف والنبت والجعادرة وبنو جشم وبنو عبد الأشهل وبنو ظفر وبنو مالك وبنو زيد وبنو عامر وبنو خطمة.

بطون الخزرج: منهم بنو عوف أيضاً، وبنو زريق وبنو بياضة وبنو قوقل وبنو ساعدة وبنو خدرة وبنو حرام وبنو النجار وبنو الحسحاس وبنو مازن وبنو عمرو وبنو العجلان وبنو سالم وبنو طريف وبنو مالك وبنو عدي وبنو يزيد وبنو سلمة.([23])

وكان الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، يقول ابن خلدون: "ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر([24]).

 

/يتبع في الجزء الثاني- مكة والمدينة في عصر الإسلام/

 


 

المراجع:

[1] - ياقوت الحموي، "معجم البلدان"، تحقيق: فريد الجندي، ج5، بيروت: دار الكتب العلميَّة، د. ت، ص210

[2] - البلاذري- أحمد بن يحيى، جمل من أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكار، دار الفكر- دمشق، 1997، ج1- ص13.

[3] - السيد عبدالعزيز سالم، تاريخ العرب قبل الإسلام، الإسكندريَّة: مؤسَّسة شباب الجامعة، ص 314 - 316

[4] - شبكة الألوكة- نقلاُ عن صحيفة الدرعية، بحث بعنوان تاريخ مكة عبر العصور: http://soo.gd/dmsP

[5] - قاموس المعجم الوسيط: http://soo.gd/Rd8q.

[6] - المرجع السابق: http://soo.gd/xGmC

[7] - تفسير الطبري، نسخة إلكترونية: http://soo.gd/KusZ)

[8] - البيان القرآني، تفسير أم القرى: http://soo.gd/slov

[9] - محمد الطَّاهر بن عاشور، التحرير والتنوير: 30/419، موقع جمهرة العلوم: http://soo.gd/xnRb

[10] - عبد الحميد حسين حمود، تاريخ العرب قبل الإسلام، الدار الثقافية للنشر- القاهرة، 2006، ص169.

[11] - جواد علي، مفصّل تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الساقي- دمشق، 2001، 1/614.

[12] - ياقوت الحموي، المرجع السابق، 5/430

[13] - مسند الإمام أحمد 4/285).

[14] - ابن خلدون- عبد الرحمن، تاريخ ابن خلدون المسمى "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر.."، تونس، بيت الأفكار الدولية،  ج2، ص377.

[15] - أبو العباس القلقشندي- نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب – بيروت- دار الكتب العلمية- 1971- ص456.

[16] - جمهرة أنساب العرب، ابن حزم- علي بن محمد، بيروت، دار الكتب العلمية، 1998، ص9-17.

[17] - محمد بن سعد بن منيع الزهري، الطبقات الكبرى /طبقات ابن سعد/ ، مكتبة الخانجي- القاهرة، 2001، ج1 ص55.

[18] - الطبري-محمد بن جرير، تاريخ الطبري/ تاريخ الرسل والملوك، ت: محمد إبراهيم، دار المعارف- مصر، ج2 ص254-255- 257

[19] - ابن كثير- إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية، ت: بشار معروف، أوقاف قطر، 2016 ج2 ص605.

[20] - طبقات ابن سعد، المصدر السابق، ج1 ص57. وابن كثير، المصدر السابق، ج2 ص605

[21] - عدنان بن محمد بن فايز الحارثي، دراسة بعنوان "دار الندوة في الجاهلية والإسلام، 23/11/2007: http://soo.gd/a9pW

[22] - قبائل العرب قبل الإسلام- موقع إلكتروني: http://soo.gd/gVoN

[23] - النَسب والبطون في هذه الفقرة تم اقتباسها من شبكة المعرفة- الأوس والخزرج- http://soo.gd/YgtT.

[24] - ابن خلدون، المصدر السابق، 2/346.