icon
التغطية الحية

بين "الشعبوي" و"الشوارعي".. عن الحاجة إلى خطاب ثقافي سوري جديد

2021.11.25 | 09:17 دمشق

بين "الشعبوي" و"الشوارعي".. عن الحاجة إلى خطاب ثقافي سوري جديد
(اللوحة: وائل مرعب)
+A
حجم الخط
-A

أضرّت موجة وسائل التواصل الاجتماعي بالثقافة السورية بقدر ما أضرّ بها عهد الاستبداد الطويل. صحيح أنها أتاحت حرية التعبير، بعد أن كانت حكراً على من يسمّون أنفسهم بالمثقفين، مثقفي السلطة من جهة، ومثقفين معارضين لها مقموعين أصلاً وبأدوات عديدة، منها ما هو خارج عن إرادتهم بغيوم الحُكم السوداء التي تلبّدت بها سماء سوريا، ومنها ما هو نابع من سلسلة طويلة من الردع الذاتي والتحريم الفكري. إلا أنها قدّمت واقعاً غير الواقع وحقيقة أبعد ما تكون عن حقيقة الحالة السورية.

ولم يكن غريباً أن تشهد الأيام الأولى للثورة السورية انفتاح السلطة في سوريا على إتاحة الفيس بوك بعد أن كان محظوراً، فبدت وكأنها غير مكترثة به، وفي الواقع كان الهدف هو استثماره في صنع مشهد جديد قد يكون لوسائل التواصل الاجتماعي الدور الأبرز في جعله مشوّشاً مربكاً، بحيث يعتقد الناظر إليه أنه مشهد ثقافي فقير بالخلق والإبداع.

عقد كامل والثقافة السورية في ارتجاج كبير، لم تكن مشلولة كما يطيب للبعض أن يصمها، ولم تكن تائهة أو مشتتة كحال المعارضة وأحزابها والفصائل العسكرية وكتائبها. لم تذهب بعيداً في الخطوات النقابية التي سعت إليها، وسرعان ما ضرب التجريب والصراعات تلك التجمّعات. على أن هذا لم يمنع من أن أبهى ما قدّمه السوريون في سنواتهم العشر الماضيات كان ثقافة لا يمكن لأحد تجاهلها ولن يكون بوسع أحد محوها من التاريخ السوري في المستقبل.

ما زال نفطُ سوريا هو ثقافتها، إنتاجها الهائل والفريد الذي يحتل المراتب المتقدمة بين الشعوب العربية، ولم تزل قدرة السوريين على المزيد من هذا الإنتاج كبيرة رغم كل ما مرّوا بها من أطوار الجحيم.

دراسات وأبحاث ودواوين شعرية وروايات ومسرح وسينما وموسيقا، عمّن نتحدث هنا؟ عن شعب أثخنته جراحٌ غائرة لم يُتح لها العالم الوقت الكافي كي تلتئم. 

ما زال نفطُ سوريا هو ثقافتها، إنتاجها الهائل والفريد الذي يحتل المراتب المتقدمة بين الشعوب العربية، ولم تزل قدرة السوريين على المزيد من هذا الإنتاج كبيرة رغم كل ما مرّوا بها من أطوار الجحيم.

حافظت الثقافة السورية على قيمها، فواصلت حتى صراع القديم والجديد على صعيد الشكل والمضمون، في الخيمة الزمنية الماضية، عشرية من التحولات قدّم فيها الكتّاب والكاتبات عشرات الآلاف من الصفحات بين تقليدي مغرق في محافظته، لا يستقيم المشهد من دونه، وبين حديث متّقدٍ يناكف السويّات العالية في الثقافة العالمية. وما من ناقم على هذا المشهد إلا من يريد العيش في الماضي، في سجونه أو عباءة الضحية أو لائذاً في ظلال الاستبداد. 

قراءة المزاج السوري العام حيال الثقافة تعطيك نتائج غير متوقعة، فالعصر كما يحلو لكثيرين وصفه، عصر انحطاط، غير أنه ليس هكذا تماماً في المشهد السوري. فأي شعب يعيش انحطاطاً ذاك الذي يحتفظ بقدر كبير من حسن الظن بدور الثقافة حتى وهو ينتقدها؟ وأي شعب منحط ذاك الذي ما يزال يقدّم هيئة الثقافة وشخصيتها، حقيقية أو مزيّفة، بجودة عالية أو رديئة، يستثمر فيها ويؤمن أنها بضاعة ستروج دون شك؟  فالانحطاط يحقّ حين يفقد المجتمع إيمانه بدور الثقافة لا حين يواصل الإيمان بوجودها ويصدّرها إلى العالم.

المقام الرمزي للمثقف السوري محفوظ في الوجدان العام ليس لدى السوريين وحدهم، بل لدى العرب والعالم، فهم أبناء تيار حضاري متدفق تمتد جذوره في عمق التاريخ، والثقافة لديهم جزء من تكوين شخصيتهم الوطنية، وهي هذه المرة عابرة للسياسة، متجاوزة للأديان والأعراق، مجدها في قدرتها المدهشة والراسخة على التأثير في أي زمان ومكان ومهما اختلفت الظروف.

ما الذي ينقص المشهد إذاً؟ إنه الخطاب. الحامل والنبرة وكيفية الاتصال. 

ما الذي يجب فعله بعد هذا كله، وبعد تضحيات وآلام لم يشهد التاريخ لها مثيلاً؟ إنه الخطاب. الشيفرة والهيئة التي يوجب الزمن أن تكون متجددة لا باقية على حالها وكأن شيئاً لم يكن.

راجت لكنة الشعبوية في العالم، وراج معها الاتهام بالشعبوية، وقال كثيرون إنهم يفضلون عدم بيع الوهم والتماهي مع خطاب الشارع. إلا أن الشعب السوري كان متقدماً في كثير من الأحيان على غيره، ولم يكن خطابه "شوارعياً" حتى يقال عن التطابق بينه وبين خطاب الثقافة "شعبوية" رخيصة. وكان من الظلم الكبير الذي تعرّض له السوريون أن يتّهموا بذلك، سواء لدى العامة أو عند ما تسمى النخب، وأضحت الذريعة التي تبرّر بها هذه الأخيرة فشلها في التصدي لتحديات اللحظة والمستقبل، القول إنها لن تتطابق مع خطاب الشارع -الشعب، لأن هذا يعدّ شعبوية! وما نفع النخبة في قيادة الوعي العام إن كانت على تضاد تام مع المجتمع؟ 

وكيف يستقيم ميزان السوسيولوجيين في وصف النخبة أنها تلك الطبقة التي تتميز بقدرتها على التأثير أكثر من غيرها مع جنيها نتائج ملموسة بفعل هذا التأثير ، والنخبة تشعر بالإثارة أكثر كلما قلّ تأثيرها على مجتمعها، وكلما شحّ حصادها من النتائج.

صدمة الانتفاضة السورية كشفها لحقيقة أن "المجتمع السوري بلا قاع"، على النقيض مما كانت ترتاح له نفوس المنظّرين و"قرّاء البخت"، إذ طالما أن هناك قاعاً في المجتمع فالأمور بخير، والنخبة في علائها والتناقض بينها وبين الشارع مفهوم ومبرّر. لكن هذا لم ينطبق على الحالة السورية، فالمجتمع بدا مُلهِماً خلاقاً أكثر من الجميع. عندها استعار البعض بدعة "الحاضنة الشعبية" التي هي أبشع ما يمكن أن يوصف به مجتمع في هذا العصر. الحاضنة التي تقوم على أحكام تعميمية استشراقية تقيس على الجينات والتصنيف المذهبي والعرقي، وتعشّش في خيال من يتصورونها فقط، لا على أرض الواقع.

وإذ يطالب الجميع السياسيين والأحزاب والتيارات والجماعات الدينية بتجديد خطابها، تماشياً مع ما تقتضيه ضرورة التطوّر والمضي إلى الأمام، لا يطالب أحدٌ أهل الثقافة بتجديد الخطاب وهم أكثر السحرة قدرة على تحويل العصي إلى أفاعٍ من حول العروش ومراكز القوة وأمام الناس. 

تجديد الخطاب الثقافي السوري، لا توحيده وفبركته، هو الباب القادم الذي يمكن العبور منه إلى الغد. وكل ما خلا ذلك مجرد تضييع للوقت وهدر للطاقات.