"بوعزيزي" حيّاً

2019.11.05 | 15:56 دمشق

2019-10-24t135339z_603402138_rc177c498d00_rtrmadp_3_lebanon-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

في البدء كانت الكلمة، الكلمة التي انتشرت بسرعة البرق بين البلاد التي وحدها الألم، على الرغم من كل عوامل التفرقة التي بثها أهل السلطة فيما بيننا سنوات كثيرة.

"الشعب يريد" تلك العبارة الساحرة التي كان لها مفعول السحر وقدسيته، وكانت كافية وحدها من أجل تغيير شكل المنطقة، لأن مجرد إرادة الشعب كانت بحد ذاتها ثورة وانتصاراً لدى البائسين وفاقدي الأمل، ذلك أنها –الإرادة-  كانت محض خيال وحلم صعب، وتهمة قد يُزج بها صاحبها خلف أسوار المعتقلات.

في البدء كانت الثورة، الثورة التي حملت في شعاراتها حقاً وعدالة حُرم منها الإنسان العربي المقهور، ومتنا في سبيلها رجالاً ونساء من دون أن يكون لنا بواكٍ أو مناصرون.

في البدء كانت الثورة التي خفقت في القلب مثل النفس الأول، ثم أوحت لباقي الجسد أن يحيا مجدداً.

من دمشق إلى بيروت سلام، إلى الطيبين الذين لم ينسوا معاناة أصدقائهم في الجوار، الذين لا يبعدون عن أحلامهم المشتركة سوى مسافة خفقة قلب، وسلاح أعمى وجهتهه آلة القتل لتقطع حبل الودّ بينهما.

إلى الذين لم ينسوا أهازيجنا وغنوها في ساحاتهم وهتفوا لحريتنا وعدالتنا معاً وتضامنوا مع لاجئينا، على الرغم من محاولات السلطات السياسية الحثيثة لبث نوازع الفرقة والغضب بيننا، وتشجيعهم على تربية العنصرية البغيضة كي نلفظ بعضنا الآخر.

سنوات بغيضة من الكره مرت بيننا وبين أشقائنا اللبنانيين ابتداء من الاجتياح السوري للبنان مروراً بخروجه وتسليمه إلى وصاية ميليشيا حزب الله، وانتهاء بالإرهاب الذي مُورس ضد الشعبين معاً، وتخويفهم بشبح الفقر والفاقة أو بسلاح ميليشيا حزب الله الذي بسط سيطرته على القرار السياسي في البلاد.

منذ ذلك الوقت، لم يخرج مسؤول سوري أو لبناني يوماً ليخفف

لقد فعلت السياسة أسوأ مما يمكن أن نتخيله من أجل زرع الضغينة، لكن الثورة اللبنانية الآن تسقط اللثام عما فعله الساسة في البلدين

هذا الاحتقان الذي يتضخم بشكل يومي، أو ليدعو إلى الألفة وللتفاهم بين شعب واحد فرقت بينه الحدود السياسية الاستعمارية، وكأنهم كانوا ينتظرون انفجاراً كبيراً يودي ببلدينا معاً.

لقد فعلت السياسة أسوأ مما يمكن أن نتخيله من أجل زرع الضغينة، لكن الثورة اللبنانية الآن تسقط اللثام عما فعله الساسة في البلدين وتودي بخططهم إلى غير رجعة، أو على الأقل تجعل كلاً منا يعيد حساباته مجدداً بشأن ما يكنّه بعضنا للآخر.

هل كان من الضروري لذلك أن يحرق "بو عزيزي" نفسه إذاً؟ كي يستفيق العربي المهزوم ويجد ذاته، تلك اللحظة التي كانت الانعطافة الأكثر تأثيراً في حياة الشعوب النائمة، بعد أن تكاثرت فوق أحلامهم الطحالب وغمرت حقوقهم المياه الآسنة.

منذ ذلك اليوم ابتدعت الشعوب الثائرة تقويماً جديداً، تقويم بداية الثورات العربية وأصبحت النار التي التهمت جسده منارة لكل من أسقط عن كتفيه عباءة الخوف.

أعتقد أننا مازلنا نتذكر تلك اللحظة، اللحظة التي تصدر بها خبر "البو عزيزي" شريط الأخبار العاجلة، كان العالم يقف على فوهة بركان بينما انقطعت أنفاسنا نحن الحالمين البائسين القابعين في أقبية الدول الأمنية.

لم تكن صورة "بو عزيزي" وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة محترقاً تعبر عن سخطه على وضعه المعيشي السيئ وسرقة السلطات الأمنية لقمته الصغيرة التي يسد بها رمقه فحسب، بل كانت تعبر عن احتراقنا المرير في صمتنا واشتعال جذوة ما تبقى من روحنا في الأمل، حتى وصلت شعلة جسده المتقدة إلى بقية البلدان التي انقلبت على أنظمتها الجائرة مؤذنةً ببداية عهد جديد.

من يعرف الحكاية السورية يعرف تماماً كم الرعب الذي مُورس على الأجيال التي سبقتنا من أجل إخضاعها لحالة الذل الممنهج، من يعرف السوريين من جيل الأربعينات والخمسينات يعرف كم مرة نهوا أبناءهم عن الحديث بالسياسة والدين مع أصدقائهم غير الموثوقين والموثوقين منهم أيضاً.

في كل لحظة تكاد الخيبة تسيطر فيها على أنفسنا من جراء الهزائم التي مُنينا

إن العَقد الأخير يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الشعوب العربية تعيش عصر الازدهار فيما يخص التعاضد الإنساني والثوري

بها كعرب أو كسوريين بشكل خاص، علينا أن نتذكر أن شعلة واحدة من جسد "البو عزيزي" بقيت مشتعلة حتى اللحظة بعد مرور ما يقارب عقد من الزمن، وما زالت قادرة على إحياء كثير من الأحلام التي تحاول دوامات الاستبداد ابتلاعها أو القفز فوقها.

إن العَقد الأخير يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الشعوب العربية تعيش عصر الازدهار فيما يخص التعاضد الإنساني والثوري، على الرغم من أنها تعاني من الانحطاط فيما يخص نواحيَ مختلفة أخرى.

ربما أخطأنا التقدير في وقتها، "البو عزيزي" لم يمت حتى الآن وربما لن يفعل، لقد صنع من جسده جسراً عبرناه معاً باتجاه فضاءات وعوالم كانت ما تزال بعيدة المنال، إنه باقٍ في يومياتنا الثورية ما دام في بلاد العرب من يجرؤ حتى اللحظة على الصرخة في وجه الظلم والاستبداد.