icon
التغطية الحية

بوسطن سوريا الصغرى.. كيف حافظت الجالية السورية على بصمتها حتى اليوم؟

2023.01.05 | 10:53 دمشق

معروضات تظهر ما تبقى من ثقافة وتراث سوريا الصغرى ببوسطن الأميركية
معروضات تظهر ما تبقى من ثقافة وتراث سوريا الصغرى ببوسطن الأميركية
The Huntington News - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

قلة هم الطلاب الذين يدرسون في مكتبة روتش التابعة لمعهد ماساتشوستس للتقانة يتوقفون لبرهة لينظروا إلى تلك المجموعة المتواضعة من الصور والكتب، ولكن عند تفحصها من كثب وهي معروضة في خزانة موجودة بالطابق الثاني، ستكتشف بأن هنالك آلة عربية داخل صندوق زجاجي يكشف جزءاً من التاريخ المعقد والمفقود للجالية السورية في بوسطن.

تلك الآلة الوترية ذات الشكل المعيّن والتي تعرف باسم العود تعود ملكيتها للمرحوم أنطوان عبد الأحد، وهو مطرب عربي، كان يقيم في بوسطن، التي كانت تعرف باسم سوريا الصغرى. ولقد تحول عود عبد الأحد وقصته إلى جزء من المعرض الذي افتتح في الأول من كانون الأول الماضي، والذي وثق تاريخ ذلك الحي الذي كاد النسيان أن يطويه، ولهذا تحتل الآلات الموسيقية السورية، وكذلك الرسائل والصور والنوتات الموسيقية التي كتبها سوريون مساحة واسعة وفريدة من التراث والقصص التي يرويها الآلاف منهم.

أدلة بصرية للجالية السورية

وحول ذلك تخبرنا كلوي بورديفيتش وهي باحثة حاصلة على شهادة الدكتوراه لدى جامعة بوسطن ومؤرخة للتاريخ المعاصر في الشرق الأوسط: "كنا في بداية الأمر نفكر فقط كيف بوسعنا أن نفهم سياق أنماط الهجرة الأوسع التي أتت من الإمبراطورية العثمانية، وعلى الأخص من لبنان وسوريا، لتحل في بوسطن والأميركيتين.. وبالرغم من أننا نحن المؤرخين وأهالينا لا ننتمي لهذا الحي، فإننا مع ذلك نعرف الصورة الكلية بما يساعدنا على ربطها بتلك العائلات التي تكرمت علينا بمشاركة قصصها معنا".

عبر التاريخ الشفوي، وبيانات إحصائيات بوسطن، ومقابلات مع تلك الأسر والعائلات وما ورّثته لأجيال بعدها، أقامت بورديفيتش برفقة ليديا هارينتغتون وهي باحثة حازت شهادة الدكتوراه وتعمل لدى برنامج آغا خان للتراث المعماري الإسلامي، معرضاً ليكون بمنزلة وسيلة تفاعلية ملموسة الهدف منها هو البحث في تاريخ الجاليات الشرق أوسطية التي أقامت في بوسطن.

وحول ذلك المعرض تقول هارينغتون: "من النقاط المهمة للمعرض تقديم أدلة بصرية حقيقية حول ذلك الحي وكيف كان، فقد تواصلنا مع العائلات التي عثرنا عليها من خلال الكنائس المحلية، وتحدثنا إليهم كثيراً لنتعرف إلى تجاربهم الخاصة، ولنبحث عن شخصيات بعينها لعبت دوراً أساسياً في ذلك الحي".

ومن تلك الشخصيات المحورية هنالك عبد الأحد الذي استخدمت موسيقاه في أفلام شهيرة مثل فيلم: " Pulp Fiction" كما مثل دور ملك السعودية فأصبح من أشهر الممثلين العرب في أميركا وصار يظهر في الحفلات والمهرجانات الموسيقية.

هاجر والداه، أي أسعد ورمزة عبد الأحد، من دمشق إلى أميركا أيام مراهقتهما وذلك في مطلع القرن العشرين.

وعن أبيها تحدثنا شارون عبد الأحد وول التي تخرجت في جامعة نورث إيسترن في عام 1973، فتقول: "كانت والدة أبي في الخامسة عشرة من عمرها عندما أتت إلى الولايات المتحدة، وكانت قد حصلت على تعليم جيد في الشرق الأوسط، فكانت أشبه بطفلة معجزة هناك. وكانت أمها تبحث لها عن زيجة... ولهذا استجارت رمزة بأبيها، إذ قالت له: أختي تعيش في بوسطن، ويريدونني أن آتي إليهم بما أنهم يديرون مشروعاً تجارياً هناك، ولذلك أودّ أن أسافر إلى أميركا".

وصلت رمزة وأسعد إلى الولايات المتحدة كغيرهما من المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط في ذلك الحين، بحثاً عن فرصة للحياة، وفي 25 تشرين الثاني عام 1905، تزوجا وانتقلا للعيش في ساوث إند ببوسطن.

أسباب الهجرة السورية

كان المهاجرون الذين يصلون إلى بوسطن، ومعظمهم قدموا من المنطقة الواقعة ما بين دمشق وزحلة التي تقع في لبنان اليوم، من بيئات اقتصادية متفاوتة، وكان جميعهم تقريباً مسيحيين، من الطوائف المارونية أو الأرثوذكسية أو الروم الملكيين.

وخلال الفترة الواقعة ما بين عامي 1880 و1930، هاجر الآلاف من السوريين واللبنانيين وانتقلوا للعيش في ساوث إند ببوسطن التي تحول اسمها إلى تشايناتاون اليوم، فشكلوا حياً صغيراً بات يعرف باسم: "سوريا الصغرى" هرَباً من الضائقة الاقتصادية ومن التجنيد ضمن الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، ومن الاضطهاد الديني ومن الحرب الأهلية التي دارت في جبل لبنان خلال عام 1860، ظهرت جاليات "سوريا الصغرى" في مختلف أرجاء الولايات المتحدة، إذ بحسب ما ذكرته صحيفة بوسطن غلوب، فإنه بحلول ثلاثينيات القرن الماضي، أصبح عدد السوريين المقيمين في ماساتشوستس 40 ألفاً، وعلى الرغم من أنهم هاجروا إلى الولايات المتحدة لأسباب عديدة ومن بيئات مختلفة، فإن هنالك نقاط تشابه بين العائلات ضمن الجاليتين السورية واللبنانية.

وحول ذلك تعلق هارينغتون بالقول: "مع بدء وصول الناس خلال الفترة الواقعة ما بين ثمانينيات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أخذ هؤلاء يصطحبون أسرهم معهم، فكانوا يقيمون في أبنية مؤلفة من أربعة إلى ستة طوابق، وفيها حمام مشترك يقع خارج المبنى، وذلك قبل أن يدخل نظام شبكة الصرف الصحي إلى البيوت".

الموسيقا كمهنة

استقرت رمزة وزوجها أسعد عبد الأحد في إحدى تلك الأبنية بشارع هادسون، إذ أنجبا من الأولاد ثلاثة وهم إيفلين في عام 1908، وأنطون في عام 1915، وتشارلز في عام 1918. ولكن بعد ذلك بمدة قصيرة، وتحديداً في عام 1927 توفي أسعد عبد الأحد عن عمر ناهز 43 عاماً، ما دفع أولاده المراهقين للسعي لإعالة الأسرة بأنفسهم.

أجبرت ظروف الأسرة الفقيرة أنطون عبد الأحد الذي كان عمره وقتئذ 15 عاماً على أن يتخذ من الموسيقا مهنة له، إذ على الرغم من عدم شيوع ذلك في تلك الأوساط بما أن معظم السوريين في ذلك الحين كانوا يعملون في مجال صناعة الألبسة، فإن اهتمام أنطون بالموسيقا ساعدَه على إعالة أسرته، ورفع شأنه ليصبحَ شخصية من بين الشخصيات المبرزة في عالم الموسيقا العربية.

تخبرنا ابنته عنه فتقول: "كان أنطون يتفاخر بما لديه عند عودته من عمله حاملاً ما تقاضاه من أجر، إذ كان يعطيه لأمّه بسبب معاناة الأسرة على الصعيد المادي. لكنه صار شخصية يبحث عنها الجميع، بعدما ذاع صيته واشتهر، فصار عمه يرافقه ويأخذه إلى أماكن كثيرة حيث كان يطلب منه أن يعزف هناك".

وبما أن أنطون قد طوّر موهبته الموسيقية، لذا صارت أمه تعلمه الحديث والكتابة بالعربية بعد عودته من مدرسته.

جالية مختلطة

تخبرنا بورديفيتش بأن جالية المهاجرين في سوريا الصغرى لم تكن سوريّة مئة بالمئة، وذلك لأن الأبنية المقامة في ذلك الحي لم تكن تؤوي سوريين فحسب، بل أيضاً تؤوي يونانيين وأرمن. كما كان الأطفال السوريون يتزاملون مع طلاب إيرلنديين وصينيين ويهوداً وأرمن في الصف ذاته، قبل أن يلعبوا ضمن فرق رياضية تضم جميع الطوائف والملل بعد انتهاء الدوام في المدرسة.

تقول هارينغتون: "عثرنا على معلومة مشافهة عندما ذكرت لنا إحدى السيدات بأنهم كانوا يشتمون بعشر لغات مختلفة، ما يعني بأن الجالية السورية كانت تتفاعل مع مختلف أنماط البشر وبيئاتهم المتفاوتة".

إذ عبر العيش في حي مشترك يضمّ طوائف وجاليات عديدة، توجّه السوريون للكنائس لحشد الدعم داخل الجالية السورية، فكنيسة القديس جورج الأنطاكي الأرثوذكسية والقديس يوحنا الدمشقي، والقديسة مريم وسيدتنا وأرز لبنان جميعها وفرت مكاناً للجالية السورية حتى تجتمع بعضها مع بعض وتدعم بعضها بعضاً بوصفها جاليةً آخذة بالتوسع خلال مطلع القرن العشرين.

دور الكنيسة في الاندماج

تعلق الباحثة هارينغتون على ذلك بالقول: "كانت الكنائس هي المكان الذي بوسع الناس فيه أن يتحدثوا بلغتهم، وأن يحتفلوا بأعيادهم، وأن يجدوا فيه من يحبونه ويتزوجونه ويتواصلون معه على المستوى الاجتماعي".

وإلى جانب ارتباط الكنائس بالجمعيات الاجتماعية، عملت أيضاً على تقديم منح دراسية للطلاب، مساعدة الأسر المعسرة، وتنظيم حملات للتبرعات لتقديم المساعدة لدول الشرق الأوسط عند مواجهتها لأي نزاع أو أزمة.

بالنسبة لعائلة عبد الأحد، كانت الكنيسة وسيلة ساعدت الأسرة على الاندماج في بوسطن، كما كانت في نهاية الأمر السبيل الذي تمكنت الأسرة من خلاله ردّ الجميل للمجتمع نفسه الذي سبق أن استقبلها ورحّب بها.

تقول شارون عن ذلك: "كانت الكنيسة تمثل جزءاً ضخماً من حياة أهلنا، فقد كانت جدتي ناشطة بشكل كبير فيها وذلك فيما يتصل بمساعدة الناس في الحي عبر الكنيسة".

بدايات نجومية عبد الأحد

كان أنطون عبد الأحد نادراً ما يرتاد الكنيسة برفقة أسرته، بما أنه يمضي جلّ وقته بعيداً عن بيته وهو يجول البلاد، ولكن عند بلوغه التاسعة عشرة من العمر، وصلت شهرة اسم عبد الأحد وقدرته على العزف على العود إلى الصحف الأميركية، بعدما صار يعزف في الأعمال الدرامية وفي الحفلات والمهرجانات الموسيقية.

الموسيقار أنطون عبد الأحد

بفضل الإيقاعات السريعة التي قدمها عبد الأحد وموسيقاه العربية الأصيلة التي أطربت جمهوره القادم من الشرق الأوسط والذي بات يعيش في مختلف أرجاء أميركا خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، استطاع ذلك الشاب أن يستقل عن بيت أهله ويؤسس بيته برفقة زوجته وذلك في عام 1940، ثم أسس شركة تسجيلات خاصة به في عام 1947، إلا أن أمه رمزة اضطرت في نهاية الأمر لبيع بيتها والانتقال إلى سومرفيل.

بداية النهاية

في الحقيقة بدأت كثير من الأسر والعائلات بالانتقال من سوريا الصغرى لتقيم في الضواحي خلال تلك الفترة، وذلك لأن كثيراً منها اضطر لترك سوريا الصغرى بسبب مدّ طريق سريع هناك إلى جانب بناء جامعة وكثير من الوحدات السكنية، والاضطرابات التي نجمت عن برنامج تحديث المدن التابع لهيئة إعادة تطوير بوسطن، ولذلك دفعت تلك العوامل كلّها سكان سوريا الصغرى للسكن في ضواحي وأطراف بوسطن، وبحلول منتصف القرن العشرين، لم تعد سوريا الصغرى تعج بقاطنيها السوريين ولا بمطاعمهم أو كنائسهم، ومن بقي منهم في ذلك الحي صار يمتلك البناء الذي كان يستأجره في السابق.

تعلق بورديفيتش على ذلك بالقول: "تغيرت التركيبة الديمغرافية بمرور الوقت، وبحلول أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أصبحت مجموعات جديدة من المهاجرين تصل إلى البلاد، وتستأجر البيوت من السوريين، أي أن السوريين لم يعودوا يستأجرون بيوتهم من الإيرلنديين أو الإيطاليين أو الإنكليز".

أضف إلى ذلك تلك الرغبة في العيش خارج المدينة والتنعّم بحياة الريف، والتي تسببت بظهور بداية لنهاية هذا الحي، إذ تقول هارينغتون: "عثر أهالي تلك الجالية على مزيد من الوظائف المرموقة في مجال الطب والتدريس، ثم إن ذلك يمثل جانباً من نمط الهجرة في المدن الأميركية، حيث ينتقل المهاجرون إلى الضواحي ليحصلوا على بيت أكبر ولينعموا بمكان أكثر هدوءاً".

سبعيني ينشد في الكنيسة

مع أفول نجم سوريا الصغرى في أواخر القرن التاسع عشر، أفل نجم أنطون عبد الأحد وموسيقاه، إذ كادت نوبة قلبية أن تقضي على مسيرته الفنية كمطرب، ولكن بما أنه نشأ في مجتمع تعود على التأقلم، لذا فقد استمر بالعزف والغناء.

وطوال فترة عمله ونشاطه في هذا المجال، كان عبد الأحد عند وجوده في البيت يغني أغنية خاصة بمناسبة موسم الصوم الكبير الذي يسبق عيد الفصح، ولكن بسبب الأزمة القلبية التي تعرض لها، ظن أهله وكثيرون من مرتادي الكنيسة بأنه لن يتمكن من غناء تلك الأغنية بعد الآن.

ولكن عندما طلب أحد مرتادي كنيسة القديس يوحنا الدمشقي من أنطون أن ينضم إلى الجوقة ليؤدي الأغنية ذاتها، لم يفوّت تلك الفرصة، إذ على الرغم من أن أزمته القلبية تسببت بتعطل وظائف قلبه، فإن هذا المطرب السبعيني أدى تلك الأغنية بمفرده برفقة الجوقة.

وعن تلك الحادثة يخبرنا ابنه آرثر فيقول: "فقد أبي ثلثي وظائف قلبه بسبب تلك الأزمة القلبية، فخيّل إليه أنه لن يتمكن من الغناء بعد ذلك، لكنه أمسك بيدي وسرنا إلى مكان خلف القاعة حيث كانت الجوقة موجودة، ولم يكن الكاهن يدري بأن ذلك سوف يحدث، وهكذا غنى أبي للكنيسة".

توفي أنطون عبد الأحد في 25 كانون الأول 1995، إلا أن موسيقاه بقيت تعزف في الأوساط العربية في مختلف أرجاء العالم.

الجالية باقية بروحها وعادتها

واليوم، بوسعنا أن نجد بقايا تلك الجالية من خلال متاجر البقالة والمطاعم السورية الموجودة في شارع Shawmut Avenue وكذلك داخل الكنائس التي انتقلت مع الجالية إلى الضواحي. بيد أن المطاعم والأعياد والمهرجانات حافظت على روح الجالية التي أغنت حياة من عاشوا في سوريا الصغرى.

ويعلق آرثر عبد الأحد على ذلك بقوله: "ما تزال الجالية موجودة هناك، ولكنها تتضاءل للأسف مع كل جيل، إلا أن هذه هي طبيعة الأمور، أما أولادي فقد تبنوا الأسلوب السوري في الأكل، وكذلك التقاليد السورية، ولهذا فإن أولادنا ما زالوا يعشقون تراثهم ويفتخرون به".

المصدر: The Huntington News