بوتين مؤسساً للأمة الأوكرانية

2022.03.05 | 05:34 دمشق

من حيث لا يدري، أوقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه في فخ تاريخي صعب، فبعد الخطاب الخطير الذي تلاه على الأمة الروسية و العالم، عشية انطلاق جحافل جيوشه لغزو أوكرانيا، حاول بوتين دغدغة الشعور القومي للأمة السلافية، ومداعبة المشاعر الإمبراطورية للقيصرية الروسية، وتحديد نقاط أغلاط الاتحاد السوفييتي، مفنداً أخطاء زعمائه بوصفه أي" بوتين" نظيراً لهم، انتقد أخطاء لينين بوصفه من صنع أوكرانيا على حد زعمه، وانتقد ستالين لمنحه أوكرانيا أراضي وشبه سيطرة، وانتقد خروشوف الذي منح سيادة كاملة لكييف على شبه جزيرة القرم، وضع بوتين نفسه بمنزلة من يقيم زعماء السوفييت، بغض النظر عن إعجابه المضمر بهم بوصفه شيوعيا سابقا، وضابط استخبارات تدرب ونشأ على القمع، ويعرف ماهية وآليات العمل السياسي على الطريقة الشمولية السوفييتية.. لم يأت بوتين في خطابه هذا على ذكر يلتسين الرئيس الذي كانت له اليد الطولى في بيع وخصخصة الاتحاد السوفييتي، صاحب الباع الطويل في الفساد والإفساد والثراء غير المشروع، يلتسين الذي شهد عهد بيع روسيا قطعة قطعة، من محطات الفضاء وحتى صواريخها النووية، لسبب واحد وبسيط ألا وهو أن يلتسين هو من فتح بوابات الكرملين لتعيينه رئيساً على روسيا، بشرط إصدار بوتين مرسوماً يمنع بموجبه أي سلطة قضائية من محاكمة يلتسين أو عائلته..

بوتين هذا الذي انفجرت وسائل التواصل الاجتماعي تفند مسيرته، وسيرته، ونجاحاته، وأخطاءه، وكما تصنع الأساطير بدأت الإشاعات والقصص والخرافات تصنع عن حياته، في خط مواز معروف في علم (مورفولوجيا الحكاية) حيث لا يولد البطل كغيره من الأطفال، بل تكون لديه قصة خاصة، تحمل ما تحمله من معاناة و ألم، كما هو الحال مع السيد المسيح، والنبي موسى، وايزيس، وحتى ديونيسوس وهرقل فيما قبل الميلاد، وما لديهم من قصص، فمنهم من وُلد ورُمي في النهر خوفاً من غضب الحاكم، ومنهم من وُلد من روح الرب، بلا دنس، ومنهم من وُلد من فخذ زيوس كبير الآلهة..

بوتين هذا سيعمل بنفسه على أسطرة نفسه، عبر استغلاله الكبير للإعلام، وتأثيره الكبير على الشعوب التي تعتقد بوجود مؤامرة غربية تستهدف دينهم و كرامتهم وقوميتهم

أما بوتين فقد نسجت الحكايا التي لا مصدر حقيقي يؤكدها، حول أن بناء كبيراً انهار فوق والدته هي والعشرات نتيحة القصف النازي في الحرب العالمية الثانية بينما كان والده في الجبهة، وحينما عاد الأخير سريعاً، وجد القرية غارقة في دمار و حزن كبير على أحبتهم، فنظر إلى شاحنة كبيرة تكدست فوقها الجثث، فرأى حذاءً يشبه حذاء زوجته الذي اشتراه لها قبل أسبوع، فتعرف على جثمانها، وقبل أن يتم دفن الجميع في مقبرة جماعية طالب الزوج بجثمان زوجته كي يدفنها في مقبرة العائلة، حسب الأصول، وبعد ترج كبير، وافق الرفيق الشيوعي المسؤول على طلبه، فأخرج زوجته من الشاحنة، واذا بها تتنفس ولم تمت، فهرع بها إلى المشفى، وهناك استعادت عافيتها، وبعد سنوات ستحمل هذه المرأة الروسية فلاديمير بوتين، الذي سيصبح المنقذ لروسيا الاتحادية.. وسيأخذ على عاتقه إحياء الأمة الروسية كما حصل مع والدته بعد أن شبه لهم موتها..

بوتين هذا سيعمل بنفسه على أسطرة نفسه، عبر استغلاله الكبير للإعلام، وتأثيره الكبير على الشعوب التي تعتقد بوجود مؤامرة غربية تستهدف دينهم وكرامتهم وقوميتهم، فبنى لنفسه جسماً رياضياً وظهر عاري الصدر في مرات عديدة يستعرض جسده المفتول وهو يمسك دُباً تارة، وهو يمتطي حصاناً تارة أخرى، وفي مرات كان يقوم بالغطس في المياه المتجمدة، وفي مرات يظهر على التلفزيون وهو يمارس لعبة الأقوياء (الجودو) حتى إن الاتحاد العالمي للجودو نصبه رئيساً فخرياً له، كدلالة على قوته... بوتين حاملاً بندقية، بوتين ينقذ طفلاً من الغرق، بوتين منتصراً للمحاربين القدامى، بوتين يراقص معلمته في الابتدائية.

بوتين هذا المحافظ اليميني، الداعم الأساسي للكنيسة، صانع الميليشيات ومؤسس فرق الإعدام، راعي الدكتاتوريات وعدو الثورات الشعبية الملونة التي قمعها في موسكو ومينسك وسوريا وكازاخستان وجورجيا وكييف وطهران، هو العدو الكبير لـ (التطرف الإسلامي) الممتد من القوقاز حتى بلاد الشام والعراق وأفغانستان وليبيا ومالي.. الداعم الأكبر لليمين المتطرف من دونالد ترامب وحتى مارين لوبين وإريك زومور، وبقية متطرفي أوروبا، وإيران..

بوتين هذا، أو الأسطورة التي بنيت على مهل وبتأن كبير، بات يحتاج لمعجزات، وأفعال تليق بما يفعله الأنبياء والمرسلون وحتى أنصاف الآلهة الإغريقية...كما وصفته عشرات الأشرطة الوثائقية التي تناولت حياته، والتي وقف خلفها كبار سينمائيي العالم الحر، من أوليفر ستون، وأمير كوستاريتسا، ووقف شعراء من سوريا ولبنان وإيران متباكين، يصفون قوته وبشارته المنتظرة.. بات بحاجة لمعجزة يؤكد فيها عظمته أمام هؤلاء..

في يوم 21\شباط\2022، وأمام عدسات الكاميرات العالمية، جلس بوتين في مكتبه الرئاسي يخطب بالأمة الروسية، معيداً كتابة تاريخ ما سماه العالم الروسي الممتد من آسيا عبر أوروبا، معيداً تفنيد الأفكار الخاصة له حول أوكرانيا وكينونتها أصلاً، قبل انفصالها عن روسيا وتأسيسها كدولة مستقلة، عدد في خطابه أخطاء لينين وستالين وخروشوف، وأعاد ترسيم حدود العلاقة غير المنفصمة بين الروس والأوكران وبأنهما شعب واحد في بلدين، وبأن الغرب هو من أفسد الود بينهما، وبأن كييف كانت عاصمة الدولة الروسية الأولى.. وبأنه لن يسمح للغرب بأخذ أوكرانيا منه، كممثل عن الأمة الروسية..

حتى لو استطاع بوتين احتلال كييف وإسقاط حكومتها، فليس بمقدوره نهائياً أن يكسب محبة قلوب النازحين والمهجرين وأهالي الشهداء، والجرحى

بعد أيام تحركت القوات الانفصالية الموالية لموسكو لتعلن انفصال إقليمي لوهانسك ودونيتسك عن أوكرانيا، ليعاجل بوتين للاعتراف بهما، وبعد ساعات تحرك الجيش الروسي على طريقة الجيش الأحمر، وبدأ باقتحام الحدود الأوكرانية، من أربعة جهات، متجهاً نحو العاصمة كييف، وهدفه إسقاط الحكومة وتنصيب حكومة موالية له.. لم يكن بوتين مدركاً بأنه سيوحد الأوكرانيين، وسينقلهم من حالة شعب ممزق بين شرق وغرب، بين أوروبا وأوراسيا، بين الناتو ومنظمة الأمن والتعاون، بين الروس والأوكران، بين اللغة الروسية والأوكرانية، بين الماضي والحاضر، بين الشيوعية والرأسمالية، لينقلهم إلى حالة الأمة الموحدة، التي تقف صفاً واحداً خلف رئيسها المنتخب، في مواجهة المحتل، حتى لو كان هذا المحتل أخاً سابقاً، أو والداً جائراً.. ولأول مرة في تاريخ أوكرانيا، تتكون الشخصية الوطنية، المعمدة بالدم، وليس هنالك من عروة أشد وثوقاً من عروة القتال من أجل الوطن، هذه الشخصية الوطنية صنعت وتبلور فيها جميع مكونات أوكرانيا المعاصرة من السلاف والأوكران والتتار والألمان وغيرهم.. لتخرج أمة عصرية حرة معاصرة.. بعيداً عن الأب الروسي الذي بات على ضفة القهر والغزو، والأوكراني على ضفة الحرية والديمقراطية، بفضل بوتين، فحتى لو استطاع بوتين احتلال كييف وإسقاط حكومتها، فليس بمقدوره نهائياً أن يكسب محبة قلوب النازحين والمهجرين وأهالي الشهداء، والجرحى، لن يقدر على وقف المظاهرات التي تطالب بالحرية والديمقراطية كما فعل هو ورفاقه الإيرانيون في سوريا وكازاخستان وأوسيتيا، وجورجيا، والشيشان وحتى موسكو وسان بطرسبورغ، يمكنه إعادة الزوجة الهاربة بالقوة إلى بيته، ولكنه أبداً لن يقدر على جعلها تحبه من جديد..

كانت هذه هي معجزته، ورب معجزات تقتل أصحابها، في زمن الأنبياء الكاذبين، والأبطال الذين صنعوا من ورق. فكما كان أخيل بطلاً صارع المئات وصرع الوحوش والملوك والأبطال، ولكن سهماً صغيراً في كعبه جعله يخر صريعاً.. ها هو فلاديمير بوتين يتلقى من أقرب أقربائه، الدولة الصغيرة أوكرانيا، ذلك السهم في كعب رجله، فهل سيسقط صريع أحلامه.