icon
التغطية الحية

بساط فولاذي لراحة أنفاس القاتل والقتيل | شعر

2023.06.01 | 15:52 دمشق

وداع
(لوحة: آمنة باجنيد)
+A
حجم الخط
-A

"بساط فولاذي لراحة أنفاس القاتل والقتيل"*

 

1

رَتَّبُوا اَلجُثث بِأناقة على بِسَاط الفولاذ،

ومضَوا بِهَا إِلى حَيْث يحْتفلون بالمَوْتِ،

الغرْبان تُرفْرِف بِخَجل بيْن راياتهم،

لَا شَيْء يُغْرِي الضَّواري

سِوى وَلِيمَة تَجمُّع القتَلة والْمقْتولين،

خَلْف جُدْران القُرى المهدَّمة.

2

هذَا الرَّتل اَلطوِيل مِن اَلْمَوتى، سار فَوْق الموْج..

3

مُتَابعَة الحيَاة بَعْد مَجْزَرة

أَنْتَ لَسْت كمَا أَنْت،

لَكنَّك لَم تزل عالقًا فِي المرْآة،

فلَا تُجرِّب أنَّ تَمسح وجَّههَا، لِتَبق قليلًا فِي التَّأَمُّل،

أَحدَث هذَا؟ أم أنَّ عَقلَك أَطلَق أشْباحه، ومثلهم تَبّددتْ؟

تُحَاوِل أن تَستيْقِظ فِي صحْوك، لَكنَّك لَا تَقوَى على إِطفَاء صُوَر المجْزرة، وَهِي تَبدَأ ثُمَّ تَنصَرِف إِلى نِهايتهَا، ثُمَّ تَعُود، وَكَأنهَا تَحدَّث مُجَددًا.

أَنْت لست مَحمُومًا ولَا تَهذِي كالمرْضى؛

أَنْت ذاك اَلذِي غطَّوْا عيْنيْه، وجرُّوه، وركلوه إِلى اَلحُفرة فَهوَى طيْرًا جريحًا، ثُمَّ احترَق. كَيْف تَستطِيع بِعيْنَيْك الدَّاميتيْنِ أن تَتَذكَّر، ثُمَّ تَعُود مِن ظُلمَة الموْتِ لتحكي عَمَّا جرى؟ اَلدَّم يسيل مِن عيْنيْك فِي المرْآة، وَحده يَتَحرَّك، بيْنمَا أَنْت كُتلَة وَجْه في أَيقُونة شَاحِبة، تَحْتاج لِأن يَتِم تنْظيفهَا مِمَّا عَلَّق بِهَا مِن سُوريَّتها،

لَكِن أحدًا لَا يَستطِيع!

لَقد رأيْتني، أَلبِسُ وُجُوه الضَّحايَا كُلهُم،

فَكُنت ذاك الرَّجل ذِا الهنْدام اَلأنِيق،

وَكُنتُ بِثيابي اَلتِي لَم أُغَيرهَا،

وَكُنت الارْتجافة الأخيرة فِي وَجْه الفتى،

وَكُنت من رفع رِجْله لِيتَّقي الرَّصَاص،

وَكُنت المرْأة الغاضبة،

وَكُنت المسْتسْلمة،

وَكُنت وُجُوه أطْفال نَشفَت فِيهم الأرْواح ثُمَّ تَبخرَت.

كَيْف أَنجُو مِن صُوَركم جميعًا،

أيقدر مَيِّت حيّ على اَلخُروج مِن بَوَّابة العدم؟!

لَقد رأيْتني:

ذاك اَلولِيد، يُؤَذَنُ فِي أُذنيْه،

ثُمَّ يَتَشهَّد،

وَيعُود إلى الرَّمَاد.

4

أنا الولِيد، أنا الطفْل، أنَا الفتى، أنَا الشَّابُّ، الرَّجل، الكهْل،

أنَا الحَيّ، والْمَيِّت، والْواقفُ بَيْن منْزلتيْنِ،

أنَا المصْلوب على خَشبَة، أو المسْحوق بِجنْزِير دَبَّابة،

أنَا التُّرَاب المعْجون بِالدَّم اَلبَهِي،

أنَا مَا بقِي مِن وَجْه أَخذَت نِصْفه القذيفة،

أنَا نِتْفُ جسدٍ سهتْ عَنهَا عُيُون وَأيدِي القبَّعات البيض،

أنَا عَيَّن تَتبُّع سُقُوط البرْميل،

أنَا شعْر الطِّفْلة تتلمَّسه رمادًا فِي حَرائِق اللَّيْل اَلبهِيم،

أنَا رغيف اَلخُبز، أو مَا بَقِي مِن مَلمَس يد الطِّفْل، قَبْل أن تَأخذَه رُوحُه بعيدًا عن مَذْبَحة اَلفُرن الجديدة،

أنَا بُكَاء أَبُو فُرَات، أنَا دُمُوع انسلَّتْ إِثْر صُوَر القتْلى فِي اَلطرِيق مِن اَلغُوطة إِلى الشَّمَال،

أنَا مَشافِي حلب،

أنَا نَظرَة جَمدَتْ فِي قَلعَة الحصْن،

أنَا بِنَاء تَهدَّم فِي نعيمَة درعا،

أنَا صَخْر اللَّجَاة،

أنَا صَرخَة "وَيِن رَاحُوا"،

أنَا صدى اَلهُتاف فِي سَاحَة العاصي،

أنَا الرسْتن،

أنَا تُرْس طَاوِلة فِي عَرَاء داريا،

أنَا اصطِدام اَلحدِيد بِالْحديد فِي فرع الـ 215،

أنَا شاهدة غَيْر مَرئِية فِي مَقابِر نَجهَا والْقطيفة،

أنَا نُعَاس عَبْد القادر صَالِح،

أنَا شَيْء مَنسِي فِي كُلِّ مَكَان هُنَاك،

أنَا السُّوريُّ، نسيتُ اَلكثِير اَلكثِير هُنَا،

وأحاول تَذكُّر من أنَا..

ثمَّ أَعُود مِن جديد: 

أنَا ثِيَاب العيد على جسد أطفال استشهدوا فِي الزَّاهرة،

أنَا أزيز الرَّصَاص على حَاجِز الكبَّاس،

أنَا المَوتى فِي تُربَة اليرْموك وقد نَبشَت القذائف قُبورَهم،

أنَا... أنَا...

 

*من كتاب يصدر قريباً عن "دار المحرر" في القاهرة بعنوان: "الطريق إلى متحف الآثام"
كلمات مفتاحية