برتراند رسل: تجارب مسالم في الحرب العالمية الأولى

2020.01.09 | 15:44 دمشق

syrty_aldhatyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

عشت مع برتراند رسل من خلال كتابه "صور من الذاكرة" من ترجمة أحمد إبراهيم الشريف، وكتاب "سيرتي الذاتية"[1] وأعجبني ما يحكيه في سيرته الذاتية عن الانفعالات الثلاثة التي تحكمت في حياته، انفعالات بسيطة لكنها متناهية في القوة، أولها الحنين للحب، والبحث عن المعرفة، والإشفاق الشديد على الذين يقاسون ويتعذبون، وقد قذفته هذه الانفعالات كالرياح العاتية في طريق غير مستقيم فوق بحر عميق من العذاب.

ولد برتراند رسل في فبراير 1867، في زمن المد العالي من التفاؤل في العصر الفيكتوري، وكان الظن أن الحرية والرخاء سينتشران في العالم تدريجياً وبترتيب منظم، ولد في عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى 1914، والتي ستصبح نقطة فارقة في حياته الشخصية، حيث رأى تلاشي الدول العريقة مثلما يتلاشى ضباب الصباح.

نشأ رسل في بيئة مثقلة بالتقاليد، ومات والداه قبل أن يعلقا بذاكرته، وكان والده يميل إلى الفلسفة والدرس وكان أحد مريدي الفيلسوف جون ستيوارت مل وصديقاً له، ونشأ في رعاية جده وجدته، كان الجو العام في المنزل جواً من التقوى، والتقشف المتزمت الپيوريتاني، وكان الطعام في بساطة الطعام الإسبرطي، لقد كانت طفولة تتسم بالخجل والوحدة فلم يجرب متع الطفولة الاجتماعية، لكنه عشق الرياضيات منذ صغره، أهدته جدته إنجيلاً كتبت على صفحته الأولى النصوص الأثيرة لديها ومنها "لا تتبع الكثيرين في فعل الشر" ولقد كان من أثر تلك المقولة ما جعله في فترات متأخرة من حياته لا يخشى الانتماء إلى أقليات ضئيلة العدد.

التحق رسل بجامعة كمبردج في سن الثامنة عشرة، وشعر بالارتياح في الجامعة حيث وجد نفسه بين قوم يتكلمون نوعاً من اللغة الطبيعية على مسمعه، وكان إذا أخذ يتفلسف لم يحملقوا فيه كأنه مجنون، ووجد نفسه في عالم يقدر الذكاء، وفي الجامعة كون صداقات ولم يعد مضطراً لاحتمال الوحشة التي عانى منها في سنوات المراهقة، خصص السنوات الثلاث الأولى من دراسته بالجامعة للرياضيات، وخصص السنة الرابعة للفلسفة، وكانت دراسة الفلسفة متعة فتحت عينيه على مشكلات جديدة مغرية تمنى لو شارك في حلها، لقد ناسبته بيئة كمبردج كمناسبة القفاز للكف.

عندما انتهت دراسة رسل في الجامعة كان عليه أن يقرر إن كان يهب حياته للفلسفة أو السياسة، فأما السياسة فكانت شغل أسرته منذ القرن السادس عشر، لذلك كانت الاهتمام بالفلسفة كأنه خيانة لأجداده، وأخذت تتوالى الفرص أمامه للالتحاق بالعمل الدبلوماسي وعرضت عليه وظيفة في سفارة بريطانيا في باريس، لكن إغراء الفلسفة لم يكن يقاوم، ومنذ تلك اللحظة وحياته عبارة عن صراع يسلمه إلى آخر، حتى ظن بعض الناس أنه يحب تلك التحديات.

آمن رسل أن الحرب حماقة وجريمة تقع مسؤوليتها على كل الدول المشتركة فيها

جرى كل شيء سهلاً بعد اختياره العمل الأكاديمي بالفلسفة، حتى كانت سنة 1914، حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى، وآمن رسل أن الحرب حماقة وجريمة تقع مسؤليتها على كل الدول المشتركة فيها، وتمنى أن تظل إنجلترا على الحياد، وأخذ يحتج لكنه وجد نفسه معزولاً عن غالبية أصدقائه القدامى، وكان وقع العزلة مؤلماً على نفسه حيث شعر بالغربة والبعد عن مجرى الحياة الوطنية.

قضى أصيل أحد أيام شهر أغسطس متجولاً في الطرقات وخاصة في جوار ميدان الطرف الأغر، يرقب الحشود الهاتفة الفرحة بإعلان الحرب، وهو يسير ليتلقى مشاعر السابلة، واكتشف في ذلك اليوم أن الرجل العادي والمرأة العادية كانا مبتهجين لوقوع الحرب، وقد كان يظن قبل ذلك أن الناس مسالمون، وأن الحرب تفرض على أناس عازفين عنها بفعل حكومات مستبدة وصولية مكيافيلية.

يحكي رسل أنه لو كان مؤمناً لسمى ذلك الصوت الذي سانده في تلك الفترة صوت الله الذي يستحثه على المضي في الاحتجاج ضد الحرب، وموقف رسل من الحروب ليس بنهائي، فهو يرى أن الحرب العالمية الثانية ضرورية، لأن الظروف والملابسات كانت مختلفة، وكل ما جعل الحرب العالمية الثانية ضرورية هو نتيجة أخطاء الحرب العالمية الأولى وما تلاها من الشيوعية الروسية والفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، والحرب العالمية الأولى خلفت عالماً مظلماً غير مستقر، ولقد حاول أن يقنع الناس أن الألمان أقل شراً مما تصورهم الدعاية الرسمية، لأن جانباً كبيراً من الشر نجم من قسوة معاهدة فرساي، لم تكن هذه التجربة هي نهاية عزلة رسل عن المواقف الوطنية بل كانت البداية فقط.

كانت مشاعره الوطنية تعذبه، فهو يتمنى أن تنتصر إنجلترا على الألمان، لأن حبه لإنجلترا عاطفة قوية في روحه، فكان في تظاهره بإلقائه جانبا وعدم مبالاته كأنه يتخلى عن شيء يصعب جداً التخلي عنه، كانت رؤيته موت الشباب في الحرب تمزق قلبه، وقضى أربعة أشهر ونصفاً في سنة 1918 سجيناً بسبب الدعاية للمسالمة ولكنه بفضل تدخل آرثر بلفور تم السماح له بالقراءة والكتابة في السجن، ولقد وجد في تجربة السجن فرصة للاستراحة فلا مواعيد ولا قرارات يصعب اتخاذها ولا خوف من الزيارة المفاجئة ولا مقاطعة وهو يعمل، فقرأ كمية ضخمة وكتب كتابه "مقدمة للفلسفة الرياضية" وبدأ بآخر هو "تحليل العقل"، واهتم بقصص حياة السجناء معه، لقد خرج مع حلول الهدنة ورأى جندياً بلجيكيا فأخبره بحلول السلام فقال الجندي "الله هذا جميل"، ودخل محلا للتبغ وأخبر البائعة، ففرحت وقالت نستطيع التخلص من الأسرى الألمان، ورأى الناس تفرح جذلة بخبر نهاية الحرب.

كذلك لم يرحب رسل بالحكومة الثورية في روسيا، وزار روسيا عام 1920، وتحادث مع لينين، وشعر أن نتائج هذه الثورة ضد طموحات أي شخص يحب الحرية، وشعر أن مرد الأزمة هو ازدراء الحرية وإهمال الديمقراطية، وأعلن رسل أن الحكم البلشفي ملعون في وقت مبكر خالف فيه حماسة أصدقائه البريطانيين للثورة، لقد شعر وهو في روسيا أن البلد سجن كبير، سجانوه شرذمة من المتعصبين القساة، لقد شعر أن حركة التطور التاريخي تدفع كل حمية ثورية إلى التسلط والاستبداد.

لقد شغف رسل بالفلسفة والرياضيات، وتمنى أن يجد فيهما شيئاً من الاطمئنان يغنيه عن اعتناق الأديان، ولقد حقق أحد أحلام طفولته في أن تصله رسائل وخطابات مدح وثناء من العلماء الأجانب الذين لم يعرفوه إلا من كتاباته، وفي المذكرات حديث عن الكثير من رجال عصره وأدبائه مثل جورج برنارد شو الذي يعدد جهوده ودوره ويقول عنه "لقد كانت لبرنارد شو فضائل كثيرة تستحق الإعجاب، كان غير هياب بالمرة، وكان يعبر عن آرائه بنفس القوة سواء أكانت تعجب الجمهور أم لا تعجبه، والخلاصة أنه كثيراً ما عمل صالحاً وقليلاً ما أساء، وأنه كحاطم أصنام جدير بالإعجاب، ولكنه كصنم لا يستحق كل هذا الإعحاب". ويحكي لنا عن جوزيف كونراد الذي كتب خطابا لبرتراند رسل بعد أول لقاء بينهما، يقول فيه "عاطفة إعجاب عميق لو لم يقدر لك أن تراني بعد اليوم وقدر أن تنساني غداً لظلت العاطفة قائمة عندي بلا تغيير للأبد".

كنت أعود للنسخة القديمة المترجمة عن دار المعارف وشعرت أنها أكثر تفصيلا وشرحا لحياة رسل، لقد شعرت بالمتعة وأنا اقرأ هذه المذكرات. أنك تتمتع بالعبارة المتزنة والكلمة الطريفة وخلاصات التجارب بين السطور، ويحلو لك أن تضع علامة على سطر أعجبك وتردده أمام صديقك، ولقد تذكرت كتاب عصارة الأيام لسومرست موم وأنا اقرأ في مذكرات برتراند رسل، لعل المشترك بينهما هو السرد السلس وتحليل المواقف وبعض من خفة الروح والتواضع في تقدير الذات. والطريف في شخصية رسل وهو الرياضي والفيلسوف سلاسة اللغة لديه، إنه يشرح ما يريده بجلاء على الأقل في سيرته ويطمئن قلبك وهو يعترف بغموض كثير من أفكار صديقه هوايتهيد الفلسفية. إنها رحلة ممتعة تتعرف فيها على شخصية رأت نفسها منذ طفولتها خلقت لجلائل الأعمال واحتكت بالعقول المميزة، وترى في الصفحات وصفا للكثير من الشخصيات مثل د. ه. لورنس و ه.ج. ويلز وجورج سانتيانا وغيرهم ممن احتك بهم.

[1] ترجمة عبد الله عبد الحافظ، فايز إسكندر، شفيق مجلى، أمين العيوطي، ومراجعة شوقي السكري.

 

كلمات مفتاحية