بالإجابة عن سؤال.. ما أهمية المشاركة الطلابية في القضايا السياسية؟

2024.05.26 | 05:16 دمشق

آخر تحديث: 26.05.2024 | 05:16 دمشق

655555555555555555
+A
حجم الخط
-A

سعت الأنظمة "المستبدة" باستمرار لاحتكار العمل السياسي لنفسها عندما جردت الفضاء العام من مساحاته الحرّة وذلك خلال مساعيها على مدار العقود الماضية لإعادة تعريف المجتمع من جديد بما يتماهى مع نظرتها تجاه الدولة بتعريفها السلطوي، وقد سعت لتجريد المجتمعات من كل أدواتها العامة ومساحات نضالها وقد ربطت المجتمع المدني بها كأداة تعبّر عنها وعن إرادتها لا عن إرادة الناس أنفسهم؛ وذلك بالنظر إلى النموذج السوري وطريقة تعاطي نظام الأسد مع النقابات الطلابية وفق سياقات مختلفة على اختلاف أهدافها لكن دائماً كان العنوان العريض اعتباره أداة سلطة.

لم تكن هذه المقاربة تجاه المجتمعات القاطنة في دول تصنف أنّها في دول مستبدة وحدها ولم تكن مجرد تكتيك لضبط المجتمعات بقدر ما أّنها تحوّلت لثقافة عامة ضمن إطار محاولة تجفيف السياسة وإبعاد المجتمعات عن أي مطالب خاصة بقضايا ربما عنوانها الأخلاقي أكثر من السياسي نفسه مع أنّه بات من الصعب الفصل بين القضايا وتجريدها المطلق من التداعيات السياسية كما في الحالة السورية والفلسطينية.

ورغم أن سؤال الفصل بين السياسة والشأن العام مطروح منذ عقود في المنطقة وشغل نقاشات واسعة إلّا أنّه بعد الربيع العربي بات أكثر إلحاحاً الإجابة عليه؛ ليس لأسباب علمية بقدر الحاجة الواقعية له، لأنه ارتبط بقرارات مصيرية في المنطقة، لا سيما عندما يتم الحديث عن ضرورات الانخراط في الربيع العربي أو لا أو مناصرة القضية الفلسطينية أو لا.

وقبل الإجابة على التساؤل نفسه، لعلّه من المهم القول إنّ هياكل السلطات المستبدة كلها معرضة للثورة وقد نقل أرسطو ذلك واصفاً هياكل الحكم كلها، لكن ربما "المستبدة" هي أكثر عرضةً من غيرها وذلك لأسباب ذاتية خاصة بواقع النموذج نفسه أو موضوعية بخصوص الاستبداد نفسه.

كان الحراك الطلابي في الولايات المتحدة الأميركية ذا صخب أوسع وقد ارتبط بقضايا مختلفة منها: القضية الفلسطينية، الاستعمار الخارجي، التمييز بين البيض والسود.

ومثال الجامعات السوريّة من أهم مساحات الفضاء العام التي انطلقت للتظاهر معربةً عن قطيعتها التامة مع منطق السلطة "فصل السياسة" وقد برر طلبة سوريا حينها تلك الثورة بأنها استحقاق وطني وأخلاقي أكثر من كونه سياسيا مع أنه لا يخلو من محاولاته السياسية بلا شك، هذه القطيعة لم تكن فقط مع نظام الأسد وإنما مع هياكل حكمه وكانت ربما مع ثقافة الأسد أو الاستبداد بتعبير أوسع وأدق.

هذا التحوّل خاضته الجامعات الفرنسية مطلع ستينيات القرن الماضي لدوافع مختلفة؛ عندما رفضت سياسات الرئيس الفرنسي "شارل ديغول" بخصوص الواقع الاقتصادي والتعليمي ولعلّ أسباب الثورة كانت إقليمية أكثر من أن تكون محلية، وهذا يدفع للاعتقاد أنّه من الصعب فصل السياسة عن فئات اجتماعية مختلفة على رأسها الطلبة، كانت حينها ثورة مايو/ أيار التي حملت شعار "من اللا ممكن إلى المستحيل" أو "كن واقعياً واحلم بالمستحيل" إذعاناً لضرورة انخراط الطلاب في الاستحقاقات السياسية المؤثرة في حياتهم وواقعهم وتفضيلاتهم التعليمية وسرعان حينها ما انتشرت الثورة لمعظم دول العالم، وساهمت بتغيرات كبيرة ومتغيرات أكبر منها إمكانية مساهمة الطلاب في التغيير بالتالي تغيير اعتقاد اللا ممكن السابق، وبالفعل كانت سبباً غير مباشر لإنهاء حكم ديغول في فرنسا لكن المساهمة الأهم أنّها وضّحت دور الطلبة حول العالم في دائرة الحياة السياسية والقضايا الدولية.

لم تكن ثورة مايو وحدها منعطفاً في الحركات الطلابية بقدر ما كانت استمراراً لتلك الحركات، ربما كان الحراك الطلابي في الولايات المتحدة الأميركية ذا صخب أوسع وقد ارتبط بقضايا مختلفة منها: القضية الفلسطينية، الاستعمار الخارجي، التمييز بين البيض والسود. لكن كان حضور القضية الفلسطينية هو الأكثر زخماً من قبل الطلبة في جامعات عريقة ومهمة خاصة في الحراك الأخير الذي أخذ طابعاً غير عادي من جراء الدعم الأميركي للعمليات العسكرية على غزة وحصارها منذ الربع الأخير من عام 2023.

أربك هذا الحراك المؤسسات الأميركية الرسمية بما في ذلك الرئيس الأميركي "جو بايدن" الذي اضطر لصياغة تصريحات "شرق أوسطية" فيها تمازج مع فقه الاستبداد في تبرير عمليات ملاحقة الطلبة في الجامعات ومنعهم، وأحياناً اضطر بعض الساسة بالولايات المتحدة إلى استعارة مصطلحات رجعية تمثل حالة لا دولة بما في ذلك اتهام المتظاهرين بأنهم غير أميركيين أو لاجئين أو مغتربين وذلك بالاعتماد على سياسات تميزيّة مشابهة لحد كبير تلك التي يطلقها قادة في مجموعات غير رسمية أو ساسة متطرفون.

من الصعب فصل الحياة السياسية عن الاستحقاقات المتعلقة بقضايا تلامس حياة الناس بشكل مباشر.

وكان جزء من الدعوات للطلبة بضرورات الاهتمام "بشؤونهم" الدراسية بدلاً من الانخراط في قضايا "سياسية" ومن هنا يمكن لحظ مدى تماهي عناصر الخطاب بين الغرب والشرق عند استحقاقات كهذه، ليس على مستوى الشعوب وإنما على مستوى القيادات؛ وعند هذه النقطة لا بدّ من القول إنّ الكثير من الطلبة الذين ناصروا القضية الفلسطينية بكونها إنسانية وأخلاقية وهذا ربما يفتح نقاشاً أوسع على ضرورة عدم تضييق أو أدلجة أيّ قضية أخلاقية لأنها قد تعبّر عن شعوب واسعة حول العالم بصرف النظر عن الانتماءات الدينية أو التصنيفات بين الغرب والشرق، بما أنه من الصعب في الحالة الفلسطينية فهم مقولات العدالة والمساواة والحرية داخل المنطقة وحدها.

لذا، من الصعب فصل الحياة السياسية عن الاستحقاقات المتعلقة بقضايا تلامس حياة الناس بشكل مباشر أي "لا حزبية" تلك التي فيها نزعة وطنية أو أخلاقية كحال القضيتين الفلسطينية والسورية، الفلسطينية كونها تعتبر الدولة الأخيرة المستعمرة في الشرق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولم يستطع لحد اللحظة أهلها "تقرير مصيرها" وفقاً للقانون الدولي والإنساني وميثاق الأمم المتحدة، أمّا السورية بكونها تعتبر صراعاً بين مجتمع أراد التغيير -ومازال- وبين سلطة مستبدة كانت سبباً رئيسياً في دمار البلاد، صحيح أن دور النقابات الطلابية وحتّى تعريفهما يندرجان ضمن نطاق الدفاع عن مصالح الأفراد لكن هذه التعريف السائل من الصعب اعتماده دون لفت النظر لمتغيرات السياقات نفسها خاصة عندما يرتبط الأمر بقضايا أخلاقية وشعوب يتم إبادتها بشكل جماعي، في هذا الإطار تميّز اليساري النقدي "أنطونيو غرامشي" في تعريف "المثقف العضوي" المنخرط في القضايا العامة أو (The Intellectuals) من منطلق أخلاقي والقادر على التغيير بالقدرة على "الاشتباك" في القضايا العادلة وتحقيق الهيمنة الثقافية للمضطهدين، كما استخدم عزمي بشارة مصطلح "المثقف العمومي" (Public) خلال توصيفه للمثقف الذي تتجاوز ثقافته الاختصاص ومتفاعل مع الشأن العام بأدوات عقلانية ومنطلقات أخلاقية أي القادر على الجمع بين الثقافة والموقف الأخلاقي ولعلّ هذا النموذج ينطبق على الكثير من المفكرين العرب كمحمد كرد علي، نازك العابد، ساطع الحصري، بطرس البستاني وغيرهم كثر.

بالتالي ابتعاد الطلبة بوصفهم مثقفين عضويين أو عامين عن مسؤوليات أخلاقية كهذه سيساهم في تعزيز الاستعمار والاستبداد في المنطقة، وقد يكون من الصعب الاعتقاد بأن هناك تغييراً اجتماعياً ووطنياً وإنسانياً يمكن أن يحصل بإبعاد الطلبة عن معادلة التغيير نفسها، وبالقدر الذي يتحمل الطلبة مسؤولية النضال يتحملون مسؤولية بناء النظام الديمقراطي والدولة التي تمثل مصالح شعبها عبر "احتكار العنف" وفق مفهومين أساسيين؛ الديمقراطية والدولة بمفهومها المواطني وليس السلطوي لأنه إذ تجردت الدولة من المفاهيم الأخلاقية وأركانها وحواملها المجتمعية تصبح مجموعة من التجريدات العامة المستقرأة من فلسفة الاستبداد.