انسداد إيراني في العراق

2022.08.21 | 07:06 دمشق

انسداد إيراني في العراق
+A
حجم الخط
-A

الكل يعرف، وسواء إن كان الأمر قد تم بموجب صفقة مصالح أم جاء كنتيجة عمى وسوء حساب سياسيين، أن الولايات المتحدة الأميركية قد قدمت العراق على طبق من فضة لإيران عقب احتلالها له عام 2003. ومنذ عام 2005 تحولت إيران إلى حاكم فعلي ومتصرف بشؤون العراق، عن طريق الأحزاب والميليشيات العراقية التابعة لها، برضى تام من قبل الولايات المتحدة الأميركية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى انتفاضة تشرين عام 2019، التي قادها شباب العراق ضد فساد السلطة والتدخل الإيراني المكشوف في شؤون بلدهم، وإيران تعاني من انسداد سياسي في العراق.

فتلك الانتفاضة الشجاعة أجبرت أذرع إيران الحاكمة للعراق على إزاحة إحدى أكثر حكوماتها ولاء لإيران من سدة الحكم واستبدالها بحكومة تصريف أعمال أجرت انتخابات مبكرة وغيرت ميزان القوى، في ما يسمى بالبيت الشيعي، لصالح الأحزاب الشيعية المعادية للتدخل الإيراني ولو ظاهرياً.

عانى العراق، وما زال يعاني، من انسداد سياسي، بسبب رفض إيران القبول بنتائج الانتخابات، وبالتالي عدم قبول أذرعها التي تحكم العراق، التخلي عن هيمنتها على مراكز صناعة القرار

ولأن نتائج انتخابات تشرين الماضي لم تأت على هوى المصالح الإيرانية وأذرعها وميليشياتها، عانى العراق، وما زال يعاني، من انسداد سياسي، بسبب رفض إيران القبول بنتائج الانتخابات، وبالتالي عدم قبول أذرعها التي تحكم العراق، التخلي عن هيمنتها على مراكز صناعة القرار العراقي، السياسي والاقتصادي، فلجأت للتشكيك بنزاهة الانتخابات تارة، وأصرت، وما زالت تصر على أن تكون الحكومة الجديدة توافقية، وبقيادة أكثر أذرعها ولاءً، وتمثل جميع أحزاب البيت الشيعي، للممثلين لها والساهرين على مصالحها، تارة أخرى.

ولأن خصم إيران وأذرعها في هذه الانتخابات، رجل الدين الشيعي الشاب مقتدى الصدر (صاحب أكبر قاعدة شعبية وميليشيا مسلحة على الأرض)، أصر على أن يتفرد بتشكيل الحكومة الجديدة، بموجب حصوله على أكبر عدد من مقاعد البرلمان (73) مقعداً، عانت إيران، (لأول مرة طوال ما يقرب من عشرين عاماً من حكمها المباشر للعراق) من انسداد سياسي عجزت عن اختراقه وفرض إرادتها، في تشكيل حكومة تكون موالية لها بنسبة 99،99 بالمئة، كما جرت العادة في الحكومات السابقة.

وعليه، ووفق حسابات الحقل والبيدر، فإن ما يعانيه العراق منذ عشرة شهور هو انسداد إيراني وليس انسدادا سياسيا عراقيا، يقوم على اختلافات بين أحزاب سياسية داخل بلد واحد. فإيران مصرة على عدم السماح لأي جهة من الاقتراب من صورة الخارطة السياسية التي قررتها ورسمتها للعراق، وهي صورة الضيعة أو الولاية التابعة لتاج وليها الفقيه، التي يصل خراجها للخزينة الإيرانية بأيد عراقية، دون نقاش أو تعب، وهذا بصيغة الحساب المباشرة فقط. أما الصورة غير المباشرة للهيمنة الإيرانية على العراق وصيغة مصالح إيران العابرة لحدوده، فهي تتمثل فيما يمثله العراق لها، كقاعدة لاحتلالها للمشرق العربي وهلالها المذهبي الذي تطوق عبره دول الخليج العربي، عبر سوريا ولبنان، وأوجه دعمه – العراق – لنظام بشار الأسد وحزب حسن نصر الله في لبنان، وهما الذراعان اللذان تهيمن إيران عبرهما على القرار السياسي ومصير البلدين، وما ينفذه الطرفان من حروب وقمع وتنكيل للشعبين السوري واللبناني الرافضين للهيمنة الإيرانية.

إذن الانسداد السياسي الذي يعانيه العراق هو انسداد تفرضه دورة المصالح الإيرانية وتشعباتها الإقليمية. وهو انسداد يجب أن يستمر إلى حين أن تتمكن إيران من إقناع أو اجبار مقتدى الصدر على الرضوخ لدورة مصالحها التي لا يراها أو يعجز عن تقدير مخاطر المساس بها، لأن العراق ليس وحده المطلب الإيراني، بل هو مجرد قاعدة انطلاق لتطبيق مشروع الهيمنة الفارسية على المشرق العربي، ذلك المشروع الذي شرع قواعده الخميني تحت مسمى تصدير ثورته المذهبية.

فالعراق، وهذا ما يبدو أن مقتدى الصدر يجهل مخاطر المساس به، هو مصدر إدامة ماكينة قتل وهيمنة بشار الأسد وحسن نصر الله، على الشعبين السوري واللبناني، بالتمويل المادي والعسكري والميليشياوي المقاتل، وبالتالي فهو قاعدة هيمنة إيران على قرار ومصير البلدين، وعليه فإن عملية سيطرة مقتدى الصدر على حكومة عراقية، تطبق ما يردده من شعارات على لسان أتباعه المعتصمين حالياً في مبنى البرلمان وحوله، إنما سيعني عملية إحداث شرخ في مسيرة تنفيذ مشروع الهيمنة الإيرانية على البلاد العربية المجاورة لها، وهذا ما لن تسمح به إيران حتى لو اضطرت لقتل مقتدى بل وحرق العراق كله وبما فيه.

عشرة أشهر من الانسداد السياسي في العراق كانت بقرار وأوامر حكومة إيران ووليها الفقيه لأحزابه التي تحكم العراق، جربت خلالها هذه الأحزاب كل أشكال التحايل على نتائج الانتخابات والالتفاف عليها وكل أشكال المراوغة للدستور وأحكام ما يسمى المحكمة الاتحادية العليا (أعلى سلطة قضائية في العراق)، من أجل خداع أو إقناع مقتدى العنيد بالعودة عن غيه في رفع عصا الطاعة على ولي إيران ومن ينوبون عنه في حكم العراق، وربما ستستمر عشرة أشهر أخرى، فيما لو أصر هذا الشاب الجاهل بأبعاد وأهداف المشروع التوسعي الإيراني، دون توقف أو اهتمام أذرع إيران المنافسة له على السلطة، أمام قضية أن هذا الانسداد يعطل أمر البلد كاملاً ويضر بمصالحه في كافة النواحي. فالمهم في النهاية هو بقاء العراق تحت سلطة تاج الفقيه الإيراني، وأن يبقى ممر تواصل للحرس الثوري مع نظام بشار الأسد وحزب نصر الله، إضافة لتمويل واردات نفطه لماكنة قتلهما للشعبين السوري واللبناني حتى يستسلمان ويخضعان لحكم ولي إيران وتحت راية حكمه الطائفي.

أكثر ما يقلق إيران في أمر تصفيته هو جر شيعة العراق لحرب شيعية – شيعية، عبر حرب ثأر أتباعه له من قتلته

إيران التي لجأت للعبة الانسداد السياسي في العراق طوال العشرة أشهر الماضية، وهي مستعدة لإبقائها لعشرة أشهر أخرى، لا يمثل لها ثقل عائلة مقتدى الديني شيئاً ولا شخصه، فهو في نظر القيادة الإيرانية مجرد شاب جاهل ونزق ولا يقدر عواقب الأمور، وكان بإمكانها اغتياله وتصفيته بأيدي منافسيه السياسيين العراقيين في وضح نهار مشمس، ولا يمنعها من هذا سوى حجم ثقله في الشارع الشيعي وأتباعه المنتظم أغلبهم في ميليشياته المتعددة والتي يفوق عديدها عدد ميليشيات باقي الأحزاب الشيعية مجتمعة، وعليه فإن أكثر ما يقلق إيران في أمر تصفيته هو جر شيعة العراق لحرب شيعية – شيعية، عبر حرب ثأر أتباعه له من قتلته، وهم مشخصون لهم عبر ما يحاك له، لمنعه من تشكيل الحكومة، من يوم ظهور نتائج الانتخابات التي فاز بها، على الأقل.

إذن ليستمر الانسداد السياسي الذي تلعب، عبره، إيران لعبتها في العراق، لعشرة أشهر، بل ولعشرين شهراً أخرى، وليبقى العراق دون حكومة ودون ميزانية مقرة ودون خدمات ودون دورة حياة اقتصادية واجتماعية، لحين عودة الولد الضال إلى بيت الطاعة الإيراني وتسليمه لإرادة وحكم وليها الفقيه، لأن إيران ليست متضررة من هذا الوضع، بل إن ضررها الوحيد سيتأتى من تسليمها لمقتدى الصدر، الذي يريد تقويض هيمنتها على العراق، قاعدة هلالها الشيعي الذي تسعى إلى تحويله إلى بدر، تام الاكتمال، ليغطي كامل دول المشرق العربي.