انتخابات الأسد ولعبة الصورة

2021.06.01 | 06:49 دمشق

5af8d87d-f46c-4a8a-acde-08f4d2e590a6.jpg
+A
حجم الخط
-A

المتابع لإعلام النظام السوري والإعلام الموالي له خلال فترة الانتخابات، ومن ثم تصريحات مسؤولي النظام، لا بد أن يلحظ تركيز الجميع على فكرة واحدة وهي "الحشود الجماهيرية" التي تهتف للقائد وتطالبه بمواصلة المسيرة. وحتى بشار نفسه، استشهد بتلك الحشود كدليل على شعبيته وحب الناس له، ورغبتهم في أن يكون رئيسا لهم.

والواقع أن لعبة "صناعة الحشود" أو "المسيرات المليونية" تتقنها كل الأنظمة الديكتاتورية، عبر وسائل ليست خافية على أحد بعضها ترغيب وجلها ترهيب، وقد عرفت سوريا مثل هذه الظاهرة عبر العقود الماضية من عهد حافظ الأسد وصولا إلى ابنه الوريث. كما عرفتها مصر والعراق وليبيا واليمن وغيرها من الدول العربية وغير العربية.

الماكينة الدعائية لنظام الأسد عجزت خلال الانتخابات الأخيرة حتى عن بلوغ هذه الدرجة من التكاذب، ولم تنجح في تأمين حشود يعتد بها

ومن المعلوم أن "حشد الجماهير" إنما يستهدف تقديم انطباع للرأي الجمعي الداخلي، وتصدير صورة للخارج بأن القائد هو موضع حب وتقدير شعبه، وهي لعبة يعلم الجميع أسرارها وفنونها ويدركون أنها كاذبة ومضللة، ولا تعكس حقيقة موقف الجمهور من السلطة السياسية التي تحكمه. بل إن الحاكم وأعوانه يعلمون أيضا حقيقة موقف شعبهم، حيث معظم الناس مجبرون على مداهنة السلطة بفعل الخوف، ومع ذلك فإن الجميع "يتواطؤون" على استمراء الكذبة والتصرف على أنها حقيقة، لأن مجاهرة أي طرف بموقفه الحقيقي ستعني "انهيار اللعبة"، وما قد يستتبع ذلك من مواجهة وصدام.

والواقع أن الماكينة الدعائية لنظام الأسد عجزت خلال الانتخابات الأخيرة حتى عن بلوغ هذه الدرجة من التكاذب، ولم تنجح في تأمين حشود يعتد بها إلا في منطقتين محسوبتين كلتيهما على النظام، أي اللاذقية وطرطوس، إضافة إلى ساحة الأمويين في دمشق والتي من البديهي أن يتمكن النظام الذي يحكم قبضته الأمنية على العاصمة أن يحشد فيها، اعتمادا على مواليه الذين يستوطنون هناك منذ أمد بعيد، ناهيك عن فئة المنتفعين والموظفين المغلوبين على أمرهم.

أما في المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة النظام مثل حلب وشرق سوريا، فقد أخفق النظام في تأمين حشود كبيرة، وعوّض عن ذلك بالدبكات والرقصات التي تضم عددا محدودا من الناس بينما قاطعت محافظة درعا الواقعة نظريا تحت سيطرة النظام الانتخابات، بل وشهدت مظاهرات حاشدة ضده وضد الانتخابات ومثل ذلك حدث أيضا ولو بدرجة أقل في محافظتي القنيطرة والسويداء المجاورتين.

ومع إخفاق النظام حتى في حشد الحشود الجماهيرية، ولو بطرق الترهيب والترغيب لجأ إلى وسيلتين إضافيتين:

الوسيلة الأولى هي "تكبير الصورة"، وهي نظرية أشار إليها بشار الأسد منذ بداية الانتفاضة الشعبية في سوريا، حين ادعى أن المظاهرات التي كانت تخرج ضد نظامه آنذاك كانت أعداد المشاركين فيها محدودة، لكن يجري التلاعب بالكاميرا، والتركيز على الوسط بينما الأطراف خالية من الناس. وبالفعل هذا ما كان في مسيرات النظام خلال الانتخابات حيث تركز الكاميرا بلقطات بعيدة على وسط الحشد لكن من زوايا مختلفة، وحين تقترب أكثر لا بد أن يلحظ المرء وجود فراغات كبيرة بين الأفراد، يجري تغطيتها برفع الأعلام واللافتات.

وقد حافظت وسائل إعلام النظام وتلك التي تدور في فلكها طيلة فترة التحضير للانتخابات وفي يوم الانتخابات والأيام التالية على شاشة موحدة وثابتة تقريبا، تكرر صور الحشود الجماهرية وصور المضافات التي تحتفي بالانتخابات كرد على منتقدي إجرائها، وعلى "المبايعة" للأسد كرد على المشككين بشرعيته، والاتهامات التي توجه له بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. حتى المحللين الذين استضافهم ذلك الإعلام لم يكونوا منشغلين بأية تحليلات سياسية ذات معنى، بل فقط بتفسير صورة الحشود وتحميلها المعاني التي يرغبون، بوصفها الدليل القاطع على شعبية النظام ورئيسه.

كما يلاحظ أيضا التركيز على "تنوع الصورة" من ناحية التوزع الجغرافي ليشمل قدر الإمكان كل المناطق التي تحت سيطرة النظام، والتنوع في الفئات التي تعرضها الصورة، حيث التركيز على مناطق المعارضة سابقا، ورجال الدين بهدف إعطاء انطباع أن "الرئيس" هو للجميع وليس لطائفة معينة، ومن هنا حرص الأسد على الإدلاء بصوته في يوم الانتخابات في مدينة دوما بالغوطة الشرقية، تلك المدينة التي ضربتها قواته عام 2013 بالسلاح الكيماوي ومن ثم هجرت معظم سكانها إلى الشمال السوري، وأحلت مكانهم سكانا جددا من الموالين للنظام.

من الواضح أن نظام بشار الأسد بات يتصرف كمنتصر في الحرب. لكن حتى "المنتصر الذكي" كان سيتصرف بشكل مختلف

والوسيلة الأخرى التي لجأ إليها النظام في مواجهة التشكيك بشرعية انتخاباته من جانب مجمل المجتمع الدولي، فضلا عن المعارضة السورية، هي التلاعب بالأرقام، والمبالغة المكشوفة في أعداد المشاركين في الانتخابات، والمصوتين لرئيس النظام والذين زاد عددهم ببضعة ملايين عن مجمل الموجودين فعليا في المناطق التي يسيطر عليها النظام، بمن فيهم الأطفال والرضع والبالغ عددهم نحو 9 ملايين شخص.

من الواضح أن نظام بشار الأسد بات يتصرف كمنتصر في الحرب. لكن حتى "المنتصر الذكي" كان سيتصرف بشكل مختلف، كي يساعد نفسه وحليفته روسيا على إعادة تعويم نفسه، مثل إطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين والانفتاح على اللاجئين في دول الجوار.. الخ.. بدل ذلك، استخدم النظام الأساليب نفسها التي درج عليها منذ أكثر من نصف قرن وهي الاعتماد على الصورة كتعويض عن الشرعية. صورة "الحشد الجماهيري" في الساحات وصورة الناس التي تهتف وتدبك وتصفق، وصورة التنفيذ الحرفي للدستور والقانون الذي وضعه هو نفسه، وأضاف إلى ذلك وجود مرشحين منافسين.. الخ.  كلها صور معلبة هدفها ترويجي كتعويض عن النقص فيما هو حقيقي ومطالب به من شعبه ومن المجتمع الدولي.

ما يساعد النظام على استمراء هذه اللعبة، إدراكه عدم وجود أي ضغط جدي عليه من الخارج. وطبعا عينه على واشنطن، حيث الرسائل التي تصله أن إدارة بايدن مشغولة فقط بعقد صفقة مع إيران، ولا يعنيها شيء آخر. والصفقة التي يجري الحديث عنها ستكون لصالح النظام طبعا، لأن التوافق بين واشنطن وطهران سيعني بيع سوريا وغير سوريا لإيران، لأن الشيء الوحيد المقدس في المنطقة عند هذه الإدارة، وكل إدارة أميركية، هو إسرائيل وما عدا ذلك قابل للمساومة.