اليوم العالمي للتعليم.. ماذا يعني في سوريا؟

2022.01.26 | 05:10 دمشق

thumbs_b_c_7a852a4cb6820825cecadde498e0d089.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان يُقال قبل ما رأيناه من تعامُل المجتمع الدولي مع القضية السورية: لغة الأرقام مؤثرة جداً لتحريك الرأي العام!

ولكنْ يبدو أنه حتى هذه الوصفة العالمية لم تعد تنفع في قضيتنا؛ فالأرقام التي دأبت المنظمة الدولية للطفولة "يونيسف" على إصدارها مما يحسب المرء أن تنخلع لها القلوب، أو تتحرك لها جيوش العالم المتحضّر لم تخلع غير قلوبنا ولم تحرّك إلا أيدينا لمسح دموعنا ونحن نبكي ما وصلنا إليه.

فما هي إلا 2.8 مليون طفل سوري غير ملتحقين بالعملية التعليمية؛ منهم أكثر من 800 ألف طفل سوري لاجئ في دول الجوار ومليونين في الداخل السوري، و180 ألف موظف من العاملين في سلك التعليم تركوا العمل، و2 من كل 5 مدارس لا يمكن استخدامها؛ وذلك بحسب تقديرات اليونيسف.

ومع شدة ما تتركه هذه الأرقام من أسى وألم في نفوس الأحرار؛ فإن طول النحيب والبكاء يذهب بالصوت ويقعد بالإنسان عن السعي يُبطل حواسه ويعطّل قدراته.

ولعل السوريين اليوم أكثر قناعة من أي وقت مضى بأن "أصدقاء الشعب السوري" لا تعدو أن تكون واحدة من كذبات أول نيسان، تشبه تلك التي فيها "ما جئنا إلا لنصرتكم"! وأنه لا نُصرة - على الحقيقة؛ لا على التهويل والتطبيل – لأطفال سوريا وتعليمهم إلا من السوريين أنفسهم؛ فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، كما يُقال.

وحيث إننا بارعون جداً في الهروب من المسؤولية واتهام الآخرين يتسارع إلى أذهاننا على الفور تساؤل:

مَن المتهم؟ مَن السبب؟ مَن السارق؟ مَن .. مَن؟؟

وإن جاز في كثير من تساؤلاتنا وجوهُ إعرابٍ مع ترجيح وجهٍ بالقرائن؛ فإن من الصواب والإنصاف في التعليم اتهام أنفسنا - نحن السوريين- جميعاً بالتقصير فيه.

وليس هذا جلداً للذات أو تسخيفاً لمشكلة معقدة؛ بل لأن الواقع يُدين الأهالي والعسكريين والمجالس المحلية والحكومات التنفيذية جميعاً بجريمة استمرار تدهور التعليم في الداخل السوري.

وأول ما نحتاج إليه عند الحديث عن التعليم هو هوية التعليم الذي نريد وما يحتاج إليه الوطن؛ فإنه التعليم الوطني الجامع الذي يتجاوز بالطفل مقعده المتكسر في مدرسة مؤقتة مستأجرة، وينهض بالطفل من على الحجر الذي يجلس عليه في خيمة التعليم المهملة ضمن مخيمه، لتتعلق عينه بأرقى مدارس دمشق وحلب وحمص؛ لأنه ينافسهم في التحصيل رغم انتفاء - وليس تدنّي - الإمكانات بين يديه، ولم يخرج هو أو أهله قبل أن يُدرك ليكون تعلّمه حيث هو الآن وكما هو؛ بل رجاءً للحرية وتحسين مستوى التعليم وخلوصه من فيروسات البعث والأسد والتشبيح.

والتعليم الوطني المأمول هو الذي يضبط للطلاب والأهالي البوصلة تجاه الهوية المنشودة لسوريا في زحمة تداخلات الفاعلين الدوليين والمحليين، وما يعصف بالبلد كله من التأثيرات الناعمة التي تلج من بوابة التعليم قبل غيره؛ لا سيما مع غياب منهاج موحد يكون دستور الهوية، وكذلك غياب أي ضوابط للسياسات التعليمية في عموم الشمال السوري المقسَّم أكثر من تقسيم!

وأمّا أننا جميعاً نتحمّل المسؤولية فلا أحسب أننا نتخالف كثيراً في ذلك، بقَدْر ما نختلف في طريقة الخروج من هذه المسؤولية وإبراء الذمّة؛ فنضحك على أنفسنا إنْ رَمَينا العسكريين وحدَهم بالشقاق والنزاع أو "عدم التعاون والتنسيق" بعبارة لطيفة، ولن أخوض في الارتهان والسمع والطاعة لأحد؛ فهو في بعض مؤسساتنا وسلطاتنا المدنية والإنسانية أشد من العسكرية ... لكنني أتجاوزه!

من أصعب المشكلات توضيح الواضحات؛ فما زال كثيرون من الأهالي لا يقدّرون خطورة حرمان أطفالهم من التعليم، حتى قال لي مدير مدرسة في مخيم: "هؤلاء الطلاب وأهاليهم معنا كمَن يعبد الله على حرف؛ فالمدرسة آخر اهتمامهم، فالمواسم الزراعية مقدمة عليها، وتسلُّم المعونة... وحتى بازار الخضر والفواكه"!

لا يخالف أحدٌ بقسوة الحال على الناس؛ ولكن من الصراحة والنصح اللازم أنه يجب الاهتمام أكثر بكثير من الأهالي بالتعليم، وهذا ما يشترك بمسؤوليته الدعاة والمرشدون والخطباء والساسة وكل أحد.

لأننا لم نبلغ بعدُ أن يكون التعليم الواجب حديث الناس في كل المحافل والمشاهد، وما زالت سلة الإغاثة مقدمة عليه ويترك الأطفال المدارس لتحصيلها والسعي خلفها، وما زلنا نُحسن في حديث التعليم أكثر ما نُحسن نقدَ هذا المعلم وتلك المعلمة وهذه الإدارة وتلك المؤسسة.

فلماذا لا يصبح تعليم الأطفال السوريين قضية رأي عام؟ لا يكون في المراكز والمؤسسات، بل يكون حديث الشارع والمساجد ومنابر الإعلام ومنصات التواصل؛ ولا أعني الحديث الموسمي في اليوم العالمي للطفل أو للتعليم، فذاك حديثٌ زبدٌ يذهب جُفاءً لا ينفع الناس؛ لأنه لا يتطور إلى أفعال ملموسة ومبادرات واقعية تخفف من مشكلة التعليم، ولا تزيدها بالانتقاد والتوتير وتحريض الناس ضدها.

لماذا نفشل ونحن جميعاً نسعى في ملف التعليم؟

قد يبدو تساؤلاً ساذجاً، لكنه مُحقّ، ومن دون فلسفة طويلة أو تنميق: هما أمران ما لم نتجاوزهما فلا نجاح في ملف التعليم برأيي؛ ألا وهما: التعاون والتخصص.

فأما التخصص فليست دعوة جديدة، لكنها تأكيد لإعادة انتشار للعاملين في الساحة؛ فقد نتوهّم أن مراعاة التخصص في أن يدرّس مجازٌ بالعربية النحوَ والصرفَ كما يدرِّس مجاز بالرياضيات مادتها، وإنما ذلك أهون التخصص.

إنما عنيت مراعاة التخصص فيما هو أعلى من ذلك؛ فأين التخصص في عمل المنظمات الداعمة للتعليم؛ وكثير منها يستحدث مشاريع ويفصّلها وفق هوى الداعم؟!

وأين مراعاة التخصص فيما يحتاج إليه البلد من التعليم مهنياً أو فنياً ثم علمياً ودينياً؛ فليس المهم أن يكون عندنا تعليم، بل لا بد أن يكون تعليماً يوافق الاحتياج مما هو قبل الجامعي، فالاهتمام بالسوق ليس في التعليم الجامعي فحسب كما يسبق الوهم.

ولا مراعاة للتخصص حينما تؤثّر العصبيات العائلية والمناطقية والفكرية في اختيار الإدارات التعليمية على مختلف المستويات.

وأما التعاون فهذا أكبر تحدٍّ واجهَنا في الثورة منذ انطلاقتها، وفشلنا فيه على مختلف الأصعدة، فمَن نجا من فخّ الأولى "التخصص" يخسر في اختبار الثانية "التعاون"؛ لأن العمل بروح الفريق مضطربٌ عندنا وصعبٌ علينا، وإن كانت تتصدع الرؤوس من دعايات الدورات التدريبية والورشات الخاصة حول العمل بروح الفريق والتعاون. فالأصل في مؤسسات التعليم بكل مستوياته التعاون وتقاسم الأدوار؛ لأن ذلك يعيننا أكثر على تحقيق التخصص، وهو الطريق الأقصر إلى النجاح.

وليس من التعاون التدافع في نوع واحد من مشاريع التعليم؛ لأنه يستهوي الداعمين دون باقي المشاريع والاحتياجات، ولغياب التعاون تغدو الغلطة من أي عامل هي غلطة العمر لأنها في المقابل "فرصة العمر" لغيره لينسفه ويستقطب ما كان له!

وأقبح ما يكون هذا بين المؤسسات المحسوبة على الحكومة ودوائر السلطة التنفيذية.

وأين التعاون حينما يضطر الطالب السوري المسكين في الداخل لمعادلة شهادته الصادرة في مدينة أو بلدة ما إن أراد التسجيل في جامعة في المدينة ذاتها قبل المدن الأخرى؛ ليس لشيء إلا لاختلاف المرجعية بين الجهة المصدِّرة للشهادة والجهة المستقبِلة! وكلا الجهتَين سوريّة تقدّر التعليم وتحرص عليه للسوريين؛ لكنّ تخالُفَهما نسفَ مقصود التعليم من تحقيق التوافق والتناغم وبناء المجتمع، ومثل ذلك أنّ كل مجلس يُصدر شهادة باسمه وختمه وكأنه بلدٌ بعلَمٍ وحدودٍ!

وأُدرك أن كثيرين ينتظرون انتقاد وزارة – أو وزارات – التربية والتعليم بحجة تقصيرها الأكبر في ذلك، وهم مقصّرون كغيرهم، لكنني – ولي رأيي – أخالفهم؛ فإن احتملت كل الوزارات أن تكون مهامها لها فحسب فوزارة التربية والتعليم في أي بلد مستقر – فضلاً عن بلد مضطرب بعشرات الأزمات – تنهض بحاضنتها وتعاون أهلها؛ لأن التعليم ضرورة مجتمعية، وأدعى أن يكون محل توافق وتعاون بين كل شرائح المجتمع مع الوزارة التي تتفرغ لتنهض بإدارة التعليم والتخطيط لتطويره أو تحسين مستواه؛ وكيف يكون ذلك لوزارة سُحبت صلاحياتها ولم يطالب بها أحد؟! وحُجبت عنها الموارد ولم يتبرع لها أحد؟! ثم ليس لنا إلا أن ننال منها.

مع الانتقال -ولو بالكلام- إلى مشاريع "التعافي المبكّر"؛ فلا بد أن نستحضر أنه لا "تعافي" سواءٌ "مبكّر" أو حتى "متأخر" من دون تعليم وطني جيد، ومن دون قَبول التنازل عن "وطنية التعليم" و"جودته"؛ فمع غيابهما يكون وبالاً على سوريا ومستقبلها.