icon
التغطية الحية

اليأس في الشمال اللبناني المنسي يدفع الناس لركوب البحر

2022.10.07 | 15:39 دمشق

اللبنانية دعاء عبد النور وزوجها زين الدين حمد بعد نجاتهما من كارثة غرق مركب قبالة سواحل طرطوس
اللبنانية دعاء عبد النور وزوجها زين الدين حمد بعد نجاتهما من كارثة غرق مركب قبالة سواحل طرطوس
واشنطن بوست - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

في الوقت الذي ألفت فيه دعاء عبد النور نفسها طافية فوق بحر لا قرار له، ونصفها العلوي قد تمدد فوق لوح خشبي، بينما تعلقت يدها بيد حبيبها منذ أيام الكلية، اكتشفت بأن ذلك سيكون شكلها من فوق، أي برأسها الذي برز من الماء كما تفعل شخصية في فيلم يحكي للجمهور ما حدث خلال كارثة ما.

طوال 36 ساعة، حاربت هي وزوجها الذي اقترنت به قبل أربعة أشهر ليظلا على قيد الحياة، بعدما غرق القارب الذي كان من المفترض أن يهربهما من لبنان إلى أوروبا. كان الظمأ قد تمكن منهما وكذلك الجوع، كما تورمت أيديهما وأرجلهما وهما يسبحان ويحاربان الأمواج التي لا تنتهي. أما سترة النجاة التي كانت ترتديها فقد تجمعت حول رقبتها وأخذت تكشط جلدها.

تخبرنا دعاء، 22 عاماً، عن زوجها زين الدين حمد، 24 عاماً: "بقي يقول لي: لم أعد أطيق أكثر من ذلك" إلا أنها لم تستسلم، حيث تقول: "قلت له: إن غرقت فسأغرق معك".

قامت قوارب الصيد المنتشرة بالقرب من جزيرة أرواد السورية بإنقاذ هذين الزوجين، بعدما أبحرت بحثاً عن ناجين من القارب الذي انقلب، والذي أبحر فجر يوم 21 أيلول حاملاً على متنه نحو 140 راكباً. وحتى الآن، تم انتشال ما لا يقل عن 100 جثة، كما تم نقل الناجين إلى مدينة طرطوس للعلاج، أما اللبنانيون فقد تم إرسالهم إلى لبنان.

كان لبنان وما يزال على الدوام موطناً لمن يملك كل شيء ولمن لا يملك أي شيء، إلا أن الهوة بين هاتين الفئتين قد تعمقت بنسبة كبيرة للغاية، إذ في مدن الشمال مثل طرابلس وعكار، بات معظم الناس يعيشون بلا كهرباء وماء، ولهذا أصبح أهالي تلك المنطقة يلقبونها بالشمال المنسي، إذ دفعهم اليأس لقطع مسافات مضنية بحثاً عن النجاة.

"ويسألونك: لماذا تسافر؟"

في سوريا، علمت دعاء بأن الجنين الذي كانت حاملاً به قد توفي، وعندما عادت إلى طرابلس، دخلت المشفى الحكومي بحالة إجهاض، فأخبرها الطبيب بأنها لا تستطيع أن تخضع للعلاج هناك بسبب نقص التمويل، لأنهم لا يستقبلون سوى الحالات الطارئة، ونصحها بأن تعود عندما يبدأ النزف لديها.

أمضت دعاء أياماً وهي تبحث عن الدواء الذي وصفه لها الطبيب، إلا أن الدواء زاد من ألمها، ولم ينته الأمر عند ذلك، لأن ألمها اشتد، وبما أنها تحمل شهادة بالتمريض، لذا فهي تعرف تماماً مخاطر عدم التخلص من جنين ميت.

وأخيراً، سمع أحد بوضعها واتصل بوزير الصحة الذي تدخل لوضع حد لهذا الكابوس الذي عاشته، وعن ذلك تقول: "هذا ما وصلنا إليه، إذ إنك بحاجة لواسطة حتى لو كنت تموت" ثم استخدمت كلمات تشير إلى المحسوبية والعلاقات التي حكمت حياة الناس في لبنان منذ فترة طويلة، ومع وصول البلد إلى حالة الانهيار، ما تزال المحسوبية العملة الوحيدة المتبقية التي يمكن تداولها في بعض الأحيان.

تعلق دعاء على ذلك بقولها: "طرابلس وعكار معزولتان عن لبنان، وكأنهما لا تنتميان لهذا البلد، فقد وصل الفقر هنا إلى مراحل سوريالية".

إلا أن حكام لبنان فشلوا في معالجة ما وصفه البنك الدولي بإحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، بعدما خسرت العملة اللبنانية أكثر من 96% من قيمتها منذ عام 2019، ولم تعد الرواتب تكفي، هذا في حال كان المرء محظوظاً وبقي في وظيفته.

ومع غياب خدمات الحكومة، مثل الرعاية الصحية والكهرباء، تم تقسيم البلد إلى مناطق نفوذ، كما أخذ الأهالي يتوجهون إلى السياسيين المحليين ويطالبونهم بتلبية حاجاتهم الأساسية.

تخرجت دعاء وكانت الأولى على دفعتها، إلا أنها لم تعثر على عمل، بل أخذت تراقب زملاءها ممن لديهم واسطات وهم يشغلون وظائف لا يستحقونها، وعن ذلك تقول: "لن تحس إلا باليأس هنا"، كونها تتحدث من بيت أهل زوجها حيث تعيش مع زوجها في غرفة ببيت أهله، وتتابع قائلة: "درست وعملت بجد لأكتشف الآن بأن من يحملون شهادات أقل من شهادتي حصلوا على وظيفة وترقية وأنا ما زلت أراوح في مكاني".

شعرت دعاء بإحباط أكبر بعد خسارتها لفرصتي عمل في السعودية، ولهذا قدمت أوراقها لتستخرج جواز سفر قبل عام، ولكنها ما تزال بانتظاره مثلها مثل معظم اللبنانيين الذين يحلمون بالخروج من البلد، إلا أن من لديه واسطة لم يقف في الطابور منتظراً.

وتعلق دعاء على ذلك فتقول: "هذا ما دفعنا للخروج مما نحن فيه، أي من نظام الواسطة والمحسوبية، بحثاً عن دولة متحضرة لا توجد فيها مثل تلك الأحزاب السياسية".

ترك زوجها دراسة التمريض والتحق بالجيش ليكمل دراسته، إذ يقول حمد عن زوجته: "كانت أذكى مني" إلا أن ميزانية الجيش خضعت لتخفيض كبير، وهكذ أصبحت وجباتهم تتألف من رغيفي خبز لكل جندي، وعلبة تونا يقتسمها عدة رجال.

تعلق دعاء على ذلك بتهكم فتقول: "ويسألونك لماذا تسافر بالبحر".

تعود أصول رئيس وزراء لبنان، نجيب ميقاتي، لطرابلس، كما ظهر اسمه ضمن قائمة فوربس لأغنى ألف ملياردير في العالم، إلا أن مدينة طرابلس التي تصنف على أنها ثاني أكبر مدينة في لبنان ما تزال تعاني من فقر مدقع، في ظل عدم وجود راع ليرعاها، كما أنه ما تزال أحياؤها تحمل شواهد وآثاراً من الحرب الأهلية التي وضعت أوزارها في عام 1990، ويتمثل ذلك بواجهات الأبنية المنهارة التي تنتشر فيها حفر بسبب طلقات الأعيرة النارية. كما تنتشر في الشوارع سيارات ميرسيدس-بنز التي تعود لحقبة السبعينيات، إلا أن أجزاءها ثبتت مع بعضها بفضل لاصق وحبل. أما الظلام فيغمر معظم الأبنية السكنية التي تحولت المصاعد فيها إلى ديكورات تزيينية.

يخبرنا والد حمد بأنهم أصبحوا يستخدمون الثلاجة كخزانة اليوم، حيث وضعوا داخلها بضعة قطرميزات من المخلل، مع بعض الخبز وحبة طماطم.

كما لم تعد المياه تصل إليهم منذ أشهر وذلك لأن المضخات تعمل على المحروقات التي تحولت إلى رفاهية في هذه الأيام، وفي ظل غيابها، أصبح الناس يشترون غالونات المياه من رجال يقومون بتوزيعها، ومنهم وسيم التوالي، الذي يعمل في الوظيفة الوحيدة التي تمكن من العثور عليها ليعيل أسرته. وبما أنه لم يعد قادراً على تخيل أي مستقبل له هنا، لذا قرر أن يصعد على متن القارب برفقة زوجته وأولاده الأربعة.

"سامحوني يا أحبائي"

باع وسيم بيته وكل شيء يملكه واقترض بعض المال ليدفع ثمن الرحلة البالغ 18 ألف دولار، وعندما رأى المركب قد ازدحم بالناس، رغب بالعودة هو ومعظم الركاب وكذلك القبطان، إلا أن المهربين كانوا يريدون أموالهم، ولهذا لم يسمحوا بذلك لأن يحدث، إذ يقول وسيم: "قالوا للقبطان: سنقتل أولادك".

وبعد مرور ساعتين ونصف الساعة فقط على بداية تلك الرحلة، توقف المحرك، وبدأ القارب بالغرق، فقفز الناس إلى الماء، وعمت الفوضى المكان. خسر التوالي زوجته سلمى، واثنين من أولاده، محمود ومايا، بعدما غابا عن ناظريه، أما والداه اللذان بقيا معه، فقد حاربا ليسبحا وسط الماء وليبقيا على قيد الحياة تحت أشعة الشمس الحارقة، وعن ذلك يخبرنا وسيم والدموع تنهمر من عينيه: "بقيت أقبلهما إلا أنهما بقيا يقولان لي: نريد ماء، فصرت أقول لهما: سيريحنا الله من هذا قريباً، ثم قلت: سامحوني يا أحبائي.. سامحوني".

راقب ابنه عمر وهو يغرق، ثم ربط سترة النجاة التي كان يرتديها بسترة ابنته ميمي، ووضع ذراعيها حول رقبته، فأخذت تغيب عن الوعي وتصحو وهو يحاول أن يبقيها طافية على الماء، فكان يصحو من النوم ليسمع صوتها الواهن وهي تقول له: "إنني معك يا أبي فلا تتركني"، لكنه لم يستطع إنقاذها هي أيضاً.

وعن ذلك يقول بصوت يغص بالألم: "لا أستطيع أن أنام، لقد قلت لهم: سامحوني، ولم أعد أراهم، لكني بقيت أسمع صوت ابنتي الذي يذبحني".

كان يتمنى أن يقدم لأولاده حياة أفضل في ألمانيا، حيث يمكن أن تصل إليهم المياه ويحصلوا على تعليم جيد، فقد تعب لأنه لم يعد قادراً على تقديم أي شيء لهم.

في أثناء حديثه، كان صوت سيارة الأيس كريم يصل إلى السامعين من خلال النافذة المفتوحة، وهذا ما جعله يتذكر: "إنه بائع الآيس كريم الذي كان ابني كلما سمعه يطلب آيس كريم... ولكن عندما يطلب منك ابنك شيئاً ولا تستطيع أن تقدمه له، تشعر بإحساس سيئ، ألا وهو الخذلان"

 المصدر: واشنطن بوست