الوباء العضال

2020.04.16 | 00:00 دمشق

kwrwna.jpg
+A
حجم الخط
-A

كنت قد بدأتُ بأرشفة حوادث القرصنة الدولية التي ظهرت مع انشغال العالم بمعالجة أزمة انتشار فيروس كورونا، معتقداً أنها حوادث عرضية، يمكن المرور عليها من زاوية الطرافة على هامش انشغال الدول بأزمة الوباء الراهنة، غير أن تتاليها الصادم وضمن فترة زمنية قصيرة لفت الانتباه إلى أنها ليست مجرد تفاصيل عابرة في السياق!

فمنذ إعلان الإيطاليين قبل ثلاثة أسابيع تقريباً أن دولة التشيك قد استولت على معدات طبية كانت قد أرسلتها الصين لهم، بدأت المياه العكرة بالصبيب في مجرى العلاقات الدولية الراسخة!

حيث أعلن وزير التجارة التونسي محمد المسيليني أن بلاده تعرضت لقرصنة من قبل الإيطاليين أنفسهم حينما استولوا على سفينة تحمل شحنة كحول طبي قادة من الصين!
وفي السياق ذاته أكد رينو موسيليه حاكم إقليم (ألب -كوت دازور) في مرسيليا بفرنسا أن الولايات المتحدة اشترت حمولة طائرة من الكمامات الصينية مباشرة على المدرج، كانت معدّة للإرسال إلى فرنسا.

كما اتهمت ألمانيا، واشنطن بـالقرصنة العصرية، بعد قيام مسؤولين أميركيين في العاصمة التايلاندية بانكوك بمصادرة 200 ألف كمامة وقناع وجه طبي تعاقدت عليها بلدية برلين. وقد سبق لألمانيا أن خسرت شحنة تحوي 6 ملايين قناع "FFP2" بعد أن اختفت في أحد المطارات بكينيا.

ليس هناك ما يدعو لاعتبار هذه التفاصيل مجرد حوادث على الهامش، فوقوعها يجعلها مدخلاً للحديث عن هشاشة القواعد الأخلاقية التي فرضتها أنظمة الحضارة والمدنية السائدة عالمياً، وحمتها الاتفاقات الأممية الراسخة.

تحسس المسيطرون لإمكانية أن يصبحوا ضحايا للممارسات التي اعتادوا هم أنفسهم على القيام بها في الخفاء

فبعد عقود طويلة من حماية هذه القواعد والاتفاقات لمصالح الأقوياء في العالم على حساب الضعفاء فيه، تحسس المسيطرون لإمكانية أن يصبحوا ضحايا للممارسات التي اعتادوا هم أنفسهم على القيام بها في الخفاء، وباتوا مضطرين لأن يقوموا بها ودون حياء على العلن وأمام وسائل إعلام الكوكب كله!

إيقاع اللهاث وراء سبل النجاة بات يتحكم بالجميع، فحتى على المستوى الداخلي لبعض دول العالم المتقدم ثمة انفلات ما أصاب العقل المؤسساتي فدفعه لأن ينقاد إلى ممارسات خارجة عن الأصول، فوقعت حوادث سرقة للمعدات الطبية في غير ولاية ألمانية، وحدث أيضاً أن استولت سلطات إقليم فرنسي على مخصصات إقليم آخر، تحت وطأة الحاجة الماسة إثر ارتفاع معدل الإصابات!

كل ما سبق يعيد النقاش حيال الشرائع الدولية والمحلية المتفق عليها إلى دوائر أولى، كانت تغلق محيطها على جزئيات السؤال الخاص بإمكانية سقوط القواعد التي تنظم العلاقات بين الأفراد في مجتمعاتهم، والمؤسسات فيما بينها، والدول مع بعضها بعضاً، لينتكس العالم إلى عصور منفلتة، يأكل القويُ الضعيفَ فيها، دون أن يردعه فيها أحد، ويستولي فيها اللصوص على ممتلكات الآخرين، وتحل شريعة الغاب بين الأفراد، ما يُذكر بظلامية العصور الغابرة، رغم ما بلغه العالم من تقدم حضاري وتقني!

مطالعة كتابات عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع عما يجري حالياً في زمن "الكورونا" لا تخرج برؤى متفائلة، بل إن غالبيتها إن لم تبشر بالخراب العام، فإنها تتماهى مع مآسي وكوارث النصف الأول من القرن العشرين؛ حربان عالميتان، أوبئة قاسية كالإنفلونزا الإسبانية والكوليرا، وأزمة اقتصادية كبرى في عام 1929.

وفي المقابل لهذه الرؤى السوداوية المتجهمة، التي تحذر دول العالم من المستقبل في حال لم تقم بالتعاون فيما بينها ضمن أفق إنساني يكرس فيه مفهوم النجاة للجميع وليس للقلة القوية! 

ثمة من يسّن سكاكينه ليدخل بها إلى الغابة للصيد، وللحصول على الغنائم الكبيرة، فرأسماليو الكوارث الذين حدثتنا عنهم الباحثة الكندية نعومي كلاين في كتابها المبهر (عقيدة الصدمة)، وعاد الصحفي الأسترالي أنتوني لوينشتاين ليكتب عنهم مؤلفه (رأسمالية الكوارث)، لا يجدون غضاضة في أن يصنعوا الصفقات الصغيرة والكبيرة على هامش إبادة الجماعات البشرية.

ففي الحروب التقليدية تزدهر تجارات الموت، التي تبدأ ببيع القبور والتوابيت، وتمر بالتكسب من الجوع، وبيع الركام والحطام في المدن المدمرة، ولا تنتهي بعقد الاتفاقيات السرية عن تغيير ديموغرافي في هذا البلد، أو عن تفكيك مقومات ذاك البلد!

زمن الحروب والكوارث هو الوقت المناسب لحدوث كل هذا! ولكن ما كان يجري في الخفاء بات حالياً يجري على مرأى العالم كله، دون خشية من أحد! ودون خجل! وهذا هو أخطر ما في الأمر!

تحدث أزمة فيروس كورونا، وبمصادفة عبثية في 2020 في نهاية العقد الأكثر دموية في المنطقة العربية، فقد حلّت فيه كل أنواع الكوارث على سكانها! 

فبدأ بنهوض ثورات حالمة ذات أفق إنساني، ولكنه ينتهي حالياً بأرقام مفجعة لعدد الضحايا، بسبب حروب قمع هائلة قادتها أنظمة الثورات المضادة، وبإحصائيات أكبر وأقسى من المعنى المفهوم لكلمة الفجيعة، تتحدث عن بيانات تراجع المستويات المعيشية والاقتصادية والثقافية في عموم بلاد المنطقة. 

لا يجد السوريون ولا الليبيون ولا اليمنيون مروراً بغيرهم من الشعوب المنكوبة أنفسهم في مواجهة كارثة كبرى، لقد عاشوا الموت الحقيقي فعلاً قبل هذا

وضمن هذا المشهد الغرائبي، حيث يسود المرض والجوع والفقر والقمع تحت سمع دول العالم المتقدم التي تواطأت مع الأنظمة ضد الشعوب الثائرة بحجة الحروب المزعومة ضد الإرهاب، لا يجد السوريون ولا الليبيون ولا اليمنيون مروراً بغيرهم من الشعوب المنكوبة أنفسهم في مواجهة كارثة كبرى، لقد عاشوا الموت الحقيقي فعلاً قبل هذا، وليس ذلك الذي ينتمي للبلاغة اللغوية، وغالبية أفراد هذه المجتمعات لا يدرون إن كان طعم الفناء بالمرض العابر والسريع سيختلف عن طعوم ميتاتٍ أخرى مثل التعذيب والرصاص والغاز الكيميائي والصواريخ البالستية والقذائف العشوائية.. الخ.

لم تخجل دول العالم المتفوقة حضارياً وهي ترى المذبحة المستمرة منذ عقد كامل، ولم يكن لديها أي حرج في أن ترعى روسيا والصين -هي دول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي-الأنظمة القاتلة لشعوبها.

كما أن غض النظر عما يجري سياسياً وميدانياً كان هو ذاته غض نظر عن استثمار المجرمين في الدمار! حيث إن صفقات كثيرة عقدها سابقاً رأسماليو الكوارث على هامش ما جرى ويجري، جرت أيضاً بلا خجل أو مؤاخذة أخلاقية! فهؤلاء لن ينسوا في غمرة انشغالهم بالصيد والتربح في غابات الدول المتقدمة التي بات الموت فيها عادياً بفعل فيروس كورونا، أن بإمكانهم الصيد أيضاً في سهوب ووديان الشرق الأوسط، فتدمير الحياة ههنا لا يوقف تدفق المال، طالما أن ثمة من يرعى الخراب، فيضخ للأنظمة الفاتكة المال لتعاود إعمال السيف بمواطنيها بالتجاور مع ما يفعله الوباء بهم!

فإذا كانت الانتكاسة الحضارية والإنسانية الراهنة حيث باتت الدول والأقاليم تسرق بعضها، قد عنونها الإعلام حالياً باسم الكورونا كوباء مرضي يمكن علاجه وحتى صناعة لقاح ضده، فإنَّ تجاهل مآسي الشعوب الثائرة وسرقة أحلامها برعاية الدول الكبرى وصمتها هي الوباء العضال الذي لن يشفى منه أحد!

كلمات مفتاحية