icon
التغطية الحية

الموسيقي السوري عيسى فياض.. هندسة النغم بين حمص وألمانيا

2023.04.18 | 06:28 دمشق

فياض
عيسى فياض (تلفزيون سوريا)
+A
حجم الخط
-A

ربما لم يكن يخطر في بال الفنان الموسيقيّ السوريّ عيسى فياض أنه سوف يضع عوده في حضنه مشاركا في فرق موسيقية وأوركسترا ألمانية. فآلة العود تنتمي لثقافة شرقية بحتة وليس من تقاليد هذه الآلة أن يتم استعمالها في عروض موسيقية غربية بحتة. ومن جهة ثانية فعيسى نفسه الذي تشرّب البيئة الموسيقية والفنية في مدينة حمص وغيرها من المدن السورية، ما كان يخطط ليكون عازفا في أوركسترا في مدينة ماكديبورغ الألمانية.

ومع أن الأمر يعني اكتساب ثقافة جديدة والمساهمة في تعريف الآخر ببعض من ذائقتنا الشرقية، لكنه من طرف آخر يعني الإقلاع عن تقاليد وطقوس الموسيقى التي كان ينتشي بها في مدينته السورية. وهذا الإقلاع جزء من معاناة اللاجئين في بحثهم عن شخصيتهم وهويتهم الجديدة في بلاد المهجر.

في أمسيات حمص ومهرجاناتها الموسيقية والشعرية وكنائسها، كان الموسيقيّ فياض يلعب في ميدانه، مع أصدقائه وجمهوره، يلمح التأثير الذي يحلقه العزف والغناء في عيون الحاضرين مباشرة، وكلما اكتشف تفاعل الحضور معه امتلأت روحه بالطاقة أكثر فأعطى وزاد وفاضَ.

موسيقى

أما في احتفاليات ألمانيّةٍ فالأمر مختلف، فهو هنا أمام جمهورٍ آخر ونمطٍ ثقافيّ لا يمتّ للنمط الذي نشأ عليه. هذا يعني أنه عليه الانتقال كليا من التطريبِ والمقامات الشرقية، إلى أن يكون العودُ عضوا في عائلة آلاتٍ موسيقيةٍ غريبة عن كيانه.

ثمة فارق في الأساس بين أن يغني عيسى فياض لجبران خليل جبران وديك الجنّ الحمصيّ وأن يغني ترنيمة تمجيد الملكة إيديتا وهي ملكة ماكديبورغ Hommage an Editha 

فرق بين أن يؤدي ألحان داود حسني ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب، وأن يشارك في فرقة موسيقية كل آلاتها غربيّة.

لكن الوضع يحمل جانبا من الإثارة والتشويق، فنحن أمام تجربة فنية شرقيةٍ صافية تندمج وتتداخل مع تجربة فنية ألمانية. ألا يشكل الموضوع أهمية خاصة؟ بلى. فالموسيقى التي هي اللغة العالمية كما هو شائع، تجد في شخص عيسى فياض برهانا على أنها لغة عالمية ولا تقف في طريقها حواجز ولا حدود. لذلك لم يخبئ عيسى فياض آلة عوده في حقيبته الخاصة ولم يتركه فريسة للنسيان، بل ذهب إلى الجمهور الألمانيّ وقال لهم أنا القادم من حمص، من مدينة الشمس، من روح الشرق، قادر أن أساهم معكم في خلق حالة ثقافية حضارية تلتقي فيها الآلات والأذواق ويتم تطعيم موسيقاكم بأوتاري الشرقية.

ولد عيسى فياض سنة 1955 في مدينة حمص، لكنه كفنانٍ ولد عدة مرات مثل أي فنان ومبدع تمر حياته بمنعطفاتٍ ومحطات أساسية هي التي تصنع ولاداته المستمرة والتي لا تنتهي. ومع كل عطاء ومرحلة وخطوة يكبر الفنانُ ويلعب على قانون الزمان تاركا إياه يتحرك على هواه فيما هو يمضي ليحتفل بشبابه المتجدد مع كل أمسية ومع كل أغنية أو قصيدة أو مسرحية أو أوبرا...

موسيقى

من حمص إلى حلب حيث تخرّج من جامعتها مهندسا مدنيّا. وإذا كانت الهندسة في أصلها المعرفيّ تعني الابتكار والخلق، فإنها فنٌّ هي أيضا وليست مجرد علم. وماذا تعني الموسيقى غير الابتكار والخلق أيضا؟ إن ما يسمّى (الدوزان) في ضبط الآلات الموسيقية هو بمعنى ما هندسةٌ لهذه الآلات وتهيئة منهجية علمية لكي تبدأ هذه الآلات بالعمل الإبداعي وتقم بمهمّتها.

عيسى فياض مهندسٌ في الحالتين: في اختصاصه كمهندس مدنيّ، وفي عزفه على العود وتلحين الأغنيات والقصائد.

ولأن الهندسة موغلة في التاريخ، حيث ولدت مع حاجة الإنسان لبناء المأوى والمرافق وشقّ طريق وسط الغابة، وتأمين مستلزمات العيش، فإن الموسيقى هي الأخرى قديمة قدم الإنسان حيث تحقق له توازنا ومأوى روحيا يلجأ إليه حين يتعب ويمرض ويخاف ويعشق.

وعلى آلة العود بدأ عيسى فياض يهندس الزمان، كما هي الهندسة المدنية تهندس المكان.

لعيسى فياض حكاية متألقة مع موسيقى وصوت محمد عبد الوهاب، ولطالما غنى له في الحفلات والسهرات حتى مع الأصدقاء

ومن حيث أنه لا مكان يحقق صفات البقاء والمقاومة إلا إذا تم تأسيسه على قواعد راسخة ومتينة، فكذلك (فنّ الزمان) أي الموسيقى، لا يمكن أن يكتسب صفة الديمومة والخلود إذا لم يكن مؤسّسا على قواعد وجذور. وجذورُ الموسيقى الشرقية هي في تراث هذه الموسيقى، من هنا ولدت في رأس عيسى فياض فكرة تأسيس فرقته الشهيرة في حمص باسم (فرقة حمص لإحياء التراث). هي الفرقة التي تركت آثارها في فضاءات الأماكن التي قدمت فيها أمسياتٍ كثيرة عبر سنوات امتدت من 1997 (سنة التأسيس) حتى 2010 لتبدأ بعدها مرحلة هدم المكان السوريّ، وتشتّت مقامات العود في المهجر، بعد أن انقلبت الأقدارُ وتفرق أعضاء الفرقة في بقاع الأرض.

 

وقبل انهدام المكانِ واضطراب التناغم في كيان العود، كان لعيسى فياض تجارب في الغناء والعزف والاطلاع على ثقافات الآخرين في عدد من بلدان العالم مثل إيران واليونان وإسبانيا التي ربما تكون أهمّ محطاته ما قبل ألمانيا. ففي إسبانيا كان له حضورٌ لا يُنسى من خلال المشاركة لعدد من المرات في نشاطات ضمن تعاون ثقافي سوريّ إسبانيّ حين كان الأديب السوري والمترجم الراحل رفعت عطفة مديرا للمركز الثقافي السوري في إسبانيا. ومع الإسبان أيضا قام بإنجاز فيلم توثيقي عن الموسيقى السورية بعنوان هواء الصحراءAires del Desierte  وهو نتيجة عمل دؤوب ومنهجيّ بين عيسى فياض وموسيقيين من إسبانيا كانوا قد أسسوا تجمّعا باسم (موشحات) وكان هذا طبيعيا فالموشحات هي تلك المنجز الموسيقيّ الشعريّ العظيم الذي كان عبارة عن حوار حقيقي بين ثقافتين وحضارتين. وقد تناول الفيلم الموسيقى الفولكلورية في سوريا والموسيقى الدينية، إلى جانب الحديث عن الآلات الموسيقية الكلاسيكية المعتمدة في المنطقة وتوثيقها. كما نتج عن تعاونهم تأسيس فرقة موسيقية حملت الاسم القديم لنهر العاصي وهو أورنتيس، وذلك جريا على العادات القديمة في إطلاق أسماء عربية على أماكن إسبانية. إنه تلاقح ثقافي شامل بين حضارتين لا يقف عند الموسيقى وحدها بل كانت الموسيقى واجهة كبرى تصطفّ وراءها حوارات عدة في مجالات إنسانية مختلفة.

الفرقة السورية الإسبانية (أورينتوس) - عيسى فياض - اغنية اسبانية ( tarara

لم يولد الموسيقيّ عيسى فياض من فراغٍ، فهو ابن تراث الرحابنة ووديع الصافي، وقبل ذلك ابن تراث سيد درويش والقصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، وقد أصبح متخصّصًا في غناء عبد الوهاب أكثر من غيره لأن طبيعة صوته تتيح له أن يتمثّل نمط عبد الوهاب الغنائي الصعب. كما أن مساحاته الصوتية العريضة والقوية والصافية في آن معاً، جعلته يؤدي عدة قوالب موسيقية وبكافة الطبقات والمقامات.

وقد قدم مع فرقته كثيرا من الحفلات التي أعاد فيها للمستمعين ألحان سيد درويش والقصبجي وعبد الوهاب وغيرهم.  

ولعيسى فياض حكاية متألقة مع موسيقى وصوت محمد عبد الوهاب، ولطالما غنى له في الحفلات والسهرات حتى مع الأصدقاء. فصوته قادر على بثّ ملامح خاصة من قدراته الفنية في أغاني عبد الوهاب، وهذه القدرة الفنية المشفوعة بثقافة موسيقية تكفيه لكي لا يقلّد صوت عبد الوهاب تقليدا، أي أن هذا الأخير سوف يبدو للمستمع بحلّةٍ (فيّاضية) خاصة تمتلك التأثير الانفعالي والوجداني في المستمع. وهذا ما يميز أداء عيسى فياض الذي يمتلك حنجرة صافية وقوية جدا، وفي حين يحتاج عبد الوهاب إلى أداءٍ هادئ وعميق وبطبقاتٍ معقولة، ترى عيسى فياض حين يذهب إلى أصوات غير عبد الوهاب (مثل وديع الصافي) فإنه يعطي صوته مداه الأكثر رحابة واتساعا. حتى ليكاد المستمع إليه مباشرة يحسب أنه سوف يخرج الآن عن الإيقاع لشدة ما يعلو بطبقات صوتية من فوق، لكن عيسى متمكن من إدارة هذه الرحابة والاتساع في صوته وما تلك الارتفاعات المذهلة في الغناء لديه إلا واحدة من تجليات إبداعه الخاص. وقد عودنا عيسى على أن نسمع منه الآخرين وقد اتخذوا ملامحه هو وانطبعوا بطابع صوته.

ولأن العمل الإبداعي لا يقف عند حدّ الغناء لآخرين، فقد أفرد عيسى حيزا كبيرا من حياته الموسيقية لتأليف أعمال غنائية وموسيقية، فهو منذ بداياته وتمارينه الأولى في النشاطات الجامعية كان قد أظهر رغبته في التلحين حيث قام بوضع ألحان جديدة لبعض فقرات مسرحية (ناس من ورق) للرحابنة وفيروز حين أدتها فرقة أجراس حلب في الجامعة. وهذه جرأة منه ليثبت موهبته في صياغة موسيقى من شخصيته. هذه الموهبة التي أعلنت عن نفسها أيضا في البدايات من خلال تلحينه أوبريت (ضيعة نبع الشحارير) ومسرحية غنائية بعنوان (بسمات) وأوبريت (قلوب وموال) وغيرها.

دور: أنت فاهم - فرقة حمص لاحياء التراث بقيادة الفنان عيسى فياض

وبالإضافة إلى مقطوعات موسيقية على العود اشتغل عليها بعد سنين من تجربته، قام بخوض تجربة تلحين القصيدة الفصيحة وكانت هذه إضافة هامة لرؤيته ووعيه الفني للشعر الفصيح. وفي سيرته بهذا الخصوص مغناة "ديك الجن الحمصي " بين عامي 1993 ـ 1994 ومغناة "جبران خليل جبران "
بين عامي 1996 ـ 1997 وكلّ من هذين العملين الأخيرين امتدّ على نحو ساعة من الزمن. أي أن فياض تقصّد أن يخصص ليس فقط إنشادا مغنّى لهذين الشاعرين، بل أراد خلق عمل موسيقيّ يليق بكتابتهما من جهة ويؤكد من خلاله أن التأليف الموسيقيّ هو جزء من مشروعه الفني بصورة عامة.

وسوف يواصل تلحين الكتابة الشعرية ولكن هذه المرة بتجربة مختلفة تماما في ألمانيا، حيث قام كما سبقت الإشارة بتلحين ترنيمة من كتابة نص الأديبة والمخرجة الألمانية Uta-Luise Zimmermann- Krause  وهي ترنيمة مرفوعة إلى الملكة إيديتا Editha  ملكة ماكديبورغ (في الفترة بين 963-946) المدينة الألمانية التي يقيم فيها.

وبين تجربتين مختلفتين يثبت عيسى فياض أن الموسيقى أفقٌ جامعٌ للهويات والثقافات وأنها من أقوى العناصر التي تعمل على تذويب الحدود والحواجز بين البشر. ولأن الألمان من الشعوب المتقدمة في خلق وتذوق الموسيقى، فقد أعطته المؤسسات الفنية الثقافية في مدينة ماكديبورغ اهتماما ملحوظا بحيث صار مشاركا بشكل مستمرّ في نشاطات المدينة خاصة خلال موسم الشتاء واحتفالات شهر الميلاد. لقد أخذ عود عيسى فياض مكانته التي يستحقها في بيئة موسيقية غربيةٍ.

صحيح أنه افتقد إلى العمل الجماعي ككلّ من خلال تشتت الفرقة التي أنشأها وعدم امتلاك ظروف مواتية لهذا العمل، لكنه مستمرّ في احتضان العود وكأنه توأمه الروحيّ الوحيد، يتنقل به بين أمسيات شعرية لأصدقائه الشعراء في عدة مدن أوربية، خالقا مناخاً من الانسجام والوئام بين القصيدة والموسيقى.

موسيقى