icon
التغطية الحية

الموسيقا والنبوءة السياسية والاجتماعية في قصائد دعد حداد

2023.10.28 | 23:11 دمشق

آخر تحديث: 28.10.2023 | 23:11 دمشق

حداد
+A
حجم الخط
-A

"وضعت يدي فوق الدفتر/ وبكيت/ من سيقرأ هذه الكلمات السريعة؟/ ونحن والموت القريب/ من سيفهم دفق الشعور/ وتراكم وتراكب الصور/ المتلاحقة كأمواج البحر؟/ من سيضنيه فراقنا؟/ ومن سيضنيه الألم/ لموتنا؟".
(من ديوان الشجرة التي تميل نحو الأرض، 1991)

لا شك أن استعادة قصائد الشاعرة السورية دعد حداد (1937-1991) يعتبر نوعاً من إعادة الاعتبار، والاهتمام بقراءة أشعارها على ضوء المرحلة السياسية والتاريخية التي تمر بها سوريا. لكن قراءة الأعمال الشعرية الكاملة، المكونة من أربعة دواوين، تبين للقارئ أيضاً أهمية ومركزية حضور موضوعة الموسيقا في قصائد الشاعرة. لذلك، يقدم هذا النص قراءة لموضوعات النبوءة السياسية في تلك القصائد، ولتنويعات حضور محور وموضوعة الموسيقا فيها.

النبوءة الشعرية في الموضوعات السياسية والاجتماعية

يرى العديد من النقاد أن الشاعرة دعد حداد التي غادرت الحياة في التسعينيات من القرن الماضي، استشرفت عبر قصائدها التجربة السياسية والاجتماعية والعنفية التي ستعايشها سوريا في السنوات اللاحقة لوفاتها. يكتب (المثنى الشيخ عطية): "تتميز هذه الشاعرة في أنها الأكثر رؤية وتنبؤاً بين شعراء جيلها، بما تشق قصائدها من حجب الحاضر الخانق، لتجعلنا نطل على مستقبل الدمار المهول الذي شهدناه فعلاً بعد أعوامٍ من انطفاء عيون الشاعرة الرائية. هذا جلي في معظم قصائد مجموعتيها الأولين المكتوبتين عام 1976، وعام 1986".

أما الناقد (مازن أكثم سليمان) فيقول: "ليس من باب المبالغة القول إن دعداً وعدداً من الشعراء السوريين قد تلمسوا منذ تلك الفترة المستقبل العنفي المقبل، ولا أضع ذلك في إطار النبوءات الشعرية، إنما ربطاً بالمستويات الاجتماعية والسياسية الوقائعية التي خاضوا غمارها، ولا سيما في فترة الصراع الدموي في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، وهو الملف الذي لم يغلق بتاتاً في يومٍ من الأيام، فضلاً عن أن أي قراءة متأنية لمآلات الأمور كانت ستفضي إلى توقع انفجارٍ مجتمعي مقبل إن لم يكن بهيئة ثورة، فبأي هيئة أخرى".

ولذلك، يمكن استعراض مجموعة من الموضوعات التي تناولتها قصائد الشاعرة في تلك الفترة، وتلمس التقاطعات بينها وبين الموضوعات التي برزت في الشعر والفن السوري منذ العام 2011، ومنها: الدعوة إلى الثورة، والتغني بالحرية، وتجربة القمع والاعتقال، والعنف والحرب، والموت والمنفى.

حداد

منذ ديوانها الأول (تصحيح خطأ الموت، 1981)، وفي قصيدة (قصة الحارس الليلي) يحضر الرصاص الطائش، الحزن المتدلي، والسقوف المتفجرة، في تورية شعرية عن متوالية العنف، الفقدان، والمدن المدمرة التي ستعرفها سوريا بعد العام 2011: "لو أتت رصاصة طائشة، فجأة من نافذة قريبة، فهي لا تصيبني إطلاقاً، ففي هذه الحال، لن يكون الحارس الليلي موجوداً، بل الحزن المتدلي، من كل السقوف المتفجرة". وتقارب قصيدة (القبو) مقدار العنف الذي شهدته الطفولة في سوريا، بما يذكر بلوحات الفن التشكيلي في التعبير عن مجازر الطفولة في البلاد: "الأطفال في الشرفات يقفزون، الأول يصعد، الآخر يهبط، ثمة طفل لا يصعد، يهبط يهبط".

تدخل الموسيقا للمرة الأولى، بتأويل نادراً ما ستظهر فيه في قصائد الشاعرة لاحقاً مع قصيدة (استعدوا أدوات التحنيط جاهزة)، فالموسيقا هنا تعلن بوحشية بدء الجريمة، بدء السلخ، ولكن بالمقابل هناك نضال الفلاحين لصرخة مشتركة يدفعون ضحيتها شهيداً:

"إنذار، أخلوا هذه الدار، إيقاع وطبول موسيقا وحشية، قبل البدء بلحظة، لحظة سلخ. بيتٌ وشجر، ابتدأ الفلاحون سعيهم الجاد، لصرخة مشتركة، وهم يعبرون النهر، تحت أقدامهم انهدم الجسرُ، وارتفعو كتلة واحدة، وصراخاً واحداً، وأوقفوا شهيداً واحداً".

لتتابع القصيدة بما يشبه التوصيف للقمع بالرصاص على أجساد المتظاهرين:

"أجسامهم كانت عظيمة، يوم دخل الرصاص من الثقوب الصغيرة، وخرج مدهوشاً من الجهة الأخرى، لأنه لم يجد داعياً للبقاء".

لكن مع قصيدة (أعري انتباهك) تأخذ الموسيقا بعدها الجمالي الأخاذ في تأثيره، فالشاعرة تطلب من العصفور ألا يسحرها بجاذبية الغناء بينما يترتب عليها اليوم أن تنقذ طفولة من مصيدة: "لا تغني كثيراً أيها العصفور، أخاف أن يسرقني الوقت، ولدي ما أنجزه اليوم، الطفل في المصيدة". وتربط فقرات تالية في القصيدة بين الغناء والحرية: "صفق بجناحيك الوديعتين، فوق الأغصان المخضرة الرقيقة، أنت عصفور صلب حقيقة، مازلت تغني بعذوبة وحرية، والطفل في المصيدة، أعرني انتباهك".

أما القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها (تصحيح خطأ الموت) فتحضر فيها الموسيقا باعتبارها الخلاص المرجو لكن غير المتحقق. تروي القصيدة حكاية امرأة تحاول النجاة من شروط الوجود عبر اللجوء إلى الموسيقا، وفي حالة من الوحدة والعزلة تكون الموسيقا رجاء الخلاص:

"رفعت يدها السمراء من الكم الأسود، وضعت نقوداً في علبة الموسيقا، لكن الموسيقا لم تأت، هزتها قليلاً شجرة الموسيقا الزئبقية، تتوسل مرة ثانية بنقود، كي تسير الآلة، كي تصدح الموسيقا والسعادة؟ وحيدة هي هذه اللحظة، أكثر من أي وقت، والموسيقا لا تأتي".

وتلجأ الشاعرة إلى استعارة السلالم الموسيقية للتعبير عن الحب: "الغيرة في شباباك الصبايا كالورد، منقوشة على المزهريات والأثواب والشالات، الحب مسودة ممزقة، وسلالم موسيقية".

وتعود موضوعات النبوءة السياسية والاجتماعية لتظهر في قصيدة (قمر وربيع أطفال) حيث تصف القصيدة ما يرتسم باعتباره تجربة اعتقال، تجربة مرور القمر فوق صوت الرصاص: "يعبر القمر بهدوء كالعادة، دون أن يوقفه صوت الرصاص، ثلاثون إصبعاً تتراخى، والكوة أشد ظلاماً، من الجدار المسود". أما في الديوان الثاني (كسرة خبز تكفيني،1987)، فتظهر الحرية كصرخة جوع صادحة من كتاب، في قصيدة (وفتح الكتاب فمه): "يفتح الكتاب فمه وحيداً، وجائعاً للحرية"، بينما تبدو قصيدة (افتحوا) كتجسيد لجدلية التعبير والقمع، فالتوابيت الفكرية تفرض نفسها على المشهد، قامعة الصوت المخنوق والأيدي المرتجفة: "في الثالثة صباحاً، افتحوا الأبواب، ها هي التوابيت الفكرية، جاهزة ومعدة للدفن، ها هي الأيدي المرتجفة، ها هو الصوت المخنوق". وتظهر من جديد نبوءة في التجربة السياسية والاجتماعية السورية المتعلقة بالنزوح والهجرة عبر قوارب الموت، وذلك في قصيدة (احذفوني زورقاً في البحر) حيث يتحول الزورق نعش أزرق، ويتحول الإنطلاق نحو البحر إلى جنون مشحون بالموسيقا: "ها هو النعش الأزرق الوحيد، ها هو الثوب الوحيد، احذفوني زورقاً في البحر، عباءة في هذه الصحراء الزرقاء، هذا التلون في النفس الإنسانية، هذا الجنون المشحون، وآه تضيفوا الموسيقا؟".

تعاود موضوعات الرحيل، الهجرة، المدن الخالية، والنجاة من الموت الحضور في قصيدة (تذاكر السفر): "ها هي تذاكر السفر، ارحلوا جميعاً، واتركوني في داري، ها هي الزهور الزابلة، ها هي المدينة الوحيدة، ها هي الجبال، ها هي الصواريخ، ها هي النوافذ المشرعة، ها هي الستارات، والريح".

أما القصيدة التي يحمل الديوان الثاني عنوانها (كسرة خبز تكفيني)، فهي كسرة الخبز المتعلقة بالحرية ما يكفي نفس الشاعرة وامتلاءها:

"كسرة خبز تكفيني، أيتها هالعيون المخملية، أنا الناسك المبتهج، والمجنون الوحيد، وكانت اليد متثلجة، حيث القلب حار، آه ما أروع الحياة يا أصدقاء، ولي كسرتي المجففة بالشمس والحرية".

تصبح الإيقاعات أساس الكون، وطنطنات النجوم هي شهقة البدء الأولى للحياة، للوجود في قصيدة (لاتحزني يا نجوم السماء): "كم الحياة قصيرة، وكم النجوم كثيرة، وكم تختلف مستويات الشعور، آه إنها الشعور، إنها شهقة البدء، إنها طنطنات النجوم مع بعضها، إنها الإيقاعات". وتشكل الأغنيات رمز الحنين إلى الماضي في لحظة من الوحدة تعيشها الذات الشاعرة التي تعيش الحنين إلى البيوت التي بعدت حدود الاستحالة: "ماذا توشوش لها في الأماسي، وهي تبكي؟ تجاعيدها القلبية، تغني على زندها وحدها. يا أغاني الماضي، يا أغاني الدور البعيدة".

"أودعك الليلة يا ناي،

أودع الشعر الحزين،

أودع رقص الموت،

وأرحل،

أودع الأضواء

والفلسفات

والحكايات

والأصوات،

وأرحل؟".

(من ديوان ثمة ضوء، 1987)

ينتقل حضور الموسيقا في ديوان (الشجرة التي تميل نحو الأرض، 1991) إلى أبعادها الفلسفية، فتعلن الأغنية نحيب الوجود، ويؤكد صمت المغني على العجز أمام تبدد الأماني: "أطفال حفاة، وليل طويل، وآه كم يبدو العالم شجياً ومحزناً، وكم تبدو الأمنيات متبددة ولاصقة بالإنسان، وغير متحققة، وهكذا دون تكرار، تنتحب الأغنية وحيدة، ويصمت المغني".

بالمقابل، فإن حضور الموسيقا في قصيدة (تُرى هذه البيوت البعيدة) معاكساً تماماً لحضورها السابق: "وتبكي الشجيرات حين تقترب النهايات، وينقر الطير خصيص النوافذ، ويصرخ طفل وليد، ولا تفترُ الموسيقا، ولا يمل المغني". وتستعيد هذه القصيدة الموت الذي تعرضت له الطفولة، من أسباب الحرب والجوع والوحدة، وتتحول أجسادهم/ جثثهم إلى ضحكة في وجه الجلادين: "هذه قبة تراب، فوق أطفال، ماتوا ليس فقط من الحروب، بل من الوحدة والجوع، حفاة عراة يضحكون، في وجه  الجلادين". وتنتقل القصيدة تالياً لمعالجة موضوعة جديدة في قصائد الشاعرة، وهي المنفى، حيث الأغنية التي تزرع في القلوب تبكي غربة الأبناء:

"قال لي الطفل الصغير،

متى يرزع الورد؟

وكيف تزرع الأغنية في القلوب؟

قلت:

حين تعصف الريح، ويملأ الثلج الساحات

وأسطحة البيوت،

وتبكي العجوز،

غربة الأبناء".

تحضر الموسيقا بأكثر تأويلات حضورها في الشعر تردداً، وذلك في أبعادها الوجدانية، فالغناء هو ذلك الحزن العتيق، ويتمدد الإيقاع من الوديان إلى الجبال والنسور: "كان الوادي عميقاً عميقاً، وكان الحزن أعمق، وغنت الأشجار ذلك الحزن الصدئ العتيق، ولف الليل ذلك اللحن المتفرد، وأودعه في الأحجار. وهكذا بنت الموسيقا بيتاً في الوادي، يردد إيقاعها، الجبل والنسور". وكما وظف الفلاحون في قصيدة سابقة باعتبارهم تمثيلاً عن كلية الشعب، فإن الصياد في الفقرة الشعرية القادمة هو الذي يعلب هذا الدور التمثيلي، لتظهر القصيدة كدعوة للمغامرة في وجه تغيير الظروف، كدعوة للطرق على أبواب الحرية:

"خذ هذه الصنارة يا صياد، وارحل نحو لجة البحر، وغامر في الإعصار، شتاءات هي آتية؟ أم شموس الربيع الزاهيات؟، خذ هذه الصنارة يا صياد، وغامر في الإعصار، النبوءة جاءت مع التيار، يا زميل الجوع والقهر؟ وللحرية أبواب تدق بالأقلام والورق القديم".