"المواطنة" المسحوقة تحت أقدام السوريين

2020.09.20 | 00:06 دمشق

aoun_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

من أهم ما يفعله الاستبداد في المجتمعات التي يحكمها، هو منع قيام المجتمع المدني، وأقصد بالمجتمع المدني هنا، المجتمع الذي تكون فيه المواطنة الكاملة المتساوية هي الهوية الجامعة لأفراد المجتمع ضمن الكيان السيادي للدولة، وليس ما يحاول البعض قوله من أن صفة المدنية هي صفة عمرانية أو اقتصادية، أو حتى عندما يسخرون قائلين: (وهل هناك مجتمع عسكري كي يكون هناك مجتمع مدني).

في مجتمع محكوم بالاستبداد – مهما تكون مرجعية هذا الاستبداد - لا يمكن الوصول إلى مبدأ المواطنة المشتركة المتساوية، والتي هي حق جميع المواطنين، بغض النظر عن الديانة أو المذهب أو الأصل القومي أو الجنس، فالجميع هم على قدم المساواة، وهم مواطنون أحرار لهم كامل الضمانات القانونية والدستورية التي تمنع التعدي على حقوقهم، ولهم الحق في التحشيد والعمل على ترسيخ رؤاهم واحتياجاتهم، والإعلان عنها، والسعي إليها بالطرق التي يرغبونها وتتفق مع القانون والدستور.

لا يستبيح الاستبداد الحقل السياسي فقط، بل يطال كل أوجه المجتمع الأخرى، الدينية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية...إلخ، فتصبح كلها امتداداً لهذا الاستبداد وأوجهاً أخرى له، وبالتالي فإنه يوقف تطور كل البنى والإمكانات في هذا المجتمع، فيمنع الإصلاح الديني والثقافي والاقتصادي والأخلاقي...، ويبقي المجتمع المستَبَدُ به أسير لحظة مشلولة، محكومة بالقوة، هي لحظة يريد المستبد لها أن تطول إلى الأبد.

يؤدي انفلات القوة المستبِدة سواء بسبب ضعفها، أو إقدام المقموعين على الثورة ضدها، ومحاولة تحطيمها إلى لحظة فوضى، غالباً ما تغيب القدرة على ضبطها، ويصعب ضبط مسارها، وتظل وقائعها مرهونة بالقوى الفاعلة التي تقود طرفيها، ويلعب حجم الخراب الذي تسبب به سابقا هذا الاستبداد داخل بنية المجتمع، دوراً مهماً في سيرورتها.

قد تؤدي هذه اللحظة إلى انهيار الدولة بكاملها، فتعم الفوضى والخراب، وكلّما طال زمن هذه اللحظة، كلّما كان الخراب أعم وأعمق، والأخطر في هذا الخراب أنه يطال مشتركات هذا المجتمع، ومعناه وهويته، عندها تصبح إمكانية إعادة توحيد قواه ومكوناته أمر بالغ الصعوبة، ويصبح احتمال تشظي هذا المجتمع كبيراً.

إذا كانت الثورة السورية في أهم تكثيف لها، هي قرار السوريين بتحدي القوة المستبدة التي رزحوا تحتها عقوداً، ومحاولة تحطيم القوة القامعة لهم، أي ازاحة الاستبداد الطويل والشديد

 من أهم عوامل إجهاض أي ثورة، هو أن تقاد بدلالة الإيديولوجيات، أو بدلالة المصالح الضيقة للأحزاب أو الأشخاص

الذي شلَّ حياتهم، فإن أهم عيوب هذه الثورة هو عدم امتلاك السياسيين والمثقفين للرؤى التي تتبصر في قراءة ورصد هذه اللحظة، لضبطها وتوجيهها، بحيث تتفق مع غايات ومصالح هذا المجتمع.

 من أهم عوامل إجهاض أي ثورة، هو أن تقاد بدلالة الإيديولوجيات، أو بدلالة المصالح الضيقة للأحزاب أو الأشخاص، أو بدلالة مصلحة فئة ما، أو تصنيف ما، دون اعتبار لمصالح كل فئات المجتمع أو تصنيفاته، لأن الأهم في هذه اللحظة هو فهم الحاجة الموضوعية للمجتمع ككل، وتغليب المشتركات، وترتيب الأولويات.

إن الكثير مما يختلف عليه السوريون اليوم، ويتشبثون به، وينقسمون عليه، ليس زمنه الآن، ومن الخطأ الاشتغال عليه في هذه اللحظة، فهو يحتاج إلى شرط آخر مختلف إلى حد كبير.

إن المأزق الذي وصلت إليه الثورة السورية، ليس مردّه إلى عنف النظام فحسب، ولا إلى تسلح الثورة كما يسفسط أصحاب فكرة "السلمية"، وليس بسبب تدخل القوى الخارجية فقط، بل هو اجتماع كل ما ذكر سابقاً مضافاً له غياب الرؤى والبرامج، وغياب القيادات التي تعرف كيف تقود المجتمع في لحظة انفجاره، ولا سيما أنه مجتمع عانى من الاستبداد لعقود طويلة، استبداد ليس كأي استبداد، إنه استبداد "نظام" هو من أشد أنظمة العالم عسفاً وظلماً، وأطولهم عمراً.

إن ما يخرج الثورة السورية من مأزقها، هو وعي أطراف هذه الثورة لأسبابها الحقيقية، ولأهدافها الحقيقية، بعيداً عن الشعبوية والشعاراتية، وصيغ الخطابات الغبية، وبعيداً عن مقدسات الإيديولوجيات والقوميات والأديان والطوائف... إلخ، أسباب تنطلق من فهم الواقع جيداً، وتستجيب لحاجات هذه الواقع.

 فإذا كنا مقتنعين أن الثورة السورية قامت لإسقاط نظام استبدادي مافياوي، وأنها ليست ثورة إسلامية، ولم تقم على أساس طائفي، وأنها كانت منذ بدايتها تهدف إلى استعادة الحرية والكرامة والعيش الكريم لكل أبناء الشعب السوري، فإن ما تفعله الآن القوى السياسية، أو تلك التي تعتبر نفسها ممثلة للثورة السورية، هو باختصار: (نسف كل ما قامت من أجله هذه الثورة).

لم يعد المشهد السوري يحوي إلا أمراء حرب يقيمون مزارعهم الخاصة، وواجهات سياسية تبحث عن مصالحها الحزبية والشخصية، ونظام مستعد لأن يبيع كل الوطن من أجل كرسيه، وأطراف دولية تسعى لتحقيق مصالحها، وسوريين مستباحين بكل ما لكلمة "استباحة" من معنى.

إننا – كسوريين- بأمس الحاجة الآن إلى ترسيخ مفهوم المواطنة في علاقتنا فيما بيننا نحن الذين نسعى لها، ورغم أن هذا الترسيخ لن يأتي دفعة واحدة، بل سيأتي متدرجاً، وعبر سيرورة تاريخية تطورية تستمر بلا انقطاع، كي نصل إلى مواطن ذي حقوق مستقلة، حقوق غير قابلة للتنازل أو الإلغاء، أو الاعتداء عليها، سواء من قبل الدولة أو من قبل الأفراد، فإن السير باتجاهها يتطلب أول ما يتطلب أن يحترمها الساعون إليها، وأن يجسّدوها في علاقتهم مع الآخر.

إن الفرد الحر المستقل هو اللبنة الأساسية في بناء المواطنة، وليس الفرد غير المتمايز، والمندمج في وحدة عضوية أخرى، يراها هويته العليا كالعشيرة أو القبيلة، أو الطائفة الدينية أو الإيديولوجيا أو الحزب.