المهاجرون والخرز الملوّن

2023.06.28 | 07:29 دمشق

آخر تحديث: 28.06.2023 | 13:09 دمشق

تفاصيل جديدة عن كارثة المركب.. اليونان متورطة بغرقه وعلى متنه عشرات السوريين
+A
حجم الخط
-A

يتدفق عشرات المهاجرين من شاحنة متوقفة في ولاية كوجالي قرب إسطنبول دون أن تعرف السلطات التركية وجهتهم أو جنسيتهم، لكن منظر هروبهم الذي التقطته كاميرا هاتف مواطن أثار الهلع في كل تركيا وانتشر مثل النار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي وتناقلته محطات التلفزة تحت عنوان عريض هذا "رأس جبل الجليد”. بالمقابلة لم تحظ أرواح أكثر من 500 مهاجر غرقوا قبالة اليونان بالاهتمام، لأنهم لم يشكلوا خطرا على أحد بعد غرقهم ولأن الكاميرات لم تلتقط لحظة وفاتهم لتتحول إلى فيديو فيروسي (Viral Video).

 

 

حصلت الهجرة على مر التاريخ وهي مسلمة في حياة البشر وليست حالة طارئة حتى بشكلها الجماعي وتنقلت شعوب بكاملها على ظهر البسيطة، لكنها باتت اليوم أمرا استثنائيا يدعو إلى القلق وحتى الخوف.

مع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هاجر 700 ألف شخص من سوريا الشامية (فلسطين لبنان الأردن سوريا) إلى الأميركيتين وهو رقم مهول إذا ما عرفنا أن تعداد سكان سوريا في ذلك الوقت لم يتجاوز الثلاثة ملايين.

واستقبلت سوريا أكثر من 200 ألف أرمني وكردي وآشوري من تركيا في أيام الاحتلال الفرنسي وقبله، وهاجر من السويد مليونا شخص في الفترة نفسها إلى الأميركيتين من أصل 6 ملايين تعداد سكان البلد، بل إن نصف سكان أيرلندا هاجروا إلى الوجهة نفسها.

لا يمكن القول إن هذه الهجرات حدثت بدافع التغيير والبحث عن الأفضل فقط فلها أسبابها السياسية والاقتصادية، وأحدثت هذه الهجرات وما لحقها في القرن العشرين وما سبقها مشكلات سياسية واجتماعية في البلاد المرسلة أو المستقبلة، لكنها لم تحدث ما نراه، فالهجرة اليوم على أجندة العالم مع الحرب والجوع والوباء والمناخ، إن الغريب الذي كان يثير الفضول في زمان غابر أصبح مصدرا للخوف.

ليس ضيق الأرض وكثرة المهاجرين في زماننا هو السبب الرئيس لهذا الخوف فكثافة السكان في بلد مثل تركيا تبلغ 110 أشخاص في الكيلومتر المربع بينما في اليابان 342 وهي ثالث أكبر اقتصاد في العالم. لم يهاجر الملايين إلى أرض خالية، بل إن تعداد سكان الولايات المتحدة عندما وصلها السويديون والأيرلنديون مع بداية القرن العشرين كان أكثر من 76 مليونا.

لم يهاجر مئات آلاف السوريين إلى أبناء عمومتهم في البرازيل والأرجنتين، كان أمامهم أناس من دين وعرق ولسان آخر، إذا افترضنا أن الاختلاف سبب للخوف إلى جانب العدد وضيق الأرض.

المهاجر بين اليوم والأمس

تلتقط الكاميرات اليوم كل حدث وما تفوته هواتف المواطنين لا يغيب عن كاميرات المراقبة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي. لم يصور المواطن التركي رأس جبل الجليد لكنه صور جبل الجليد كله، بل هناك أكثر من صورة لجبل الجليد. نشاهد اليوم عدة فيديوهات لحدث واحد وهذا ما ميز مهاجر اليوم عن مهاجري الأمس، لقد وقع تحت سلطة "رأسمالية المراقبة".

ورأسمالية المراقبة، أو ما يُعرف أيضًا بالرأسمالية الاستشرافية (Surveillance Capitalism)، هو مصطلح يُستخدم لوصف نمط جديد من الرأسمالية يستند إلى استخدام التكنولوجيا الرقمية لجمع وتحليل البيانات الشخصية للأفراد بهدف توجيه الإعلانات المستهدفة وتحقيق الربح.

ورأسمالية المراقبة تستخدم البيانات الشخصية كسلعة تجارية، حيث يتم جمعها وتصنيفها وبيعها للشركات الأخرى التي تستهدف الإعلانات والتسويق المستهدف. وبهذه الطريقة، تحقق الشركات الكبرى أرباحًا هائلة من استغلال بيانات المستخدمين. وصاغ هذا المصطلح لأول مرة عام 2015 شوشانا زوبوف أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة هارافارد.

اشترى الهولنديون جزيرة منهاتن قلب نيويورك من السكان الأصليين بخرز زجاجي ملون لا تتجاوز قيمته 24 دولارا، وأخذ الأوروبيون من سكان العالم الجديد ذهبا وأراضي مقابل الخرز اللامع الذي ظنه الهنود الحمر أثمن من سيد المعادن.

نبيع بياناتنا الآن لشركات رأسمالية المراقبة مقابل مشاهدة فيديوهات مضحكة أو بلا معنى ويشكل المهاجرون وسلوكهم أحد أهم مواضيع الفيديوهات التي تنشرها شركات رأسمالية المراقبة وتعد سوارا من (الخرز الملون) الذي يغري المستخدمين، فلا مانع من نشر هذه الفيديوهات طالما لا تخترق خصوصية مجتمع له سلطة على هذه الشركات أو يمتلك أدوات ضغط تؤثر فيها.

وتشكل البيانات ذهب العصر وبات جمعها بأخلاق أو بلا أخلاق الشغل الشاغل للشركات الكبرى. وترى البياناتية (Dataism) أن الكون تدفق للبيانات ومعالجة لها، واستخدم المصطلح لأول مرة من قبل ديفيد بروكس في صحيفة نيويورك تايمز في عام 2013.

تبدل القيم

4.48 مليارات شخص يستخدمون وسائل التواصل (بحسب إحصائيات يوليو/تموز 2021)، ويشكل عددهم حاليا نسبة 56.8% من سكان العالم. ويتم رفع نحو 13 مليون فيديو جديد إلى تيك توك يوميا.

من بين أكبر 15 شركة عالمية هناك 5 تعمل في تكنولوجيا المعلومات 3 منها (ميتا - الفا بيت - ما يكروسوفت) تجمع البيانات وتبيعها.

يتعاظم دور الرأسمالية المراقبة والبياناتية في السيطرة على العالم، وفي نفس الوقت تتدنى القيمة العسكرية والاقتصادية للإنسان (المهاجر)، فالتكنولوجيا إزاحة الأفراد حتى عن ساحة المعركة وباتت الطائرات المسيرة أهم عناصر الحرب لا الجنود كما نرى في أوكرانيا.

وبما أن الشركات الكبرى تحدد اتجاهات العالم الأخلاقية وقيمه بناء على مصالحها وعلى رأسها شركات البيانات، بات للفيديو الجذاب قيمة سوقية أكبر من المهاجر، وحتى لو شكلت صورته خطرا على حياته يجب نشرها فهي أهم منه.

كان المهاجرون بالنسبة للشركات الرأسمالية في القرن العشرين وما قبله عمالا أو زبائن (عملاء) وبالتالي شكلوا فرصة لها. اليوم تنظر رأسمالية المراقبة للجميع على أنهم مستخدمون (Users) وإذا كانت الفيديوهات عن المهاجرين والجدل حولهم (خرزا ملونا) يجلب المستخدمين وبالتالي البيانات فمن غير المهم القيمة الأخلاقية التي تترتب على ذلك.

ويشكل فيديو عن المهاجرين عنصرا قويا في اقتصاد جذب الانتباه القائم على ترويج ما يُنفر ويُزعج لجذب المستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعي، كون البيئة مليئة بالمنبهات ومن الصعب الاحتفاظ بالمستخدم لوقت طويل إلا إذا حفزته بشكل مزعج يلفت انتباهه، وهكذا يتحول المهاجرون إلى فرجة تلفت الانتباه كالخرز.

لم يكن الشعار الرئيسي لحملة البريكست في بريطانية "Let's Take Back Control استعادة السيطرة" بل أكاذيب انتشرت على فيسبوك مثل "المهاجرون قادمون". وبعد انكشافها رفض مارك زوكربيرغ ثلاث دعوات للمثول أمام البرلمان البريطاني.

خرز ملوّن أم حلي ملكية؟

يقول ستيفين الأول (1001-1038م) ملك هنغاريا الأول ومؤسس الإمبراطورية المجرية الذي أعطاه البابا غريغوري السابع لقب قديس لنشره المسيحية في أوروبا.

«منفعة الأجانب والضيوف تبلغ من العظمة حد أن يمنحوا المكانة السادسة من حيث الأهمية بين الحلي الملكية... ذلك أن الضيوف الذين يأتون من مناطق ومقاطعات شتى يجلبون معهم شتى اللغات والعادات، وشتى المعارف والأسلحة. وكل ذلك يزين البلاط الملكي، ويزيد بهاءه، ويرعب القوى الأجنبية المتغطرسة. ذلك أن بلدا موحد اللغة والعادات هو بلد هش وضعيف...».