المجتمع المدني السوري.. تعثر لا بد من تصحيحه

2021.07.22 | 07:40 دمشق

society-30.01.2014.jpg
+A
حجم الخط
-A

شاع في العقدين الأخيرين استعمال تعبير "المجتمع المدني" بين النخب السورية، المثقفين والمفكرين المعارضين على وجه الخصوص، وعقدت ندوات وأقيمت محاضرات، حول هذا المفهوم الجديد على السوريين، والمحرومين منه ومن تفعيله وممارسة تطبيقاته طوال خمسة عقود.

جرى سجال طويل بين تيارات عدة، وقُدَّمت مساهمات عديدة ذات أهمية، وخاصة تلك التي حاولت أن تبحث في المفهوم، وإمكانية تطبيقه في الواقع السوري، خاصة أنه نتاج فكر سياسي أوربي، مختلف عن الفكر السوري والعربي عموماً، وحاول البعض أن يضع إطاراً نظرياً له، ودراسة جدوى لوجوده، وكتب الكثيرون عنه، كتابات جدّية أحياناً، ولمجرد التقليد في أحيان أخرى، دون الاهتمام الكبير بالبحث في عمقه وكيف يمكن الاستفادة منه.

لاشك أن مفهوم المجتمع المدني هو مفهوم حمّال أوجه، مفهوم إشكالي، وقابل للخلاف والاختلاف، على كل المستويات، الأكاديمية والسياسية والتطبيقية، مفهوم متداخل لا يمكن وضعه في تعريف وإطار ثابت مطلق، مرتبط بدينامية وخصوصية كل مجتمع بمجتمعه، ومن غير المجدي فهم هذا المفهوم دون ترجمته إلى تطبيقات واقعية مجتمعية مؤسساتية رائدة مفيدة للمجتمع.

حين كان للسلطة في النظام القديم في أوروبا مرجعيتان، الأولى دينية ممثلة بالكنيسة ورجالها، والثانية سياسية ممثلة بالنبلاء وملاك الأرض، طرح مفكرون أفكاراً خلخلت المفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أدت في النهاية إلى قيام الثورة الفرنسية، وظهرت مفاهيم جديدة عن المجتمع، وعن بنيته ووظائفه والعلاقات بين أفراده وبين مؤسساته، وخاصة منها مفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية وتكافؤ الفرص والمساواة، وصولاً إلى اتفاق على عقد اجتماعي يحدد العلاقة مع الدولة، وهذا ما أنتج مفهوم المجتمع المدني وماهيته وشروطه وتكويناته ومؤسساته وحقوقه وعلاقته بالسلطة.

توسع مفهوم المجتمع المدني، ليصبح في الفكر السياسي المعاصر، مجموعة من البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية، التي تتصف جميعها بأنها تطوعية من جهة ومستقلة عن الدولة من جهة أخرى، وتقوم بينها مجموعة من العلاقات المتداخلة، تحقق للمجتمع ديناميته وتطوره المستمر، وظهر المجتمع المدني من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية، التي ينضم إليها الأفراد بملء إرادتهم الحرة، وإيماناً منهم بأنها قادرة على حماية مصالحهم والتعبير عنها. كالأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، والجمعيات المهنية، والخيرية، والاتحادات والروابط الثقافية والفكرية، والمراكز البحثية، وغرف التجارة والصناعة والهيئات الحرفية، والمؤسسات الدينية التي لا ترتبط بالدولة... وغيرها.

لاشك أن مفهوم المجتمع المدني هو مفهوم حمّال أوجه، مفهوم إشكالي، وقابل للخلاف والاختلاف، على كل المستويات، الأكاديمية والسياسية والتطبيقية

قُمع المجتمع المدني السوري منذ استيلاء البعث على السلطة، ومنذ تحوّل سوريا إلى دولة شمولية أمنية، لا تعترف بالمواطنة إلا نظرياً في بعض بنود دستورها، وغُيّب هذا المفهوم تدريجياً حتى بات المجتمع السوري لا يعرف ماهيّته، ولا معناه ولا تجسيداته وتجلياته، ولا حتى فائدته، واختلطت المفاهيم، وحتى لدى بعض نُخب المعارضة، التي باتت تعتقد أن أي منظمة إغاثية أو جمعية خيرية لا تتبع للدولة هي المجتمع المدني المنشود، وكما اختلط أيديولوجياً لدى البعض وصار يعتبره أيديولوجيا وآليات علمانية، ويعتبره آخرون ترفاً في غير وقته.

لم يكن السوريون قبل البعث، وقبل دولة الأسد، بعيدين عن المجتمع المدني، بل كان هناك جمعيات ثقافية وفنية، وأخرى تنويرية وفكرية، ونقابات مهنية وحرفية حرّة، وتنظيمات سياسية، حتى أن الكتاتيب والمدارس والمكتبات، والطرق الصوفية، والحرف وتنظيماتها، والمؤسسات الدينية غير الرسمية على مختلف أشكالها، ماهي إلا تكوينات جنينية للمجتمع المدني، كانت قائمة في سوريا قبل البعث بعقود.

بعد تولي الأسد الابن السلطة عام 2000، بدأ نشاط لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا، بعد أن كانت الحياة السياسية والحزبية جامدة، وبعد أن هيمنت أجهزة النظام على منظمات المجتمع المدني، بما فيها النقابات والجمعيات والاتحادات وغيرها، وتوافق ذلك مع تولي بشار الأسد السلطة، وبعد إلقاء خطاب القسم الذي أشار فيه إلى أهمية الحريات والتعددية وتكافؤ الفرص وفصل السلطات، مما أوحى ببدء مرحلة جديدة في سوريا، فبدأ نشاط المثقفين بتشكيل حلقات ثقافية ومنتديات تناقش الواقع السياسي والاجتماعي، وتدعو للديمقراطية والتعددية، وتبلور نشاطهم في وثيقتين تأسيسيتين باسم لجان إحياء المجتمع المدني، نادتا بإعطاء الأولوية للبنية المجتمعية والمدنية، وأكدت الوثيقة الرئيسية، وهي "وثيقة الألف"، أن لجان إحياء المجتمع المدني هي لجان مجتمعية مستقلة لا مركزية ولا حزبية تنبذ العنف والقمع والإكراه وتعتمد الحوار السلمي سبيلاً لحل المشكلات، وتهدف إلى تنشيط الحياة العامة واستعادة المواطنين إلى حقل العمل العام.

بعد بضعة أشهر، عادت السلطات ومنعت نشاط هذه اللجان، واعتقلت العشرات من الناشطين فيها، فتحوّلت تدريجياً إلى تشكيلة ممنوعة من النشاط، تهتم -في الغالب سراً- بالمطالبة بالحريات وحقوق الإنسان.

بعد الثورة، وتحوّل سوريا إلى بيئة اجتماعية انفجارية، وفي ظل غياب المعرفة الكاملة للبعض بماهية ودور وآليات منظمات المجتمع المدني، وفقر التكوين المعرفي، وعدم نضج الثقافة المؤسساتية في العمل الجماعي، وضعف الوعي بقيمة العمل التنظيمي والعمل التطوعي، تشكّلت العديد من المنظمات التي صُنّفت "كمنظمات مجتمع مدني"، كانت في الحقيقة سوقاً سوداء، لا تحكمها ضوابط أو معايير، وانتشرت فيها حالات فساد ومحسوبيات وشللية، وأصبح تأسيس منظمة مجتمع مدني عند البعض غاية بحد ذاتها بهدف استعمالها غطاءً قانونياً للحصول على التمويل فقط، ما تسبب بخسائر هائلة للسوريين الذين كان من المفترض أن تكون مثل هذه المنظمات في مساعدتهم في أزماتهم ولجوئهم وتماسك مجتمعهم وتثبيت مبادئهم في الحرية والعدالة وقبول الرأي الآخر، وترسيخ ارتباطهم بجذورهم وأخلاقهم.

وعلى الرغم من أنه لا يمكن إنكار دور العديد من المنظمات السورية القائمة والتي تعد نوىً للعمل المدني الفاعل الذي كان غائباً عن المجتمع السوري، وقد عمل البعض منها بجهود فردية وتمويل الأفراد السوريين الساعين لعمل تطوعي حقيقي ينهض بالمجتمع السوري من جديد على جميع المستويات، وقام بجزء هام من الدور المنوط بالمجتمع المدني السوري في الداخل السوري وخارجه.

لكن لا يزال يحتاج السوريون اليوم إلى إعادة النظر في كل ما يتعلق بفهمهم وعلاقتهم بالمجتمع المدني، والعمل على بناء مؤسسات مجتمع مدني حقيقية، تعرف دورها على حقيقته، وتعرف الآليات التي يجب أن تُبنى عليها أعمالها، ويشارك فيها متطوعون لا موظفون وأصحاب مصالح، وأن تلعب دوراً ضاغطاً حقيقياً على صناع القرار الإقليمي والدولي، والتقدم بمبادرات لحل الأزمة ابتداءً من المجتمع المحلي الذي تنشط ضمنه وصولاً إلى المستوى الوطني، وهذا الأمر ضرورة، ربما يجب أن تكون بالفعل على سلّم أولويات السوريين.