اللغة هوية الوطن والمواطن

2019.12.18 | 16:29 دمشق

khtt-lajyt-lmadt-lghty-almrhlt-alabtdayyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما اللغة؟!

بداية لابد من تعريف دقيق للغة عموماً إذ ثمة تعاريف كثيرة منها ما يتقارب أو يتكامل مع غيره.. وقد اخترت تعريفاً للدكتور فؤاد المرعي أخذته من كتابه اللغة والتفكير، وقد رأيته تعريفاً شاملاً وموجزاً ودقيقاً:

"اللغة منظومة من الإشارات الصوتية المستقلة، تنشأ في المجتمع اعتباطاً، وتستخدم بهدف التفاهم بين أفراده، واللغة قادرة على التعبير عن مجمل معارف الإنسان وتصوراته عن العالم. وهي تتصف بعفوية نشوئها وتطورها، وبلا محدودية إمكانات استخدامها، ولا محدودية قدراتها التعبيرية.."

اللغة والتفكير

للغة علاقة وثيقة بالتفكير، ومن ثم بالوعي عموماً، فمن وظيفة اللغة نقل مجريات عملية التفكير ونتائجها.. فالتفكير أساس الوعي الذي يمتاز به الإنسان دون غيره من الكائنات الحية، وعيه لذاته ووعيه للعالم من حوله.. ولكن ما التفكير؟! وما كنه علاقته باللغة؟!

يعكس التفكير الواقع الموضوعي بشموليته وتفاصيله، ويمكِّن الإنسان من اكتساب معارف مختلفة عن ذلك الواقع، أما وسيلة التفكير فهي الدماغ الذي هو "مادة رفيعة التطور" تحمل في جوهرها جانباً غير ماديٍّ.. ما يعني أنَّ عملية التفكير هي وظيفة الدماغ، لكنَّ عملية التفكير لا تجري إلا بواسطة اللغة، ومن خلال علاقة الإنسان بالواقع. وهي في النهاية عملية تنتج في سياق التطور الاجتماعي/ التاريخي الذي هو تعبير عن نشاط الإنسان وعلاقته بالواقع من حوله. وتكسب هذه العملية الإنسان المعارف الحسية، وعبرها يستلهم الصور والذاكرة والخيال..

اللغة والكلام وتطورهما

ثمة فوارق بين اللغة والكلام فاللغة هي تلك الرموز والإشارات الساكنة في المعاجم والكتب وأذهان الناس، ولا تكتسب اللغة حيويتها إلا عبر استخدامها.. وما الكلام إلا اللغة في حالة نشاطها وحيويتها، إذ إنَّ الكلام يدخل في عملية التفكير التي هي عملية حيوية، وتدخل اللغة مع التفكير في عملية جدلية فكلما كان التفكير عميقاً ونشطاً وإبداعياً احتاج إلى لغة جديدة نوعية قادرة على التعبير عما هو جديد ومن هنا يمكن الإشارة إلى أمرين يعيقان تطور اللغة، ويفقدانها نشاطها وحيويتها، هما أولاً: العيش في الماضي وتكرار أفكاره ومحتواه.. ويلتقي مع هذا الأمر كل من ينقل عن غيره نقلاً ميكانيكياً أيْ لا يُعْمِل دماغه وبالتالي لا يحتاج إلى لغة حيوية نامية.. ويتساوى في هذا الشأن من ينقل عن الأوروبيين أو من ينقل عن التراث، فكلاهما لا يمنحان اللغة نشاطها وحيويتها.. أما الأمر الآخر فهو الاستبداد عدوُّ الحرية عدو التفكير عدو اللغة.. فالمستبد يفرض نمطاً محدداً من التفكير وبالتالي نمطاً محدداً من اللغة الجامدة غير المتفاعلة إيجابياً.. ومن يراقب عملية التنوير التي سادت أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يدرك كم تطورت اللغة عبر الأدب والصحافة والتعليم، وكذلك عبر صيحات الحرية، لكنها عادت إلى جمودها مع سيطرة الأنظمة العسكرية الاستبدادية.

لغتنا العربية

أعتقد بأنه لا داعي للبدء بتمجيد اللغة العربية، وما قيل عنها، ويقال، ولكن لا بد من إشارة عابرة موجزة، إلى أهمية هذه اللغة، وإلى مكانتها بين اللغات العالمية، فهي من أقدم اللغات السامية، وأكثرها تداولاً بين متحدثي لغات المجموعة السامية، وهي من أكثر اللغات انتشاراً في العالم، إذ يتحدث بها أكثر من أربعمئة مليون نسمة، وهي من بين اللغات الأربعة الأكثر استخداماً في الإنترنت، والأكثر انتشاراً، ونمواً، إذ تتفوق بذلك على الفرنسية والروسية، ولا تكتسب اللغة العربية أهميتها من كونها لغة القرآن الكريم عند مليار ونصف المليار من مسلمي العالم، فحسب، فهي: "لغة شعائرية رئيسة لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، إضافة إلى أنَّ الكثير من أهم الأعمال الدينية، والفكرية اليهودية، في العصور الوسطى، كتبت باللغة العربية ومنها مؤلفات: "دوناش بن لبرط"، و"ابن حيوج" في النحو، و"سعيد الفيومي"، و"موسى بن ميمون" في الفلسفة. و"يهوذا اللاوي في الشعر"، و"إسحاق الفاسي" في تفسير التوراة". ومن ميزات اللغة العربية الرئيسة:

قدرتها على التعريب، واحتواء الألفاظ من اللغات الأخرى وفق شروط دقيقة وقواعد محددة، وما يميزها أيضاً امتلاكها لخاصية الترادف، والأضداد، والمشتركات اللفظية. كما تمتاز بظاهرة المجاز، والطباق، والجناس، والمقابلة، والسجع، والتشبيه، والاستعارة. وفنون المحسنات البديعية إضافة إلى البلاغة والفصاحة، وسلاسة اللفظ وجرسه." يلخص ذلك بيت الشعر التالي لأحمد شوقي:

إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا      جعل الجمالَ وسرَّه في الضاد

اللغة العربية اليوم

لاشك في أنَّ وضع اللغة العربية اليوم، لا يسر أحداً، على الرغم من أنَّ العرب الناطقين بها يُعَدُّون اليوم، على نحو أو آخر، أفضل شأناً مما كانوا عليه قبل قرن، أو أكثر، أيْ منذ أنْ أخذ العرب يفكِّرون بيقظتهم، ونهضتهم، ويحاولون استعادة شيء من أمجادهم التليدة، ويعيدون إلى لغتهم روحها الحيَّة، فينفضون عنها غبار الزمن.. صحيح أنَّ آداب اللغة العربية تطورت، وتتطور باستمرار، ويُحتفى بها على نحو لافت في العديد من البلدان العربية، وصحيح أيضاً أنَّ اللغة العربية استوعبت أجناساً أدبية جديدة، كالقصة والمسرحية والرواية، وألوان الشعر الحديث، إضافة إلى ما بات يعرف بـ: "السيناريو" (وصف المشاهد، وحوار الشخوص في فَنَّيْ "السينما"، وكذلك ما يعرف بـ: "الدراما التلفزيونية") ورغم انتشار المدارس والجامعات، وتعريب المناهج. وازدهار الصحافة، والإعلام عموماً، ما يعدُّ من وسائل إنهاض اللغة، وترسيخ جذورها، وتنميتها! وأخيراً، لا آخراً، أضيف:

رغم ما نراه من مجمَّعات للغة العربية تنهض في أكثر من عاصمة عربية، وتتصدى للأخطاء الحادثة وتعالج وضع المفردات الدخيلة، وتتوافق، عند الضرورة، على مصطلحات محددة.

أقول، رغم هذا وذاك، فإنَّ واقع اللغة ليس كما يرام..! ويعود ذلك، في اعتقادي، إلى أمر رئيس جوهري هو أنَّ البلاد العربية عموماً لم تستطع التمكُّن من روح الحضارة المعاصرة، ولم تستطع تسلُّق جدرانها، بل لا تزال متخلفة عن ركبها، وعن المساهمة في إنتاج شيء من مفرداتها الرئيسة، وهي لاتزال تستهلك بنهم زائد تلك المفردات، دون الدخول إلى كنهها النامي باستمرار. بينما كانت أيام عزِّها، في أوج الحضارة العربية الإسلامية، تقتحم بقوة لغات العالم أجمع، ولا تزال آثارها قائمة إلى الآن، ومن يمعن اليوم إلى اللغتين التركية والفارسية، على سبيل المثال، يراهما تعجان، بنسب عالية جداً، بالمفردات العربية.

وثمة أمر في غاية الأهمية له علاقة باللغة وتكوُّنِها هذا الأمر هو أسلوب التفكير المغاير عند العرب عن آلية التفكير المعاصر. فإذا كانت الحضارة التي نعيشها هي حضارة العلم والعقل، فإنَّ اللغة وسيلتها وواسطتها، بل هي الجسد الذي يمنح جوهر الحضارة ومفرداتها وأدواتها نبضها، وحيويتها. فلا بد من الاعتراف بأن العرب اليوم بعيدون، كل البعد، عن العلوم وأبحاثها، وعن اللغة العلمية الدقيقة، ما يؤكد بعدهم عن منهج التفكير العلمي، فما تزال الأوهام والتصورات تملأ عقول العرب عموماً..!

اللغة كائن حيٌّ

اللغة ابنة بيئتها، وإنسانها، فهي الأداة التي تعكس حركة الناس، وتترجم حياتهم، وتسهل علاقاتهم بمن، وما حولهم. واللغة، أيَّةُ لغةٍ، ما هي في النهاية، إلا كائن حيٌّ يولد في معترك الحياة، وينمو في سياقها، فيرتقي بارتقائها، ويتراجع، إذا ما تراجعت حياة المجتمع، من حولها، أو تدهورت. وربما تنقرض وتندثر.. وكم من لغات انقرضت حين تماهى الناطقون بها، بغيرهم من الشعوب الأقوى..! أو حين توقفوا عن النمو ومواكبة عصرهم.. وللمثال فقط يمكننا إيراد هذه الأبيات لشاعر جاهلي ممن يعتد بهم، إنه الشنفرى صاحب لامية العرب:

وَلكِنّ   نَفْسَـاً   مُـرَّةً   لا   تُقِيـمُ    بـي            علـى  الـذامِ  إلاَّ   رَيْثَمـا   أَتَحَـوَّلُ

وَأَطْوِي على الخَمْصِ الحَوَايا كَما انْطَوَتْ          خُيُوطَـةُ   مـارِيٍّ  تُغَـارُ    وتُفْتَـلُ

وأَغْدُو  على   القُوتِ   الزَهِيـدِ  كما غَـدَا          أَزَلُّ  تَهَـادَاهُ   التنَائِـفَ    أطْحَـلُ

فمن الذي يستخدم اليوم مفردة "مُرَّة" بمعنى: صعبة أبية، أو "الذام" بمعنى: العيب الذي يذم به المرء، أو "الخَمْصِ" بمعنى: الجوع، أو "الخُمْص" بمعنى: الضُّمر. من "ضَمَرَ" وكذلك الحوايا: جمع الحويَّة، أي الأمعاء. أما كلمة: "تُغَارُ"، فمن الصعب على الدارس الوصول إلى جوهرها الذي يعني: يُحكم فتلها، دونما العودة إلى المعجم. ثم هل من أحد يستخدم اليوم كلمة "تنائف" مفرد "تنوفة" التي تشير إلى الأرض أو قطعة منها، أما معنى البيت الثاني من بين الأبيات الثلاثة، فهو:

"أطوي أمعائي على الجوع، فتصبح، لخلوّها من الطعام، يابسة ينطوي بعضها على بعض كأنها حبال أُتقن فتلها".

نعم، هذا هو الجوهر والأساس، وما عداه تفاصيل، وللمثال أقول إن الحياة المعاصرة تقذف يومياً بعشرات بل بمئات المفردات الجديدة لأسماء أدوات استهلاكية أو لعلاقات أو محاكمات في هذا المنحى من الحياة أو ذاك.. وهذا يشكل عبئاً على اللغة المستَقْبِلة على الدوام.. وعلى تطورها غير الطبيعي وهو ما يهدد جوهرها..! فما هو معروف، وكما أشرت، أن اللغة دائمة التطور، وتطورها هذا يجري وفق تطور المجتمع الناطق بها.

أخطار تحيق بالعربية اليوم

تواجه اللغة اليوم أخطاراً عدة يأتي في مقدمتها تخلف شعوب الناطقين بها، وعدم مساهمتهم جدياً فيما تنجزه حضارة اليوم من تكنولوجيا متقدمة، في مجالات العلوم والصناعة والاتصالات، فهم ليسوا أكثر من مستهلكين، ويمكن الإشارة إلى عدة مشكلات تعانيها اللغة العربية اليوم ومنها:

أولاً: عجز مجامع اللغة العربية، رغم جديتها، وسعة اللغة وقدراتها الاشتقاقية عن إيجاد مفردات تناسب ما تمنحه حضارة اليوم من منتجات تكنولوجية، فلغة العالم تسبق المجامع إلى الشارع والمستهلك العادي، والأمثلة كثيرة..!

ثانياً: مما يؤسف له، وبعد حركة التعريب التي سادت الجامعات العربية، تعود بعض الجامعات إلى استخدام اللغات الأجنبية والإنكليزية خصوصاً نتيجة لنفوذ الأجنبي لدى حكومات تلك البلدان، وهذا الأمر لا علاقة له بضرورة الاستفادة مما في اللغات المعاصرة اليوم من إمكانيات. ناهيكم بالعمالة الأجنبية التي تفرض لغات أخرى، وغالباً ما تكون اللغة الإنكليزية.

ثالثاً: الأخطاء الشائعة وبخاصة في عالم الصحافة ووسائلها المختلفة، وفي مجال الإعلان المؤثر جداً في أذهان الناس الذين يقرؤونه في الشارع، والصحافة، والتلفاز وسوى ذلك.. وإمعاناً في ارتكاب هذه الأخطاء مجيء وسائل التواصل الاجتماعي لتزيد الطين بلة، إذ أفسحت في المجال أمام الجميع لاستخدامها دون تقيّد بأبسط قواعد اللغة، بل إن بعضهم غالباً ما يكتب باللهجة العامية، الأمر الذي أنهك اللغة العربية، وجعلها في الحضيض.. فتراهم وقد أخذوا يستنبطون حروفاً لاوجود لها في لغتنا.. كاستبدال الهمزة أو الكاف بالقاف، ناهيكم بالاستغناء عن الحركات واستبدالها بالحروف أيضاً كأن يستبدل الياء بكسرة تاء الفاعل المتحركة في المؤنث المخاطب.. ولا بد، هنا، من الإشارة إلى ضرورة عدم الخلط بين الخطأ النحوي أو الإملائي وبين إمكانية تطور اللغة وغناها المستمر..

من بعض الأخطاء الأسلوبية:

"تمت كتابة الوظيفة من قبل التلاميذ.."(كتب التلاميذ الوظيفة..)

"أتيتك بين شروق وغروب الشمس.."(بين شروق الشمس وغروبها..)

"ناهيك عن كذا.." (ناهيك بكذا). أما الأخطاء الإملائية فحدث ولا حرج تراها في وسائل الإعلام وعلى المنابر وأكثرها يرتبط بغياب السليقة اللغوية، وبجهل قواعد النحو والإملاء على السواء.

وأختم بأقوال عن اللغة وفيها لعرب وأجانب.. يقول مصطفى صادق الرافعي: "إن اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة". ويرى الفيلسوف الألماني فيخته: أنَّ "اللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً خاضعاً لقوانين، فهي الرابطة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأذهان." وثمة قول لمواطنه اللغوي كارل فوسلر: "إن اللغة القومية وطن روحي يؤوي من حُرِمَ وطنَه على الأرض."  وعلى ما تقدم يمكن القول: اللغة هوية الإنسان، وفضاء روحه، تعبر عن كينونة الوطن وترسم صورة الشعب وحركة وجوده..!