icon
التغطية الحية

الكوميديا السوداء في مسرحيات محمد الماغوط غير المطبوعة

2022.08.13 | 15:03 دمشق

مسرح
+A
حجم الخط
-A

يقول محمد الماغوط: "هذا القلم سيقودني إلى حتفي.. لم يترك سجناً إلا وقادني إليه ولا رصيفاً إلا ومرَّغني عليه". في الحقيقة لا يمكن الكلام عن المسرح السوري دون التوقُّف عند تجربة الماغوط المسرحية، المسرح الذي تخطَّى التَّقليد من خلال التَّجريب والتَّجديد في الشكل والمضمون، فامتاز مسرحه، كما شعره، بالجرأة على الواقع الذي عانت منه سوريا سياسيَّاً واقتصاديَّاً واجتماعيَّاً، إذ قدَّم الماغوط مسرحه مستخدماً لغة بسيطة ومعقدة في آن واحد، اتَّسمت ببعدها الرمزيِّ ذي الدلالات العميقة، ووظَّفها لنقد هذا الواقع وإظهار عيوبه وكشف أخطائه من خلال لوحاتٍ مسرحيةٍ مضحكةٍ إلى حدِّ البكاء، وساخرةٍ إلى حدِّ المرارة؛ وذلك لأنَّها استطاعت أن تلمس الوجدان الإنسانيَّ من خلال النسق المضمر الذي استبطنه وهو الرَّغبة في التمرُّد على هذا الواقع من خلال رؤيته الثائرة التي حاول أن يبثَّها في نصوصه المسرحية.

عُرضت مسرحيات محمد الماغوط برعاية السلطة وإشرافها تطبيقاً لاستراتيجية الهمس، بمعنى أنَّ ما تمَّ تقديمه وعرضه لم يكن عفو الخاطر، أو بغرض تقديم مسرح سياسي كوميدي فحسب، بل إنَّ كلَّ ما تمَّ عرضه كان قد مرَّ على الأجهزة الرقابية، ومن ثمَّ تمَّت الموافقة على تقديم هذا المسرح السياسي الناقد بشرط ليِّ بعض المشاهد لتوافق هوى السلطة، لذلك كان تدخُّل دريد لحام في هذه المسرحيات تدخُّلاً مقصوداً وذا هدف محدَّد، وهذا ما يفسِّر انفصال الماغوط عن اللحام بعد عدد من المسرحيات (بحسب اعتقادي)، إذ كان يتمُّ عبر هذه المسرحيات تمرير ما تسمح به السلطة لإظهار الطريقة المثالية في التعامل معها، أو لإلصاق تهم الفساد وأسباب التقصير بأحد أفراد السلطة واستبعاد رأس النظام عن النقد المباشر والصريح، كما حدث في توجيه الانتقاد لشخصية المختار الذي يعدُّ ممثلِّاً للسلطة أو حاملاً لرمزيتها.

في مسرحياته الثلاث غير المطبوعة: "ضيعة تشرين" التي عرضت على المسرح سنة 1973-1974، و"غربة" التي عرضت على المسرح سنة 1976، و"كاسك يا وطن" التي عرضت على المسرح سنة 1979؛ يتناول الماغوط الواقع السياسيَّ بقالب كوميدي ساخر لا يخلو من نزعة المرارة التي يعاني منها كلُّ فرد في المجتمع السوري، وهذا ما يطلق عليه اسم (الكوميديا السَّوداء) التي تتعاطى مع المواضيع الحسَّاسة تداولياً بأسلوب ساخر مع الاحتفاظ بالمسافة الفاصلة بين الجدِّ والهزل، هذه المسافة التي أتقنها الماغوط إلى درجة البراعة ضمنت لمسرحه النجاح، بالإضافة إلى الحملة الدعائية التي قدَّمتها السلطة لدعم عرضها من دون أي ضغوط رقابية.

تناولت هذه المسرحيات موضوعات تتغلغل في عمق الحياة الاجتماعيَّة في ذلك الوقت، فحكت عن علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وعن علاقتهم بالسلطة التي غالباً ما كانت تتسم بالسلطوية والقمعية والتحكُّم والرقابة حيث رصدت مجموعةً من الممارسات الاستبدادية التي كانت تتبعها السُّلطة وتأثيرها السلبي على الشعب، وقدَّمت صوراً متنوعةً للنموذج السُّلطوي المستبد المتحكِّم صاحب النفوذ.

تشير مسرحيات الماغوط إلى استغلال القضايا الخارجيَّة لصالح السلطة وإظهار موقفها من القضايا القوميَّة، وتأتي القضية الفلسطينيَّة في مقدمة تلك القضايا

ولعلَّ المشهد المقدَّم في مسرحية (ضيعة تشرين) الذي يحكي عن منع تجوُّل أهل الضيعة ليلاً وتعليل ذلك بالأسباب الأمنية، ليتضح لاحقاً أنَّ المختار يقوم بعمليات التهريب ليلاً دون الاكتفاء بالسياسة، ذلك لأنَّ "التهريب بدُّه سياسة"، يقدِّم بإطار كوميدي صورة السلطة التي تخترق القوانين لمصالحها الشخصية، لتحظى بالرفاهية والاستقرار على حساب أمن الشعب وأمانه وعلى حساب لقمة عيشه، أمَّا بعد أن خرج أهل الضيعة في مظاهرة شعبية لتغيير المختار حاملين شعارات "يسقط المختار" معللين ثورتهم بالظلم وسوء الأوضاع الاقتصادية، فقد لاقاهم المختار متظاهراً برحابة الصدر، بل وشجَّعهم على التظاهر قائلاً: "أنا معهم ضد حالي" ثمَّ أجرى تغييرات لامتصاص ثورة أهل الضيعة حين عزل مأمور المالية وعيَّن بدلاً منه مأمور الطابو، ثمَّ عزل مأمور الطابو وعيَّن بدلاً منه مأمور المالية، في إشارة إلى سطحية التغييرات وكذب الوعود التي يتمُّ تقديمها من قبل السلطة للشعب، لذلك كان للكذب عيدٌ في مسرحية (غربة) فكان كأس الدوري المخصَّص للكذب من نصيب الحكومة في كلِّ أيام السنة وفي يوم الكذب فقط كان يمنح للشعب!

كما تشير مسرحيات الماغوط إلى استغلال القضايا الخارجيَّة لصالح السلطة وإظهار موقفها من القضايا القوميَّة، وتأتي القضية الفلسطينيَّة في مقدمة تلك القضايا، لتجعل منها –على أهميتها- قضية سوريا الكبرى، فتعرض لمسألة استهداف السلطة، وبأنَّها تتعرض دائماً للمؤامرات التي تستهدف وجودها من قبل العدو التاريخي (إسرائيل)، فتجعل من هذه القضية شماعة تعلِّق عليها جميع مشكلاتنا الداخلية منها والخارجية، ومن ثمَّ يكون الحديث عن هذه القضية بمثابة (الفت خارج الصحن) بمعنى تهميش القضايا الداخلية وجعل القضايا القومية في المقدمة.

وتتحدَّث مسرحية (كاسك يا وطن) عن البطالة والفقر والجوع والمحسوبيات وضعف الخدمات الاجتماعية والصحية وغيرها من المشكلات التي يعاني منها جميع أفراد المجتمع السوري في الواقع لتوهم السلطةُ الشعبَ بأنَّها تتلامس مع آلامهم، وتشعر باحتياجاتهم وتحاول أن تجد الحلول للقضاء على كلِّ ما يعاني منه الشعب.

 إنَّ ما تمَّ تقديمه من مسرحيات تمَّ التعاون فيها بين محمد الماغوط ودريد لحام عبارة عن حالة من التنفيس السياسي الذي تستطيع من خلالها السلطة أن تحتوي معارضيها وتخفف من غلواء غضبهم، وتجعلهم تحت رقابة السلطة الدائمة، ومن ثمَّ فإنَّها تستطيع أن تقضي على الاحتقان الذي قد يؤدي إلى الثورات، كما أنَّ حصر ممارسة الحرية السياسية في زاوية محددة (المسرح) لا يعني بحال وجود دولة ديمقراطية تحترم الحريات الفردية وتدعم ممارستها، لأنَّ الفعل السياسي يجب أن يُمارس في الفضاء العام، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على وجود سلطة استبدادية تمارس قمع الحريات على شعوبها، وتسعى إلى أدلجة الفن ليتناسب مع مصالحها السياسية بعيداً عن مقاصد الفن وغاياته.