الكتلة الوطنية وعتبة مرحلة ممكنة

2023.05.02 | 07:35 دمشق

الكتلة الوطنية وعتبة مرحلة ممكنة؟
+A
حجم الخط
-A

اثنا عشر عاما مرت، ولليوم لم يتوقف سيل المبادرات المتعلقة بسوريا. بدءًا من مبادرة الجامعة العربية المبكرة في أيار 2011، وجنيف 1/2012 وصولًا إلى 2254/2015؛ والحدث السوري هو الأبرز في طرق إنتاج حلوله المقترحة. تلك التي لم تبصر للنور أي منها، حتى بعد سلسلة من لقاءات جنيف ولقاءات لجنة دستورية وسوتشي وأستانا ومنصات هنا وأخرى هناك، ومحاولة إيجاد معالم طريق للحل، لكن لليوم الواقع السياسي "مكانك راوح"، بل يصح فيه القول أحيانًا "خطوة للأمام عشرة للخلف"!

اليوم تعود المبادرات الإقليمية والعربية للشأن السوري بعد عطالة سياسية طويلة. مبادرات لم تتضح معالمها السياسية بعد، ولم يزل السؤال المركزي فيها حول إمكانية تشكيل عمق جيوبوليتيكي عربي قادر على المبادرة والتفعيل، سؤال محفوف بالأدوات وطرق العمل، وقد نقول أحيانًا "النية سابقة العمل"، فهل يمكننا طرح سؤال ماذا نريد وكيف؟ ونحن على أعتاب مرحلة معقدة لكن ممكنة؟

في التاريخ، مرت سوريا بمرحلتين مفصليتين. الأولى، مرحلة الجمهورية الأولى المتشكلة بدءًا من عام 1932، المرحلة التي ابتدأت مبكرًا في ظل الانتداب الفرنسي، وتوجت في تاريخ 17/نيسان 1946 برحيل آخر الجنود الفرنسيين عن سوريا، وما تلاها من مرحلة شهدت فيها سوريا كثيرا من الانقلابات العسكرية، استمرت حتى انقلاب البعث العسكري 1963. لتأتي بعدها المرحلة الثانية التي ما زلنا نعيشها من يومها لليوم في ظل سلطة البعث الحاكمة.

يرغب كثير من القوميين وغيرهم اعتبار الجمهورية الأولى السورية هي تلك التي بدأت بعد تاريخ 17/نيسان 1946 كمرحلة انقلابات عسكرية استمرت حتى أتى حكم البعث

اتسمت المرحلة الممتدة من 32 -63 بأنها مرحلة نيابية انتخابية بُنيت على أساس دستوري 1932 وتعديلاته في 1950 الذي أعطى الحياة السياسية بعدها النيابي والتمثيلي المقترن بالحرية والديمقراطية النوعية في وقتها. هي مرحلة الجمهورية السورية الأولى التي أتت بعد انتخاب محمد على العابد كأول رئيس سوري منتخب، ويليه انتخاب هاشم الأتاسي، رئيس الكتلة الوطنية حينذاك، عام 1936، وتوحيد سوريا في دولة مركزية بعد تقسيمها لفيدراليات استمرت طوال فترة الانتداب الفرنسي. بقيت هذه المرحلة تحاول الاستمرار جمهوريًا ونيابيًا حتى قفز عسكر البعث وانقلبوا عليها فيما يسمونه ثورة 8/آذار 1963، الجمهورية الثانية الممتدة لليوم، معلنة انتهاء الحياة السياسية السورية وتحولها لدولة الحرمان السياسي والقهر المجتمعي وكل أشكال التنكيل والهيمنة، وصولًا لما نحن فيه اليوم من كوراث وتدمير وتهجير وموت جماعي وسلة من الاحتلالات العسكرية المتنوعة!

يرغب كثير من القوميين وغيرهم اعتبار الجمهورية الأولى السورية هي تلك التي بدأت بعد تاريخ 17/نيسان 1946 كمرحلة انقلابات عسكرية استمرت حتى أتى حكم البعث، فيما يسمونه بثورة 8/آذار وتشكيل الجمهورية الثانية المستقرة! وما يؤلم السوريين اليوم، ليس فقط أنهم وقعوا في مواجهة الخيارات الأقسى في تاريخ الإنسان، خيار الوجود الأول: الحياة أو الموت! فكل ما يتلوه من خيارات سياسية أو مادية أو اجتماعية على أهميتها وضرورتها، إلا أنها قابلة للحوار أمام لغة الموت بكل صنوف أسلحة القتل والتدمير. وما يجعل الألم مضاعفًا، أن معظم السوريين هم ضحية وثوقهم في نظام العسكر هذا المدعي بناء سوريا الحديثة منذ استيلائه على الحكم! "دولة البعث" هذه ليست مقتصرة على حزب البعث بجناحه العسكري وفقط، بل هي نظام حكم قانوني الطوارئ وبديله الإرهاب 2012 وكل ما أنتجه من فساد ومظلوميات، وطرق مبتكرة في معاقبة المجتمع بتهم إضعاف ووهن الشعور القومي ومعاداة الاشتراكية في البلد فقط لكونك صاحب رأي.

هي سلطة عملت على اجتثاث السياسة من المجتمع ونزع الحالة المدنية عنه وتسييس القانون والقضاء لمصلحتها، بحيث يصبح القانون هو ما تراه السلطة الحاكمة بمراسيمها الجمهورية، لا شرعية القانون الوضعي المنصوص عنه دستوريًا! والذي يصح فيه القول "حكم بالقانون" بدلًا من سيادة القانون، وهذا الفرق شاسعَ! هذا كله قبل سوريا الثورة التي اجتاحتها قوى النظام بكل حلولها العسكرية والأمنية لقمع مسارات تحولها للجمهورية الثالثة، جمهورية الحريات والقانون وأقله دولة سوريا لكل السوريين لا لمتنفذي البعث، ومن خلفه المنظومة الأمنية العسكرية المتمكنة من كل مفاصل الدولة اقتصاديًا وسياسيًا وحياتيًا. وحالنا اليوم لا تخطئه عين ولم يخطر على قلب بشر!

إن الفرق بين طبيعة وهوية شكل الجمهورية السورية النيابية الأولى والعسكرتارية الثانية، هو ذاته الفرق بين أحلام السوريين في الاستقرار والأمان ودولة الحقوق والحريات وانتعاش الحياة السياسية المدنية، والتنافس البرلماني والكتل السياسية وحرية الانتخاب والعقد الاجتماعي السوري؛ وبين دولة العسف السلطوي والعسكري الأمني، وحكم الأقلية الأوليجاريشية المستبدة بالمجتمع والدولة واقتصاده. فهل يمكن للسوريين استعادة زمام مقومات الأولى في ظل بحرٍ سياسي متلاطم بالمشاريع السياسية الإقليمية والدولية والعربية؟ خاصة وأن سلطة النظام القائمة لم تزل تتقن دورها الإقليمي بين متناقضاتها؟

في الطريق إلى الجمهورية الثالثة السورية، يختلط الحديث بين منابر فكرية متعددة أو سياسية متخالفة أو متخارجة وتصطدم جميعها لليوم في طريقة الحل السوري. فبعد استعصاء الحلول العربية والدولية ما بعد 2015، استنقع الوضع السوري في جملة من المعادلات الجيوبوليتيكية التي تسعى لمصالحها من خلاله، حتى بات الحل المزمع مجرد تركيبة من المصالح والأوهام! كيف لا والساحة السورية، التي تصر على الاحتفال بذكرى 17/نيسان والاستقلال و"سيادة سوريا واستقلال قرارها السيادي" المبتذل، باتت ساحة عالمية تتكثف بها ساحة الصراع العسكري والمحاور السياسية الإقليمية والدولية. هذا ناهيك عن سيل من المنصات والمنابر السورية، والتي كنا نرتقب أن تكون رافعة للهوية الوطنية السورية، لكنها، وعلى الأغلب، لم تعمل بشؤون السياسة إلا من خلال بوابتي الحلم والإيديولوجيا، وكل منها يريد سوريا كما توحيه له إيدلوجيته وحلمه. في حين آلية التشارك والتعاقد، الطرق والآليات الغائب الرئيسي عن منابرها!

العمل على إنتاج الجمهورية الثالثة ليس معجزة أو عملا سحريا. بل هو تمامًا مقاربة أولى لإنتاج الكتلة الوطنية السورية

رغم هذا، إمكانية استعادة دولة القانون والحريات ونظام الحكم البرلماني والانتخابي في مرحلة الجمهورية الأولى، ونبذ التطرف ودولة العسكر والمحسوبيات، ومجريات الأحداث الحالية والراهنة في المرحلة الثانية من عمر سوريا؛ لم تزل إمكانية قائمة. والعمل على إنتاج الجمهورية الثالثة ليس معجزة أو عملا سحريا. بل هو تمامًا مقاربة أولى لإنتاج الكتلة الوطنية السورية، وأهم سماتها: القدرة على فهم سياق المرحلة الحالية السورية بتعقيداتها الدولية والإقليمية. وقادرة على الحوار الوطني مع المكونات السورية متعددة الأطراف والأجندات: شرقي الفرات، شمال غربي سوريا، تجار وسكان دمشق وحلب، أبناء الساحل السوري، والمنطقة الجنوبية، وتعليب المصلحة الوطنية العامة بمنطق بناء الدولة، لا منطق الوصول للسلطة. كما يمكنها تحييد الشرعيات الثورية والسياسية المفرطة بالهوس الشعوري والامتثالية للغة الأهواء والرغبات، ومثلها الإيديولوجيات المتقوقعة خلف شعاراتها وحسب. وظني هذه لم تزل يسيرة على السوريين، كما لم يزل ممكنًا العمل على تغليب كفة المتناقضات الدولية والإقليمية والمبادرات العربية، باتجاه التغيير السياسي، حتى وإن كان جزئيًا ومرحليًا والدخول في مرحلة انتقالية، التي يمكنها أن تكون عتبة للتعاقد الوطني السوري في إنتاج جمهوريتها الثالثة.