icon
التغطية الحية

"القمصان البيضاء" لـ إبتسام تريسي.. ثورة السوريّات على استبداد الأسد والجسد

2021.11.23 | 10:29 دمشق

abtsam_trysy-_tlfzywn_swrya.png
أحمد العربي
+A
حجم الخط
-A

تطل الروائية السورية إبتسام تريسي في روايتها "القمصان البيضاء" على عالم  النساء المصابات بسرطان الثدي، ، بعد أن كانت قد نشرت أكثر من عشر روايات وبعض المجموعات القصصية وكلها تتناول الواقع السوري من كل جوانبه، خاصة الإرهاصات التي سبقت ثورة الشعب السوري عام 2011 وما تلاها إلى الآن.

ورواية "القمصان البيضاء" الصادرة عن دار "موزاييك للنشر"، تعتمد أسلوب السرد بلغة المتكلم، على لسان ثلاث نساء يتناوبن على التحدث عن حياتهنّ، وهنّ: سليمى، ومرام، ورشا.

سليمى ابنة دمشق.. شرارة الثورة

سليمى سيدة دمشقية من مواليد ستينيات القرن الماضي، تعيش في كنف والدتها وجدّتها. كبرت وأدركت التمييز الاجتماعي بين الرجل والمرأة، وأوصتها جدتها مراراً بالحرص في التعامل مع الرجال، فللجسد حرمته.

ومع ذلك، كانت سليمى تتعايش مع نضجها وتكوّر جسدها، وإحساسها بشوق لآخر تعيش معه اكتمالها الإنساني. تبادلت الحب والرسائل مع شاب يسكن بجوارهم، لكنها استسلمت لطالب زواج قادم لها عبر عائلتها، خاصة أن شعارهم: "المرأة يسترها زواجها".
لم تكن تعرفه.. تزوجت بناءً على قرار الأهل. كان رجلاً قاسياً وعدوانياً، ولم يترك لها أي مساحة للتعايش والحب والتفاهم. حملت منه بسرعة وأنجبت طفلها، ولم يستطع الطفل أن يجعلها تتكيف مع حياة القهر مع زوجها. طلبت الطلاق وحصلت عليه أخيراً، ولكن الثمن كان تخلّيها عن طفلها. عادت لتعيش في كنف جدتها التي حاولت أن تخفف عنها، ولكن توازنها النفسي والعاطفي كان قد انكسر، اقترحت عليها صديقتها أن تلجأ إلى طبيب نفسي.

كانت الجلسات النفسية مفيدة لها، أراحتها وأعادتها الى توازنها نسبياً، لكنها عشقت طبيبها وهو بادلها ذلك.. أعطاها مفتاح شقة خاصة له، وتبادلا العلاقة الجنسية فيها على فترات. علمت بعد ذلك أن للطبيب عشيقات أخريات، وأنه لم يكن مخلصا لها حتى في عشقه. مع ذلك استمرت العلاقة معه، إذ لا بديل لديها.

مع قيام الثورة السورية، شاركت سليمى بالتظاهر.. أحست أنها ثورتها هي أيضاً. تعرف عن النظام طائفيته وظلمه وقهره، وسمعت عن ما فعله في سوريا في ثمانينيات القرن الماضي. واجهها طبيبها بفيديو تظهر به مشاركة بالثورة.. الطبيب من طائفة النظام، أي ضد الثورة، فوشى بها للأمن الذي اعتقلها، كما كان الطبيب سبباً في اعتقال أخريات. عايشت سليمى التعذيب والإساءة والإذلال، وحصل بمعرفتها حالات اغتصاب كثيرة لنساء وصبايا كانوا معتقلات معها.

بعد أشهر خرجت من المعتقل وقررت مغادرة دمشق إلى تركيا.. وصلت إسطنبول بعد عناء شديد لكنها لم تتكيف بالعيش فيها، وكانت تفتقد دمشق وجدتها وبيتها. اكتشفت بعد فحص طبي إصابتها بسرطان الثدي، ودخلت في رحلة المعاناة والخوف والعلاج بكل مراحله.

تابعت سليمى حياتها متكيفة مع إصابتها.. تفاعلت عبر وسائل التواصل مع مثيلاتها السوريات في بلاد اللجوء. شكلنّ مجموعات دعم نفسي وتوعية صحية، وزاد من معاناتهن حصول جائحة كورونا في عام 2020 والحَجْر والخوف من الإصابة وتداعياتها على الحياة. لكنهنّ حاربن العزلة بالتواصل عبر الإنترنت والانتصار للحياة.

مرام ابنة اللاذقية.. الحب المستحيل

مرام ولدت وعاشت في اللاذقية، في ذاكرتها بحر أزرق كبير، البحر الأبيض المتوسط، لا تستطيع تصور حياتها إلا بحضوره وذكرياتها معه، كبرتْ ونما جسدها. عانت من كبر صدرها، فحاولت إخفاءه بحمالة صدر منذ دراستها الثانوية. عاشت حبها الأول مع شاب مسيحي، وكانت تخاف كل الوقت أن لا ينتصر حبها. تعرف وهي المسلمة صعوبة الزواج بين المختلفين دينياً في بلادنا.

أخبرت حبيبها أن والدتها معها وستساعدهما إن قررا الزواج. لكنه لم يستطع أن يواجه ظروفه وأهله، فانتهت العلاقة بغصة في قلبها.

 كتبت الشعر لحبيبها واستعاضت به عن حرمانها منه، نشرت شعرها في الصحف السورية. التقط الأمن حضورها، استدعاها لأحد الفروع، وتكلم معها المحقق عن ضرورة أن تكتب الشعر دعما للنظام، لكنها لم تقبل ذلك، كانت ككل السوريين تدرك النظام وظلمه واستبداده. هربت من إلحاح الأمن للدراسة في لندن. وكانت قد التقت مع باحثين أمريكيين يتقصون عن كل شيء في سوريا! استغربت ذلك، لكنها السياسة.

تناولت الرواية موضوع المرأة السورية خصوصا والعربية وفي العالم عموماً، ضمن السياق الروائي دون تكلف

عادت من لندن، تقدم منها رجل للزواج، قبلت، رغم دوام حبها الأول في قلبها. أنجبت ولدها الأول وتطلقت، سافرت إلى فرنسا وتزوجت هناك من رجل فرنسي. زوجها الأول جاء إلى فرنسا وخطف ابنها.

كتبت شعراً بالفرنسية جعلت زوجها الفرنسي يقاضيها ويطلقها ويأخذ منها ولديها، أصبحت مشردة، لم تفكر بالعودة الى سوريا، خاصة بعد الثورة وما عايشه الشعب من ظلم وعدوان ومآسي.

صارت مرام من مشردي الشوارع في باريس، تعايشت مع كثير من النساء المشردات، علمت قصصهنّ، وأدركت أن المرأة مظلومة حتى في باريس عاصمة النور.

لم يكن حال مرام أفضل من سليمى، فحين فحصت صدرها واكتشفت أنها مصابة بسرطان الثدي، لم تستغرب ذلك. دخلت في رحلة العلاج كاملة، خوفاً من الموت وحرصاً على الحياة.

أصبحت مرام واحدة من مجموعة سليمى والأخريات يتابعن مشكلتهنّ ويتضامن مع حالتهنّ ويقدمنّ لبعضهنّ الدعم النفسي والنصائح للتأقلم مع المرض والعمل للانتصار عليه.

رشا الحمصية.. قهر السرطان

رشا المولودة في حمص كبرت وكبر معها حبها لنهر العاصي، دخلت سن المراهقة، بدأ جسمها بالنمو وأخذ شكله الأنثوي، وكبطلات الرواية الأخريات، لاحظت تضخماً في صدرها، شكّل بالنسبة لها عقدة بحيث كانت تختار ملابسها فضفاضة لتخفي كبر حجمه.

تعيش رشا مع أهلها في البيت حياة هانئة، ترعاها عمتها كابنتها التي لم تلدها. فعمتها التي مات خطيبها فجأة ولم تتزوج بعدها.

عاشت حبها الأول مع ابن حارتهم الذي كان يبوح بحبه لها عبر الأغاني العاطفية من المذياع الذي يضعه على نافذته المطلة على منزلها، علمت بحبه لها من أخته زميلتها في المدرسة، بادلته المشاعر، خطبها بعد ذلك وتزوجا، غادرت معه إلى الكويت حيث يعمل. عاشت هناك ومازالت عقدتها من كبر حجم صدرها حاضرة. حيث حصل الحمل وزاد تضخمه إلى جانب تعبها من الإرضاع، إلا أنها تأقلمت مع ذلك.

عملت رشا في جريدة هناك، زارتها أختها وأمها في الكويت. اكتشفت صدفة أن أختها أصيبت بسرطان الثدي واستأصلت ثديها. فحصت نفسها ووجدت أنها مصابة أيضاً. تابعت العلاج في كل مراحله، الفحص المؤلم والعلاج الإشعاعي والكيماوي، استأصلت فيما بعد جزءاً من الثدي، وشفيت من المرض.

في خضم ذلك كتبت للإذاعة حلقات للأطفال، وبعد خمس سنوات عاد المرض لها مجدداً، تحدت نفسها واستأصلت الثدي المصاب وكذلك السليم. وشفيت تماماً. سميت قاهرة السرطان. أصبحت نموذجاً للمرأة زارعة الأمل في مجموعات النساء المصابات بسرطان الثدي على الانترنت، اعتبرت ما تقوم به رسالة تواظب على أدائها بكل حب وتفاني.

رسائل "القمصان البيضاء":

  • المرأة السورية

تناولت الرواية موضوع المرأة السورية خصوصا والعربية وفي العالم عموماً، ضمن السياق الروائي دون تكلف، المتحدثات كلهن نساء، كما تدخل الرواية إلى صميم البعد النفسي والوجداني والغرائز في كيان نسائها. هذا عدا عن التحدث عن الظروف المجتمعية التي وجدنّ ونشأنّ بها. حيث يظهر التمييز الجنسي بين الرجل والمرأة والتعامل الدوني معها، ووقوعها ضحية سلسلة القهر المجتمعي من الأهل والمجتمع والعادات والتقاليد. استطاعت الرواية أن تفهمنا مبرر أي سلوك منحرف عند المرأة، وجعلتنا نبرره في كثير من الأحيان.

  • الثورة حاضرة

تتحدث الكاتبة "تريسي" عن مشاركة بعض بطلاتها في الثورة السورية، وأنها ثورة المرأة السورية أيضا ضد الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، وتطل على اعتقال النساء الناشطات والتعذيب والإذلال الذي مورس بحقهنّ من قبل النظام القمعي المجرم، وبلغت ذروة التعذيب بالاغتصاب كواحد من أسوأ سلوكيات امتهان المرأة، لتعيش بعد ذلك إحساس العار أمام نفسها والمجتمع.

  • توعية مباشرة

ولعل أهم موضوع تناولته الرواية كان سرطان الثدي عند المرأة بما يمثله من تجربة وجودية، وامتحان أمام نفسها والمجتمع، وما يصاحبه من آلام ومعاناة وما يتطلب من صبر في علاجه، مع الأمل بالانتصار عليه.

ترفع تريسي الغطاء عن المرض وتطرحه للعلن ولا تجعله طي العيب والحرام، مبينة أن صراع الإنسان مع جميع الأمراض قديم ومستمر للآن حيث أطلت الرواية على صراع العالم كله مع جائحة كورونا، وأن على الإنسان أن يستمر في بحثه العلمي و جهده ليجعل حياة الإنسان أقل ألما وأكثر راحة وعافية وسعادة.

وكعادة ابتسام تريسي تتحفنا دوما بجديدها المتميز وموضوعاتها المتنوعة وتجعلنا دائما ندخل حديقتها الروائية ننبهر بالجديد والمهم و المفعم بالمعنى، مؤكدة في طيات صفحاتها أنها "انتصار للإنسانية".