القتيل السوري.. دم ضائع وعزاء افتراضي

2022.09.14 | 07:09 دمشق

القتيل السوري.. دم ضائع وعزاء افتراضي
+A
حجم الخط
-A

كنت قد بدأت بكتابة مقالة عنوانها المريض السوري، لكن حادثة قتل السوري “بشار عبد السعود” في لبنان، والذي تعرض لتعذيب ممنهج على يد عناصر من جهاز أمن الدولة اللبناني، التي كانت تعتقله، ما أدى إلى موته، ويعرف عن الجهاز المذكور أنه قريب من حزب الله اللبناني، ولهذا فهو بالضرورة سوف يكون معادياً للسوريين الفارين من جحيم النظام، طبعاً، من دون أن ننسى الدعاية المنظمة التي تقوم بها جهات سياسية لبنانية بما فيها رئيس الجمهورية ميشيل عون نفسه ضد اللاجئين السوريين في لبنان، والمطالبات المستمرة بترحيلهم.

جعلتني هذه الحادثة أتوقف مطوّلاً عند “القتيل السوري” وأعادتني سنوات إلى الوراء، حيث روى لي صديق كان طالباً في بلغاريا أوائل ثمانينيات القرن الماضي تفاصيل مقتل زميل له في الجامعة، وكان طالب طب سورياً، إذ حدث خلاف بين الطالب القتيل وزميلين له بلغاريين حول موضوع تافه، فانهالا عليه ضرباً حتى فارق الحياة، وقد استنفر الطلبة العرب وقتئذ، وذهب السوريون منهم إلى السفارة السورية كي تتحرك وتتابع القضية، لكن ما حدث أن السفارة السورية اكتفت بنقل جثة القتيل على نفقة الحكومة إلى سوريا، كي يتم دفنه في “تراب بلده”، ولم تكترث كثيراً بمتابعة سير التحقيق مع الجانيين، اللذين ستقول الشرطة البلغارية لاحقاً إنهما قتلاه بطريق الخطأ، رغم أن الجميع يعلم، كما أخبرني الصديق الذي روى الحادثة، أن القتل سبقه تهديد بالقتل.

في حين تنشغل بعض الجهات الحقوقية السورية، بملاحقة من تسميهم “مجرمي النظام” فلم نسمع أياً منها انشغل بقضايا قتل السوريين

طبعاً تلك الحادثة لم تنتشر، وربما لم يسمع بها أحد سوى أهل القتيل، ولم تتحدث عنها الصحف الحكومية السورية، ربما كيلا تسيء للعلاقة “الرفاقية” بين “القيادتين”.

خلال السنوات الماضية قتل سوريون كثيرون في بلدان مختلفة، ولأسباب كثيرة، ولأن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت وصول المعلومة بسرعة، وبتوثيق لا غبار عليه أحياناً، فإن بعض تلك الحوادث لم تمر مرور الكرام، وتحولت إلى “قضية رأي عام” نوعاً ما، كيلا نكون مبالغين، وانشغل ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي، والمدونون على اختلاف مشاربهم، بالحديث عن تلك الجرائم، يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً في أحسن الأحوال، وانتشرت بيانات ومطالبات بمحاسبة الجناة، لكن، في كثير من الأحيان لم يتجاوز الأمر ذلك، وفي حين تنشغل بعض الجهات الحقوقية السورية، بملاحقة من تسميهم “مجرمي النظام” فلم نسمع أياً منها انشغل بقضايا قتل السوريين، بل ولن نبالغ إن قلنا إنها لم تكلف نفسها عناء إصدار بيان، ولو ذراً للرماد في العيون.

وتعمل بعض وسائل الإعلام التي يفترض أنها تمثل الثورة، بالعقلية نفسها تقريباً، فهي تعتمد مبدأ المناكفة في الحديث عن تلك الجرائم، فإن وقعت الجريمة في بلد تعتبره معادياً فقد تخصص وقتاً لا بأس به للحديث عنها، وتستضيف ناشطين ومدافعين، كذا إلى آخره، أما إن وقعت في بلد تعتبره مناصراً فقد يصل الأمر إلى تجاهل التحدث عن تلك الجريمة، أو ربما، وفي أحسن الأحوال، قد تذكرها بشكل عارض، مع أننا نتحدث هنا عن جريمة ذات طابع جنائي، وليست فعلاً سياسياً صادراً عن دولة، ولا يوجد مجتمع مهما بلغ تحضره وتطوره يخلو من المجرمين والقتلة.

وسوف تغيب تماماً أي إجراءات قانونية تتخذها حكومة نظام دمشق أو حتى حكومتا المعارضة السورية للمطالبة بالتحقيق، ففي حين سوف يعتبر نظام دمشق أن ذلك “القتيل” هو معارض، ولا يعنيها أمره، وقد تخلصت منه على أي حال، وهي التي قتلت مئات الآلاف بدم بارد، واعتبرت نفسها تدافع عن الوطن، فإن المعارضة سوف تبدو خائفة مرتبكة، بل وخجولة في كثير من الأحيان. وقد تنتظر رد فعل الدولة التي وقعت فيها الجريمة قبل أن تدلي بدلوها، وسوف يثير تصريحها أو بيانها سخرية، لأنه دائماً يأتي منقوصاً على شكل “لا تقربوا الصلاة”، وسوف يضيع دم ذلك القتيل، أياً يكن سبب الجريمة، ولن يحظى سوى بعزاء افتراضي يقيمه له ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي.

نخشى، والحالة هذه، أن نصل إلى مرحلة نكتفي فيها بذكر أرقام قتلانا، حيثما يعيشون كيلا نؤذي مشاعر دولة ما..

كانت وسائل إعلام النظام السوري ما قبل الثورة، تكذب في عدد الجرائم التي ترتكب في سوريا، كيلا تفسد الدعاية الحكومية الساذجة بأن سوريا هي بلد الأمان الأول في العالم، ولم يكن الشاعر الراحل ممدوح عدوان مخطئاً حين قال: إن الإعلام السوري يكذب حتى في النشرة الجوية. ونحن راهنا على أننا نستطيع صناعة إعلام مواطن، يهتم بالناس أكثر من اهتمامه بالدعايات السياسية، وربما صدقنا الناسُ، واستبشروا خيراً، لكن ما حدث لاحقاً كان مخيباً للآمال.

أخيراً.. في بداية الثورة كان يتم توثيق الشهداء بأسمائهم، وكانت ترفع صورهم في المظاهرات، ولكن، ومع ازدياد القتل، صار يُكتفى بذكر أعداد الشهداء، وضاعت أسماؤهم في الزحام.. ونخشى، والحالة هذه، أن نصل إلى مرحلة نكتفي فيها بذكر أرقام قتلانا، حيثما يعيشون كيلا نؤذي مشاعر دولة ما..