icon
التغطية الحية

الغارديان: تدمير ريف دمشق انتقاماً في الوقت الذي يبني فيه الأسد "سوريا الجديدة"

2022.03.24 | 15:37 دمشق

صورة ملتقطة بالأقمار الصناعية تظهر حجم التدمير الذي لحق بحي القابون الدمشقي- تاريخ الصورة: 18 شباط 2022
صورة ملتقطة بالأقمار الصناعية تظهر حجم التدمير الذي لحق بحي القابون الدمشقي- تاريخ الصورة: 18 شباط 2022
الغارديان - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

يقوم النظام السوري بهدم أحياء محيطة بدمشق كانت في السابق بيد الثوار بحجة تنظيفها من الألغام وإفساح المجال لبناء "سوريا الجديدة" التي ستقام فيها أحدث وأرقى الأبنية المتطورة والحدائق الجميلة.

قام تحقيق أجرته صحيفة الغارديان مع منظمة المنارة للتقارير، والمنظمة السورية لرفع التقارير الاستقصائية من أجل صحافة المحاسبة (سراج)، وراديو روزنا، بتحليل عمليات الهدم التي تمت بالجملة في منطقة القابون بريف دمشق، وهو واحد من بين الأحياء الكثيرة القريبة من العاصمة التي خضعت لعمليات إخلاء وإعادة تطوير لدرجة غيرت معالمها، وذلك بعد نزوح الأهالي منها بسبب القتال، أو بعد خروجهم من البلاد وتحولهم إلى لاجئين.

حي للطبقة العاملة

تم إخلاء حي القابون، وهو أحد الأحياء التي تعتبر من ضواحي دمشق والتي قاومت نظام الأسد على مدار سنوات، من سكانه، لكنه بقي قائماً عندما استعادته قوات النظام في عام 2015، ومنذ ذلك الحين، تبين من خلال مقاطع الفيديو والصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية والتي حصلت عليها الغارديان والمنظمات الشريكة لها في هذا التحقيق بأن حي القابون دفع ثمن مقاومته غالياً، وذلك لأن الجيش السوري صار يستخدم أساليب تدميرية لمسح معالم الحي كله، متذرعاً بأن تسوية البيوت السكنية بالأرض مجرد عملية هدفها إزالة الألغام.

يعتبر حي القابون من المناطق الكثيرة الموجودة في دمشق وفي مختلف أنحاء سوريا والتي جرى تدميرها بعدما تمت مصادرة الممتلكات والعقارات فيها من أجل عملية إعادة الإعمار التي يزعم النظام أنه سيقوم بها بعد الحرب، على أمل أن يشجع ذلك جهات أجنبية على الاستثمار في قطاع العقارات بسوريا.

تظهر المخططات المزعوم تطبيقها رؤية مختلفة كلياً بالنسبة لحي القابون الذي كان أبناء الطبقة العاملة يقطنون فيه قبل الحرب، إلا أنه لم يعد بمقدورهم المطالبة بملكية الأراضي هناك منذ أن توقف القتال، حتى في الوقت الذي أبلغت فيه دول غربية مثل الدنمارك والمملكة المتحدة طالبي اللجوء فيها بأن العودة إلى دمشق أضحت آمنة.

ولذلك اتهم باحثون إلى جانب أهالي هذا الحي الذين عاشوا فيه في السابق نظام بشار الأسد بإعادة هندسة البنية الاجتماعية لهذه المنطقة بعدما تحولت إلى معقل للثوار خلال الحرب.

التهديم بغرض الانتقام

تقول مزينة السعدي، وهي من سكان القابون السابقين واليوم تقيم في الدنمارك: "إنه نوع من الانتقام بحق أهالي القابون، ولضمان عدم بقاء أي شيء بوسعهم أن يعودوا إليه. أعتقد أن هذه رسالة من النظام موجهة لأهالي القابون، يخبرنا فيها بعدم وجود أي شيء لنا هنا".

يذكر أن الابن الأكبر لدى مزينة تعرض للتعذيب خلال فترات الاحتجاج الأولى التي قامت في القابون، ولهذا رحلت الأسرة كلها من البلاد في عام 2012، ثم اشتد القتال بين قوات النظام والفصائل المسلحة التي وقفت ضد قمع الجيش للمظاهرات المدنية.

وفي نهاية الأمر سقط حي القابون بيد النظام في أيار من عام 2017، فقام الجيش بطرد آخر من تبقى من سكانه، وكان من بينهم أقارب لمزينة، وهؤلاء التقطوا صورة لبيتها قبل أن يرحلوا، حيث تثبت تلك الصورة بأن بيتها بقي قائماً عندما سيطرت قوات النظام على المنطقة.

Mazeena Saadi's house

صورة لبيت مزينة السعدي تظهر بأن البيت بقي قائماً بعد سيطرة النظام على الحي في عام 2017

وفي أيلول 2017، أظهرت الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية بأن بيتها والمنطقة القريبة المحيطة به قد تعرضت للتدمير والهدم.

وخلال السنوات الأربع الماضية، بدأ الجيش السوري يعلن عن عمليات هدم بلغ عددها ألف عملية في عموم أنحاء سوريا، وذلك من خلال حسابه على تويتر. وقد امتدت تلك العمليات من درعا في الجنوب إلى حلب في الشمال، إلا أن النظام بقي يبرر ذلك بحجة: "إزالة العبوات الناسفة التي تركتها الجماعات الإرهابية في المنطقة"، إلا أن صور الأقمار الصناعية تظهر عمليات تدمير وهدم أكثر وأكبر من ذلك بكثير.

كما أن الجيش الروسي الذي يصف تدريبه للمهندسين العسكريين السوريين بالمهمة الإنسانية، يساعد قوات النظام على الأرض في عمليات إزالة الألغام ضمن العديد من الأحياء الدمشقية، بحسب ما ورد في الإعلام الرسمي الروسي.

ولكن عند تحليل مئات الصور والفيديوهات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تدور حول القابون تبين بأن هنالك نمطاً ممنهجاً لعمليات تفجير كبيرة يتم من خلالها هدم أبنية بأكملها مع كل ما يحيط بها تقريباً، وهذا لا يتماشى مع أي هدف إنساني معلن.

يعلق بيير هوكون برايفيك وهو رئيس عمليات إزالة الألغام لدى الهيئة النرويجية لمساعدة الشعوب على ذلك بقوله: "إن العمل الإنساني في مجال إزالة الألغام يعتمد على نظم وأهداف ونتائج مختلفة تمام الاختلاف".

وقد ذكر هذا الرجل بأن الأساليب التي تتبعها قوات النظام يمكن أن تتسبب بتجمع أي عبوات غير منفجرة تحت الركام، بشكل يصعب معه إزالتها، ويضيف: "لا توجد طرق مختصرة لعمليات إزالة الألغام الإنسانية، إذ عليك أن تتعامل مع كل عنصر على حدة، حيث ينبغي تفجيرها من السطح وصولاً إلى الخرسانة. أما إذا قمت بهدم البناء، فهذا لا يعني بأن كل المتفجرات التي لُغمت بها ستنفجر، لأن الأسلوب يعتبر أسلوباً منهجياً بالنسبة لعمليات الهدم العسكرية، ولكن هذه المناطق سكنية، ولهذا يجب ألا تخضع لهذا الأسلوب العسكري".

مقطع فيديو يظهر تدمير المنطقة المحيطة ببيت مزينة

من بين الأبنية التي جرى هدمها مشروع إسكان عسكري لم يكتمل بعد، كان يعرف باسم بناء الأوقاف، وقد هدم في أواخر عام 2018، حيث أظهر فيديو نشر على الشابكة عناصر من الجيش وهم يراقبون سحابة كبيرة من الدخان غطت كل ما يحيط بذلك البناء.

تظهر صور الأقمار الصناعية أنه خلال الأسابيع التي أعقبت عملية الهدم هذه، جرت عملية هدم حول البناء ضمن دائرة نصف قطرها 500 متر، وقد شمل التدمير والهدم مدرسة كانت موجودة هناك. إلا أن عقارات استثمارية ستحل محل تلك الأبنية بحسب ما ورد في المخطط الرسمي للمنطقة الذي اطلعت عليه الغارديان والمنظمات الشريكة لها في هذا التحقيق.

الهدم كجريمة حرب

تعلق على ذلك سارة كيالي، وهي باحثة سورية مخضرمة لدى منظمة هيومن رايتس ووتش، فتقول إن عمليات الهدم من المحتمل أن تكون جرائم حرب وذلك لعدم قيام أي عمل عدائي أو لعدم وجود أي هدف عسكري ضمن تلك المنطقة بعدما سيطر النظام عليها.

طوال فترة الحرب، سن النظام قوانين تبيح له الاستيلاء على الأراضي والشروع ببناء عقارات عليها بفضل استثمارات أجنبية، وقد كانت تلك القوانين في الغالب الأعم تجرد السكان من أراضيهم من خلال الشروط التي تفرض عليهم لإثبات ملكيتهم لها، مثل شرط العودة إلى سوريا لتبيان ملكيتهم لها بصورة شخصية.

وقعت عمليات الهدم في القابون بموجب أحد تلك القوانين التي سنت في عام 2015، والتي أباحت للسلطات أن تعيد رسم حدود المناطق في زمن الحروب والكوارث، وأن تتملك الأراضي التي أقيمت عليها أبنية مخالفة.

مخطط عصري

بالعودة إلى التاريخ، نجد بأن معظم أهالي حي القابون كانوا يقيمون في أبنية مخالفة، ويعملون في إدارة المتاجر، أو يفتتحون مشاريع تجارية صغيرة، أو يمارسون أعمالاً يدوية أخرى. أما رؤية نظام الأسد لحي القابون فتتمثل بإقامة حي أكثر فخامة ترتفع فيه الشاهقات من الأبراج، إلى جانب المساحات الخضراء المنسقة بعناية بما أن هذا الحي قريب من مركز المدينة، ولكن طريق إم5 السريع يربطه بمدن أخرى.

Qaboun before the war, when it was a busy working-class suburb of Damascus.

Qaboun before the war, when it was a busy working-class suburb of Damascus.

حي القابون قبل الحرب 

وتعتبر المخططات الخاصة بحي القابون جزءاً من رؤية النظام الأوسع لدمشق، والتي يرغب بتحويلها إلى عاصمة تجارية تظهر فيها أحدث التطورات المدنية التي ستبنى على أنقاض الأبنية المخالفة السابقة، والمناطق الصناعية والأراضي الزراعية. أما المشروع الرائد ضمن هذه الرؤية فهو مشروع ماروتا سيتي، وهو حي مؤلف من أبراج براقة وحدائق غناء من المخطط له أن يقام في منطقة بساتين الرازي، وهي منطقة مخالفات سكنية سبق أن كانت مركزاً للمعارضة.

يرى الباحث جوزيف ضاهر بأن النظام السوري استغل الحرب ليطرح مخططات موجودة بالأصل تتصل بإعادة تنظيم مدينة دمشق، ولاستجرار رؤوس الأموال من المستثمرين، ولمكافأة المقربين منه، حيث يقول: "تم استغلال الحرب لتعميق السياسات النيوليبرالية وإجراءات التقشف، بالإضافة إلى تنفيذ مخططات لم يكن أمر تحقيقها وارداً في زمن غير زمن الحرب أو الأزمة. أي أنهم يستغلون الحرب لطرح هذا النوع من المشاريع الذي قوبل بمعارضة شديدة قبل عام 2011".

A child rides a bike in Qaboun when it was a busy working-class suburb of Damascus

Grafitti on a wall in Qaboun, when it was a busy working-class suburb of Damascus

حي القابون خلال فترة الحرب

إلا أن ضاهر يعتقد أنه بالرغم من المخططات التي طرحها النظام وعمليات الهدم التي نفذها، لم يتم حتى الآن تنفيذ أي عملية بناء وإعمار إلا بنسبة قليلة وذلك لعدم توفر تمويل مخصص لذلك، ولاستمرار حالة انعدام الأمن في البلاد، ويضيف: "إن النظام يكذب كثيراً عندما يتحدث عن رغبته بإعادة اللاجئين، فهذه ليست قضيته، لأنه لا يريدهم كما لا تتوفر لديه أماكن أو بنية تحتية مالية مخصصة لاستقبالهم".

The damaged dome of Abu Bakr al-Sadeeq mosque in Qaboun

الدمار الذي لحق بقبة مسجد أبي بكر الصديق في حي القابون بما أنه كان مركزاً لانطلاق المظاهرات المناهضة للنظام

بعد مرور أحد عشر عاماً على بداية الحرب، أصبح معظم اللاجئين الذين يعيشون في دول الجوار، والذين بلغ عددهم نحو 6.6 ملايين لاجئ، يعيشون في حالة ريبة وشك فيما يتصل بأمر عودتهم الآمنة مستقبلاً إلى بلادهم. في حين يعيش نحو 6.7 ملايين سوري آخر كنازح في الداخل السوري في ظل ظروف مزرية، ولهذا يعتمد غالبيتهم على المساعدات الإنسانية.

مصير العائدين

وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية عمليات التعذيب التي تعرض لها سوريون لدى عودتهم من الأردن أو لبنان إلى سوريا، وهذا ما يؤكد مخاوف غالبية من يعيشون في المنفى منهم، مثل مزينة السعدي، والذين يرفضون العودة إلى بلادهم.

فقد ورد في تقرير نشرته منظمة هيومن رايتس ووتش في شهر تشرين الأول الماضي بأن العائدين من اللاجئين تعرضوا لإعدامات ميدانية واختطاف، في الوقت الذي مايزال فيه غالبية الشعب السوري يعاني في تأمين متطلباته واحتياجاته الأساسية بعد الحرب.

إلا أن حكومة النظام في سوريا والحكومة الروسية لم تردا عندما طُلب منهما التعليق على الموضوع.

بالنسبة لمزينة السعدي، لا يمكن العودة إلى سوريا بأي شكل من الأشكال، بعدما تم هدم الحي الذي كانت تعيش فيه. وفي الدنمارك، بدأت الحكومة بإلغاء إقامات اللاجئين السوريين، وعللت ذلك بأن دمشق أصبحت آمنة أمام عودتهم. إلا أن إقامة مزينة قد تم تجديدها بنهاية عام 2020، بيد أن وضعها مايزال غير مستقر، إذ يتعين على أسرتها أن تجدد إقاماتها كل سنتين، ولهذا تقول: "لقد تعبنا، وكل ما أردناه هو بعض الاستقرار، وبمجرد أن حصلنا على شيء منه هنا في الدنمارك، بدؤوا يقولون لنا إن دمشق أصبحت آمنة"، بيد أن مزينة أبلغت السلطات الدنماركية أنه لم يعد لها في سوريا أي بيت بوسعها أن تعود إليه، وهنا تقول: "إننا خائفون، لأنه من المستحيل بالنسبة لي أن أعود، فقد تعرضت أسرتي كلها للاعتقال والإخفاء القسري والقتل على يد النظام، لأن هذا النظام نظام مؤلف من قتلة ومجرمين".

   المصدر: غارديان