الطُـفـالية وعوائق العمل السياسي في الشأن السوري

2020.06.07 | 00:04 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

الطُفالية مصطلح ليس له مرادف دقيق في اللغة العربية. إذ يمكن تفسير المقصود منه شرحاً، أكثر من تعويضه بكلمة أو عبارة رديفة في الترجمة. فالطُفالية مفردة اصطلاحية في التحليل النفسي، تقابل المفردة اللاتينية enfantalism أو enfantalite، ولا علاقة لها بما تفيده مفردة الطفولة أو الطفولية، فهي، وإن تكن من مشتقاتها، ليست من مترادفاتها اللغوية. أضف إلى ذلك، فإن الطُفالية عرض من أعراض العُصابات النفسية، وليست ـ هي بذاتها ـ المرض العُصابي نفسه. فهي مظهر سلوكي عام، يصف تصرفات أو سلوك يسلكه الكبار الراشدون البالغون، وليس الأطفال كما قد يُتَوهَم.

الطُفالية ظاهرة سلوكية لا شعورية. وهي ضرب من التصرفات القهرية. هذا يعني أن الإرادة والعقل والأخلاق الشخصية العامة للفرد لا تتحكم بها. وهي ذات منشأ عُصابي نفسي في أصلها، وواحدة من آليات الدفاع اللاشعوري، عن العُصاب واحتياجاته الكثيرة المتنوعة. تترسخ في السنوات الأولى من حياة الفرد، وتستبطن لا شعوره في مراحل الطفولة المبكرة. ثم تصير تحولاً ـ إما بحكم الاحتياج النفسي إليها، أو بفعل مبدأ التثبيت النفسي الذي طرأ عليها ـ إلى سلوكٍ عامٍ، يُغري صاحبه دائماً باللواذ بها كواحدة من خطوط الدفاع عن النفس من خطر ما، أو لتحقيق كسب مأمول عبر سلوكية مخصوصة.

أبرز الأمثلة التي نتناولها من مسلك الطفل، هي أنه يعمد إلى الصراخ والبكاء والعويل. وأحياناً يترافق صراخه مع شتائم أو استعطافات مبالغ فيها، مصحوبة بكثرة الأيمان وغلظة التوكيدات، وذلك للتغطية على "ذنب" ارتكبه، (قد يكون حقيقياً وقد لا يكون كذلك). وهو يتوقع عقوبة قد تنزل به احتمالاً، أو يتوقع حرماناً من ميزات يأمل التوصل إليها، تخطيطاً أو تخيلاً.

وتعمل الشخصية على "تثبيت" السلوكيات الطفلية، مع ما يصاحبها من ردات فعل، وهي تستعيرها آلياً، دون محاكمة منطقية. أو تنزع إليها، كلما اقتضت الحاجة. فطالما أن وصفة الصراخ والشتائم والاستدرار العاطفي، وتغليظ الأيمان والسخرية المفرطة أو التقديس والاحترام المبالغ فيه، (كلما لزمت الحاجة إلى ذلك)؛ طالما أن هذه الوصفة، مجربة وذات سابقة في تحصيل بعض النتائج في الاقتصاد النفسي، فهي تغدو سلوكاً يشبه المتلازمة النمطية، التي تتحكم بسائر آليات ردات الفعل تجاه المواقف الخارجية ومقتضياتها. 

وإذا كان طبيعياً جداً، أن الطفل في مراحل سنينه المبكرة يدمج بين (الذات) و(الموضوع)، أو بين (الأنا) الخاصة، و(الآخر) المحيط به في البيئة التي تربى فيها، فلا يستطيع إلا أن يرى ويعتقد ويتصرف، إلا بموجب أن أباه هو أقوى الرجال وأفضلهم وأذكاهم وأقواهم، وأن أمه هي الكون كله، أو بعض هذا الكون المحيط به، الذي يوفر له الغذاء والحماية والحنان والدعم المجاني، وأن بيتهم هم أجمل البيوت، وعائلته هي أكمل العوائل..

فإنه، ومع النضج والتفتح العقلي والرشاد الاجتماعي والمحاكمات المنطقية، يأخذ في فصل (ذاته) عن مواضيعه، فلا يعتقد، مثلاً، بعد سن العشرين، أن سيارة أبيه هي أفضل أنواع السيارات وأسرعها وأجملها، وليست أمه هي أكمل النساء وأجملهن، ولا بيتهم هو أجمل البيوت، وعشيرتهم أو عائلتهم، هي الأعلى كعباً، والأجلى مكانة اجتماعية بين سائر الناس.

أما أخطر تهديد يمكن أن يشكل إعاقة للكبير الراشد، فهو أن (يتثبت) عند المرحلة الطفلية في سن الرشد، فيَحدُث لديه ما يشبه الانشطار في شخصيته، حيث تنشأ صعوبة بالغة لديه، في التدرب على هذا الفصل بين (الذاتي والموضوعي). والأخطر من ذلك أن تتأصل هذه السلوكية في اللاشعور، إلى أن تصبح ظاهرة عامة في الكبر، تعاود الظهور كلما احتاجها اللاشعور للدفاع عن النفس ــ أو بالأحرى عوارض العُصاب الطفلية الكامنة ــ لدفع مغرم أو نيل مغنمٍ أو مأرب. وقد ترافقه كسلوك قهري، ومتلازمة شخصية مدى الحياة.

وذروة الخطر في الأمر، حين تصبح الطُفالية طبيعة متدخلة في الشأن العام الجماعي. وعلى الأخص في الشأن السياسي، فتُلزمُه طُفاليته الموروثة من الماضي الطفلي إذ ذاك، بمسلك اجتماعي، وطريقة في التعبير عن الاحتياجات الاجتماعية وضرورات العمل الوطني، أو اتخاذ القرارات الخطيرة التي مناطها الشأن العام، والمواضيع الجماعية الكفاحية الحاسمة.

يحتاج الطفل في توسله للاستدرار العاطفي من الآخرين، إلى بذل الغضبية واستظهار القوة، (أو المبالغة في إظهار الفهلوة والذكاء والتفوق الذي يقع تحت خطر ميله إلى التهريج، طالما كان ذلك مرغوباً ومستطاباً عند الأهل). وإلى الابتزاز بالصياح والاستكثار من حلف الأيمان، ما يؤطر مثل هكذا سلوكيات خاصة، بحيث توفر له استجابات مضمونة وعواطف زائدة يبتغيها من الآخرين، أي أجواء العائلة المحيطة.

وهذا الاستدرار العاطفي ـ أو الابتزاز بالغضب والتهديد ـ يتوطد بالممارسة المستدامة، حتى يتحول إلى سلوك ناجز ومرافق دائماً: كالتظاهر بالمرض أو الضعف، (التمارض والشكوى الدائمة). أو التهديد بالقوة والانتقام الوشيك. والمثال المعروف عادة هو تهديد الأطفال بتكسير أواني المطبخ البلورية، أو التهديد بقتل الطيور المنزلية، وتحطيم المزهريات وغير ذلك. أو تضخيم أعباء مطلوبة منه زيادة عن الحاجة، أو كثرة التباكي والتشكي والتذمر، وأحياناً العمد إلى دسائس وافتراءات وأكاذيب، كل الغاية منها استدرار عواطف الآخرين، أو الانتقام من الآخرين للفت انتباههم واستجلاب عطفهم. (كالبوال الليلي المتعمد أو اللاشعوري، والذي قد يرافق الطفل حتى ما بعد بلوغه سن العاشرة بسنوات). كل ذلك بغية طلب مؤازرة الأقربين، استجلاباً لدعمهم العاطفي.

كما يستشعر بعض الأطفال، أحياناً، براحة نفسية عميقة، عن وعي أو غير موعيٍ بها، لمصيبة قد تحصل؛ كموت الأب أو الأم أو أحد الأقرباء، لأن هذه المناسبة ستحوله في نظر الآخرين إلى "مشروع بطل أو شهيد". يُشار إليه بالبنان ـ صراحة أو ضمناً ـ من قبل الأقرباء والأقران، أو الأبعدين عموماً: هذا اللي أبوه مات. هذا اللي أمه ماتت. هذا سيارتهم احترقت. أخوه انكسرت رجله..إلخ..).

قلت بأن هذه السلوكيات القهرية، قد تتحول إلى سلوكية عند الكبار البالغين. وهذا التحول السلوكي الممتد في المراحل التالية من عمر الإنسان، هو ما يعرف بالمصطلح العلمي المعرفي، السايكولوجي، بالطُفالية. حيث تتنمط هذه السلوكيات وتُخْتَزَن في اللاشعور، ثم شيئاً فشيئاً، تصبح جزءاً من منظومة سلوكية تحكم الأفراد. وتتدخل في حياتهم اجتماعياً وأحياناً سياسياً. وهنا مكمن الخطر فيما يعود للشأن العام، خاصة بالنسبة لقضية كفاحية وثورية، كالشأن السوري.

ظاهرة (الحرد)، و(التَّعْيِـير) والنمائم والتعبيرات المحتقرة المستهينة، والميل إلى تهويل وتكبير الصغائر، أو التهوين وتصغير الكبائر، واستظهار المفاخر الفردية والجمعية، والصلابة والعناد المرضي الشديد (بذريعة المبدئية والثبات على الموقف)، والخروجات الفجّة على الموضوع المباشر، قيد البحث، إلى غيره، تجنباً لحرج مناقشته، وغير ذلك كثير من الأمثلة، مما لا يسعني في مقال واحد استعراض أمثلته، يكاد يكون سمة طاغية مشتركة، تُحيلُ بعض المظهر السياسي، في الشأن السوري العام، إلى مسلك طُفالي صريح، وتستعير من أنماط السلوكية الطفلية استبطانات مواقفية، تشبه قوالب السلوك الطفلي، جزئياً أو كلياً، إلى حد التطابق التام والتماهي بذات الأنماط "المثبتة في اللاشعور" ـ عن وعي أو لاوعي ـ بطرائق دفاعات الطفل الارتدادية.

كلمات مفتاحية