icon
التغطية الحية

الطعام كأداة للتغيير: طباخة تركية تسهم في تمكين النساء ومساعدة السوريات

2024.01.03 | 18:36 دمشق

الطاهية التركية ديمير وهي تحمل أحد أنواع المعجنات التقليدية وبجانبها امرأة من ماردين وكلتاهما ترتديان الزي التقليدي للمنطقة
الطاهية التركية ديمير وهي تحمل أحد أنواع المعجنات التقليدية وبجانبها امرأة من ماردين وهما ترتديان الزي التقليدي للمنطقة
The Guardian - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

في بيت بني من حجر بولاية ماردين الواقعة جنوب شرقي تركيا، تغرق الطباخة إيبرو بيبارا ديمير في عملها على طاولة مطبخها، حيث ترتب قائمة الطعام للمساء في مطعمها، وتعاين السفرجل الطازج الذي ستصنع منه مربى وحلويات، وتتلقى اتصالات هاتفية تسألها عن افتتاحها لمطعم ثان، ثم تغرف من السجق الدسم الموضوع داخل قدر نحاسي لتقدمه لصديقاتها اللواتي دعتهن لتناول طعام الإفطار.

على الشرفة، تختلط التركية مع العربية والكردية في حديث ثلة من النساء في أثناء قيامهن بغلي مربى السفرجل داخل قدر كبير.

تحدثنا ديمير عما تفعله بقولها: "عندما يسألني الناس عما أعمله، أخبرهم بأني طباخة، لكن عملي أكبر بكثير من مجرد الطبخ"، إذ إلى جانب إدارتها للمطعم، تعد ديمير صنفاً من الحبوب التي أحيتها بعدما ورثتها بحكم التقاليد كابراً عن كابر، ومنها السورغول، وهو نوع من أنواع القمح التركي المقاوم للجفاف، يجري تحويله إلى طحين في الجمعية التعاونية غير الربحية التي أسستها ديمير في عام 2018. كما تعد أطباقاً تعود أصولها لجنوب شرقي تركيا لتقدم في مآدب تقام في البرلمان أو في السفارات التركية خارج البلاد.

Chefs stand over a huge catering pot in a kitchen.

ديمير وهي تعمل في أحد مطابخ روح

 

وإضافة لكل ذلك، تشرف ديمير على مبادرات إنسانية تعمل على بناء الجسور بين النساء التركيات واللاجئات السوريات اللواتي شردتهن الحرب من الجارة سوريا، بعدما أصبحت جاليتهن تمثل عُشر سكان ماردين.

في البدء كان التنوع

يعبر عمل ديمير عن تنوع المدينة التي ولدت فيها، والتي نشأت منذ العصور البابلية، وتحولت إلى مركز تجاري على طريق الحرير، احتضن عدداً من الأعراق والأديان، وعنها تقول: "غالباً ما يرى الناس في ماردين لوحة فسيفسائية، لكني لا أوافقهم الرأي، لأن ماردين تشبه الإيبرو" أي فن خلط الطلاء بالماء ورشه به ليتحول إلى شيء جديد تماماً.

يختلف مطبخ هذه المدينة تمام الاختلاف عن بقية المطابخ التركية المنتشرة في أجزاء أخرى من البلد، إذ يعتمد هذا المطبخ على مزيج من الحضارات والثقافات، ويستعين بقدر كبير من التوابل، بدءاً من السماق اللاذع وصولاً إلى الحلبة الحلوة، كما يُدخل الفاكهة في أطباق اللحم، ويحتضن عادات وصلت من أديان متعددة.

تقدمت ديمير وهي تحمل صينية من حلوى kiliçe أو الكليجة بالعربية وهي عبارة عن كعكعات صغيرة منكهة بالهيل عادة ما يقدمها المسيحيون السريان في عيد الفصح. وضمن قائمة الأطعمة في مطعمها ثمة مقبلات منكهة بالمحلب وهو نوع من التوابل يصنع من نوى الكرز، وطبق كابورغا دولماسي، أي أضلاع لحم الضأن المحشية والتي تطهى مع اللوز ومعجون الفلفل، ناهيك عن طبق إنجاسية، وهو عبارة عن لحم الضأن المطهي بمرق البرقوق مع دبس العنب.

 

Demir stands with the ancient houses of Mardin behind her.

ديمير بلباس تقليدي وخلفها آثار ماردين

 

البداية من مطبخ العمة

بعد أن درست السياحة في اسطنبول، عادت ديمير إلى ماردين في سنة 1999 بهدف استقطاب السياح إلى هذه المدينة الواقعة على رأس تلة والتي تتمتع بتاريخ ثري، على الرغم من أن والدها طلب منها ألا تعود، لأنه خشي أن يؤثر المجتمع الذكوري في ماردين على طموح شابة تحاول أن تفتح لنفسها مشروعاً تجارياً، كما أن موضوع أمانها شغل باله، بما أن هذه المنطقة قريبة من الحدود السورية والعراقية التي تشهد قتالاً مستمراً بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني الانفصالي.

تخبرنا ديمير بأن مدينتها استقبلت أقل من عشرة آلاف سائح في ذلك العام، معظمهم من سائقي الشاحنات الذين يسافرون عبر المناطق الحدودية ذهاباً وإياباً.

بدأت ديمير عملها في مجال الطهي مصادفة، وذلك عندما رفض وفد سياحي ألماني العودة إلى المطعم الوحيد الموجود في ماردين بعدما خاب ظنهم بالوجبات المقدمة فيه، ولهذا طلبت عمتها منها أن تأتي بالسياح إلى بيتها، فكانت المأدبة التي تلت ذلك والحوار الذي دار مع أقارب ديمير رائعاً لدرجة دفعت الوفد السياحي إلى التخلي عن بقية نشاطاته والبقاء لديهم في ذلك اليوم.

Demir sits on the floor with her hands in a bowl of dough, next to an older woman.

ديمير وهي تعجن برفقة امرأة من منطقتها

إن من تعرفت إليهم ديمير خلال المأدبة بثوا فيها روح الحيوية والنشاط، إذ جعلوها تقنع 21 امرأة عاطلة عن العمل في ماردين بفتح منازلهن لاستقبال وفود سياحية أخرى، وأكدت لهن بأن عملهن سيكون مدفوع الأجر، وبعد مرور عامين على تلك الحادثة، وبفضل شعبية تناول الأطعمة بصورة جماعية، انتقلت ديمير من الطهي في البيوت إلى قصر خاو يعود للقرن التاسع عشر، يعرف باسم قصر جرجس مراد ويقع في أحد الشوارع الرئيسية ضمن المدينة.

حقق مطعمها نجاحاً فورياً بفضل زواره، إلا أن المقهى الواقع قبالته والذي لا يرتاده سوى الرجال لم يرحب بافتتاح هذا المطعم، بما أن من تديره شابة مطلقة تعمل وحدها برفقة نساء من دون رضا أزواجهن، حيث يقدمن الأطعمة والمشروبات الكحولية للأجانب، وهذا ما جعل المطعم في نظرهم مريباً. وهنا تتذكر ديمير ما حصل فتقول وهي تضحك: "كان الوضع خطراً للغاية"، ولكن المطعم صار يدر المال على المنطقة التي تتسم بأعلى نسبة بطالة في تركيا.

في إحدى الأمسيات زارها رجل مسن كان في المقهى المقابل لمطعمها، وتسرد ما حصل بقولها: "سألني: "كنت أراقبكن... إذ لدي بيت يشبه هذا البيت، ولكن ما الذي بوسعي أن أفعله ببيتي؟ أأحوله لمطعم أم إلى فندق؟ بماذا تنصحين؟"

 

A soup kitchen prepares food for people hit by February’s earthquake.

مطبخ يقدم وجبات حساء للمنكوبين من زلزال شباط

 

كانت تلك نقطة التحول، إذ افتتح هذا الرجل وغيره من أهالي المنطقة مطاعم وفنادق ومتاجر، ما استقطب كثيرا من الناس سواء من داخل تركيا أو خارجها، وذلك حتى يستمتع هؤلاء بنكهات وأذواق منطقة بلاد ما بين النهرين، ثم تطورت السياحة في المنطقة، عندما ارتفع عدد السياح الذين يزورونها في السنة من بضعة آلاف إلى بضعة ملايين اليوم.

الانتقال لدعم اللاجئات

مع النجاح التجاري الذي حققه مطعمها، التفتت ديمير إلى فن الطهي الاجتماعي، إذ تسببت الحرب في سوريا بتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين وبحالة عدم استقرار في ماردين. ولهذا، تقدمت ديمير بطلب في عام 2016 للحصول على تمويل من مفوضية اللاجئين الأممية لصالح النساء العاملات لديها حتى يقمن بتعليم فنون الطهي للأخريات وتدريبهن عليه، سواء أكن لاجئات أم من بنات المنطقة.

السوريات وتميزهن بصناعة الصابون

بعد عامين على ذلك، افتتحت ديمير جمعية تعاونية زراعية وظفت فيها لاجئات وتركيات في عملية إنتاج الأغذية، والتي تشمل زراعة الفطر، وتربية النحل، وزراعة قمح السورغول، ثم بدأت التعاونية ببيع الصابون بعدما لاحظت العاملات فيها  وجود فائض في زيت الزيتون من جراء اعتمادهن على الدهون الحيوانية في الطبخ، وهذا ما خلق فرصة أمام السوريات المشهورات بصناعة الصابون التقليدية، فتصدرن عملية إنتاج الصابون المصنوع من زيت الزيتون في تلك التعاونية.

تعلق ديمير على ذلك بقولها: "إن الطعام أداة للتغيير وليس لمجرد التذوق".

مساعدة المنكوبين

عندما ضرب الزلزال الجنوب التركي في شباط الماضي، سارعت ديمير للتحرك إذ افتتحت مطابخ روح في المناطق المتضررة، فصارت تقدم فيها الآلاف من الوجبات الساخنة كل يوم. وعلى مدار ستة أشهر عقب تلك الكارثة، بقيت تقيم في هاتاي، وهي الولاية الأشد تضرراً، لتضمن جودة الأطباق المقدمة التي يمكن أن تتناولها وتستمتع بها هي أيضاً. وهكذا أخذت ترسل للناجين أطباقاً شعبية مفضلة مثل الفاصولياء المجففة التي تطبخ مع مرق، إلى جانب أطايب مطبخ هاتاي المحلي، والتي تشمل الهريسة وهي عبارة عن عصيدة باللحم تقدم في المناسبات الخاصة.

 

Aerial shot of food being divided into portions for handing out.

إعداد الوجبات قبل توزيعها على المنكوبين من الزلزال

مرحلة التميز والتطور

فازت ديمير في عام 2023 بجائزة عالم الطهي الباسكي وذلك لعملها في مجال تمكين المرأة، وبعد حصول التعاونية التي أسستها على جائزة نقدية قدرها 100 ألف يورو، قررت أن تفتتح مقهى تابعاً لها في وسط ماردين خلال العام المقبل، وهذا المقهى ستديره نساء تركيات وسوريات، وستخصص ديمير عائدات مطعمها لدعم مطابخ روح التي أصبحت اليوم تقدم وجبات لأطفال المدارس.

من مطعمها، أخذت ديمير تراقب بزهو ثلة من النساء وهن يطبخن ويغنين ويرقصن ويقرعن مغارفهن المعدنية في محاولة لمجاراة اللحن في أثناء وجودهن في غرفة الطعام حيث يتناول الضيوف طبق دابو وهو عبارة عن فخذ من لحم الضأن المحشو بالبرغل.

تعلق ديمير على ذلك بقولها: "قبل عشرين عاماً، لم يكن بوسع تلك النسوة أن يحصلن على إذن أزواجهن ليعملن خارج بيوتهن، أما اليوم فقد أصبحت كل واحدة منهن تتمتع بحريتها".

المصدر: The Guardian