الصمت السياسي بين السلب والإيجاب

2023.08.07 | 06:54 دمشق

الصمت السياسي بين السلب والإيجاب
+A
حجم الخط
-A

يستخدم السياسيون أساليب عديدة للتعبير عن أفكارهم من خلال خطاباتهم المباشرة أو من خلال آرائهم التي يطرحونها في كتاباتهم، وغالباً ما يستخدمون الكلام لإثبات مواقفهم وتحديد اتجاهاتهم؛ وذلك لأنَّ الأفكار تنتقل من خلال الكلام الشفهي أو المكتوب، وهو الأداة الأكثر فاعلية للاتصال بين البشر، بل يمكننا القول إنَّ الفعل السياسي يقوم في أساسه على الكلام الذي يُدلي به السياسيون، أي إنَّ الكلام هو الوسيط أو الموضوع الذي يقوم عليه الفعل السياسي، وكلما تطابق الكلام السياسي مع الفعل السياسي حقَّق النظام السياسي نوعاً من الفعالية للسياسة المصرَّح بها بغض النظر عن الأيديولوجيا التي تطرحها.

ولم يكن الكلام الأداة الوحيدة للتعبير عن المشاركة في الفعل السياسي، بل يعدُّ الصمت السياسي شكلاً من أشكال الفاعلية السياسية، ذلك لأنَّ الصمت السياسي يشكِّل أيضاً موقفاً من المواقف المتَّخذة للتعبير عن الآراء، ولكن بطريقة مختلفة عن الكلام، وهي الطريقة الأكثر مرونة والأشد حساسية، وذلك لأنَّ الصمت الذي يتَّخذه الأشخاص الذين يمارسون الفعل السياسي هو صمت قابل للتأويل من خلال سياقات متنوعة، وهذا ما يعطيهم مندوحة أكبر للتنصُّل من أيِّ تصريحات قد تؤدي إلى تداعيات عديدة غير محسوبة، وبذلك يصبحون غير مسؤولين عن التفسيرات التي يمكن أن تطرح حول صمتهم السياسي، ويمكن أن نعطي مثالين متناقضين تماماً عن الصمت السياسي، المثال الأول هو ذلك الصمت الإيجابي الذي مارسه المعتقلون السياسيون من قِبَل النظام الأسدي في سوريا داخل السجون مهما كان التعذيب الجسدي أو النفسي الذي يتعرضون له شديداً، بغاية عدم الإدلاء بأي معلومات تتعلَّق بتنظيماتهم السياسية، أمَّا المثال الثاني فهو عن الصمت السياسي السلبي، إذ يتجلَّى في صمت الولايات المتحدة الأميركية عن ملف إعادة تطبيع العلاقات بين بعض البلدان العربية وغير العربية مع النظام السياسي في سوريا، إذ يعد هذا الصمت نوعاً من الموافقة الضمنية التي اتخذتها الولايات المتحدة الأميركية والتي تعمل لصالح سير خطة التطبيع العربي الإسرائيلي وسلامتها.

إنَّ المشاركة السياسية عن طريق الصمت لا تؤخذ –عادة- بعين الاعتبار في معظم الأنظمة السياسية، خاصة تلك الأنظمة الشمولية التي لا تعد هذا الصمت نوعاً من الفاعلية السياسية، بل تتعامل معه على أنَّه نوع من الخوف المبطن

وقد تمارس بعض الأيديولوجيات الصمت السياسي تجاه العديد من التجاوزات التي تحدث من قبل أعضاء التنظيم السياسي نفسه، وذلك لعدم تشويه الشكل الأيديولوجي العام، والمحافظة على مظهره الخارجي من الانهيار، وإن كان هذا الصمت هو السبب الأهم لانهيارها فيما بعد، وذلك لتخلخل بناها الداخلية وعدم إدراك القائمين عليها عواقب هذا الصمت السلبي المتراكم.

إنَّ المشاركة السياسية عن طريق الصمت لا تؤخذ –عادة- بعين الاعتبار في معظم الأنظمة السياسية، خاصة تلك الأنظمة الشمولية التي لا تعد هذا الصمت نوعاً من الفاعلية السياسية، بل تتعامل معه على أنَّه نوع من الخوف المبطن الذي سعت إلى زرعه في نفوس المواطنين خلال سنوات طويلة وبأساليب مختلفة، لذلك فهي تقلِّل من شأنه، وقد تضعه في آخر اعتباراتها، هذا إن وضعته ضمن الاعتبارات أصلاً، ولكن لا بدَّ من الإشارة إلى نقطة مهمة وهي استمرار الأنظمة الاستبدادية في تجاهل هذا النوع من الصمت مهما كانت الأسباب الدافعة له، إذ إنَّ للتساهل مع هذه الطاقة الكامنة نتائج وخيمة على الأنظمة السياسية؛ لأنَّه قد يتحوَّل في بعض الأحيان إلى الفعل مباشرة متجاوزاً مرحلة الكلام.

لقد استخدم النظام الأسدي في سوريا الصمت السياسي كوسيلة لاستفزاز الشارع السوري واستثارته، وذلك عندما استمرَّت المظاهرات السلمية لمدة شهر تقريباً مطالبة بالإصلاحات الداخلية وتحسين الوضع المعيشي للشعب من دون أيِّ ردِّة فعل

ومن المعروف أنَّ الأنظمة الاستبدادية تسيطر على الكلام باعتباره نقيضاً للصمت وتتحكم به، وتفرض قيوداً مشددة على حرية الفكر والتعبير وكلِّ ما يمكن لمواطنيهم أن يطالبوا به جهراً، لذلك فإنَّ الاستبداد هنا هو حكم بالإسكات القهري للشعوب، أو ما يمكن تسميته بالإسكات المتعمَّد للشعوب، وهذا ما يشكِّل الجانب السلبي للصمت السياسي، حيث يصبح الصمت نوعاً من التحالف مع الأنظمة الاستبدادية بدلاً من أن يكون تهديداً حقيقياً له، ليس التحالف بمعنى الاتفاق بل بمعنى الدعم والمساعدة على تضخيم الاستبداد وترسيخه، ومن هنا كان لا بدَّ أن نميِّز بين نوعين من الصمت؛ الصمت بوصفه مناقضاً للكلام ولهذا الصمت أسباب عديدة قد يكون منها الخوف أو العجز أو التستر، والصمت بوصفه نوعاً من الفعل السياسي الذي يحقق حضوره الأصيل، أي بين الصمت الذي يساعد على ازدهار الأنظمة الديكتاتورية مع مرور الوقت، وبين ذلك الذي يعمل على تقويضها.

لقد استخدم النظام الأسدي في سوريا الصمت السياسي كوسيلة لاستفزاز الشارع السوري واستثارته، وذلك عندما استمرَّت المظاهرات السلمية لمدة شهر تقريباً مطالبة بالإصلاحات الداخلية وتحسين الوضع المعيشي للشعب من دون أيِّ ردِّة فعل من قِبَل النظام، ولم تكن التكهنات بعدم خروج الشعب عن صمته هي السبب الحقيقي من وراء هذا الصمت، كما قد يظن بعضهم، فقد تحوَّل هذا الصمت فيما بعد إلى عنف دموي ووحشي قاتل ضدَّ الشعب السوري الثائر، وبهذا يمكن أن نقول إنَّ الصمت السياسي الذي تمارسه الأنظمة الاستبدادية بشكل عام هو جزء حقيقي من العنف السياسي الممارس ضدَّ الشعوب المضطهدة، وبذلك يكون الصمت السياسي الذي يتعمده أيُّ نظام استبدادي هو نوع من تغييب الفعل السياسي والانتقال إلى مرحلة الاستبداد الذي يكون فيه المستبد هو الطرف الأحادي الفاعل في الممارسة السياسية.