الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي مفتي المرحلة الانتقاليّة

2022.02.27 | 05:21 دمشق

image_750x_61952004d0175.jpg
+A
حجم الخط
-A

إنّ الصّراع على المؤسّسة الدّينيّة في سوريا منذ الاستقلال إلى اليوم لم يتوقّف، وقد كان مقام الإفتاء في عين العاصفة على الدّوام، ومن أجلى الأمثلة على ذلك ما جرى مع مفتي سوريا الشّيخ الطّبيب أبو اليسر عابدين الذي دخل في مواجهةٍ حادّة مع جمال عبد النّاصر عام 1961م عقب صدور قانون التأميم في العشرين من شهر تموز "يوليو" من تلكم السّنة، إذ طلب عبد النّاصر من الشّيخ أبو اليسر عابدين إصدارَ فتوى يشرّع فيها قانون التّأميم، فرفض المفتي ذلك بشدّة، فأقاله عبد النّاصر من منصب الإفتاء العام، ليقع الانفصال بعد ذلك بين سوريا ومصر في الثّامن والعشرين من أيلول "سبتمبر" من عام 1961م، وبعد شهرٍ واحدٍ أي في الثّامن والعشرين من شهر تشرين الأول "أكتوبر" صدر مرسوم ممّن قاموا بالانفصال بإعادة الشّيخ أبو اليسر عابدين إلى منصب الإفتاء في محاولةٍ لردّ الاعتبار له والردّ على سلوك جمال عبد النّاصر.

ومع قيام البعث بانقلابه التاريخيّ في الثّامن من آذار “مارس” عام 1963م الذي نقل سوريا إلى مرحلة جديدة ما تزال ماكثةً فيها حتّى يومنا هذا؛ تمّت إحالة المفتي أبو اليسر عابدين إلى التّقاعد بعد عشرين يومًا من الانقلاب، في ردٍّ على الذين قاموا بتعيينه مجدّدًا في مقام الإفتاء.

 

  • موقف المؤسسة الدينيّة من الانقلاب وشغور منصب الإفتاء

عموم مواقف المؤسّسة الدينيّة على اختلاف توجهاتها الفكريّة لم تكن ذات ردة فعل إيجابيّة تجاه انقلاب البعث، بل إنّها كانت مواقف رافضة ومناهضة، ومن أفصح وأوضح هذه المواقف المناهضة موقف الأستاذ عصام العطار الذي يمثّل إلى جانب كونه زعيمًا سياسيًّا إخوانيًّا؛ ركنًا من أركان المؤسّسة الدّينيّة؛ فقد كانت خطيب مسجد الجامعة، ومن أبرز خطباء ودعاة دمشق في ذلك الوقت، وفور انقلاب البعث عام 1963م اشرأبت الأعناق لموقف عصام العطار فزحف عشرات الألوف إلى مسجد الجامعة في أول خطبة عقب الانقلاب لتجد الجموع المسجد محاطًا بعشرات الدبابات، وكل هذا لم يرهب العطار الذي خطب خطبةً عظيمة قال فيها:

"صفحتنا أنصع من أي صفحة، وجبهتنا أرفع من أي جبهة، وطريقنا أقوى من أي طريق، وأنا أتحدى كل إنسان كائنًا من كان أن يضع ذرة من الغبار، لا أقول على جباهنا المرتفعة، ولكن على أحذيتنا وأقدامنا، وأعلن أنني أرفض أي ضربٍ من ضروب الحكم الديكتاتوري الاستبدادي، والطغاة الماضون سقطوا طاغيةً بعد طاغيةٍ بعد طاغيةٍ تحت أقدامنا ونحن على هذا المنبر، وسيذهب الطغاة الجدد كما ذهب الطغاة القدماء".

وبعدها مباشرةً فرضت قوى الانقلاب عليه الإقامة الجبرية إلى أن خرج إلى الحج عام 1964 ومنع من العودة إلى سوريا بعد ذلك ليتنقل في منافي الأرض وليحط رحاله في منفاه الأخير في مدينة آخن الألمانية.

وعقب انقلاب البعث وإقالة المفتي الشّيخ أبو اليسر عابدين بقي منصب الإفتاء في سوريا شاغرًا تمامًا مدة عام كامل، وهذا يعكس العقليّة البعثيّة تجاه الشّأن الدّيني بشكلٍ عام، والمؤسّسة الدّينيّة على وجه الخصوص، هذه العقليّة القائمة على عدم المبالاة بالدّين ومؤسساته وغيابها عن قائمة الأولويات من جهة، كما يعكس الرّغبة في ترتيب المشهد الديني بعد ترسيخ السلطة وإحكام القبضة على الدولة والمجتمع برويّة وتأنٍّ من جهة أخرى.

  • تعيين الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي مفتيًا

أعلنت سلطة الانقلاب البعثيّ عن التّحضير لإجراء انتخاباتٍ لمنصب المفتي العام في الرّابع من شهر تشرين الثّاني "نوفمبر" من عام 1964م، وبناءً على هذا القرار تمّ إصدار مرسومٍ بتعيين الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي مفتيًا عامًّا للجمهوريّة العربيّة السوريّة بالوكالة في الأوّل من نسيان "إبريل" من عام 1964م لتسيير الفترة الانتقاليّة التمهيديّة للانتخابات العامّة.

كان الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي يبلغ حينذاك الرّابعة والستّين من عمره، فهو من مواليد عام 1900م، وقد درس على علماء دمشق، وسافر إلى مصر وحضر دروس كبار علمائها في الأزهر الشريف، بعد ذلك عين مدرسًا في مناطق قطنا والكسوة وما حولهما في ريف دمشق الغربي، ثم نقل إلى دمشق ليتم تعيينه مدرسًا دينيًا في دائرة الفتوى، بالتوازي مع ذلك عُين خطيبًا في جامع عيسى باشا، ثمّ غدا يتناوب على الخطابة والتّدريس في جامع لالا مصطفى باشا مع الشّيخ محمّد بركات، ليستقرّ به المقام خطيبًا في جامع الرّوضة في حيّ المالكي شهير الثّراء في مدينة دمشق، كما تم تعيينه مفتشًا للمعاهد الدينية في دمشق ومساجدها، ومن ثم تسلّم إدارة المدرسة الشرعية في التكية السليمانية.

لم تدم فترة تعيين الشّيخ عبد الرّزاق مفتيًا أكثر من ثمانية أشهر، وعلى الرّغم من قصرها إلّا أنّه استطاع أن يؤلّف فيها كتابًا بطلب من مديريّة أوقاف دمشق ليكون مرجعًا للخطباء جعل عنوانه "ديوان المنحة الوفية في الخطب العصرية" وقد تمّ توزيعه على الخطباء آنذاك.

ولم تشهد فترة تولّي الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي أحداثًا ظهرت له فيها مواقف خاصّة، والسّبب يعود في تقديري إلى أنّ المؤسّسة الدينيّة انشغلت في فترة تولّيه الإفتاء انشغالًا تامًا بالمعركة الانتخابيّة على الإفتاء؛ فعقب الإعلان عن موعد انتخابات المفتي العام في سوريا بدأ الحراك المشيخي والصّراع السياسيّ على المؤسّسة الدينيّة بين حزب البعث ورابطة علماء الشّام، فكان حزب البعث داعمًا في الانتخابات للشّيخ أحمد كفتارو؛ مفتي دمشق وشيخ الطريقة النّقشبنديّة آنذاك، بينما دعمت رابطة علماء الشّام الشّيخ حسن حبنّكة الميداني، شيخ الميدان المشهور بموقفه الحادّ من حزب البعث.

بعد انتهاء المعركة الانتخابيّة التي أوصلت الشّيخ أحمد كفتارو إلى الإفتاء بقي الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي في جامع الرّوضة خطيبًا إلى أن وافاه الأجل عام 1969م.

  • الابن العالم اللغويّ هشام الحمصيّ

ترك المفتي الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي من خلفه ابنه هشام الذي ولد سنة 1939م وكان من أشهر خطباء دمشق وعلمائها في اللغة، وقد مارس الخطابة المنبريّة على مدار أكثر من ثلاثة وخمسين سنة، إلى أن توفي يوم الثاني والعشرين من شهر آذار "مارس" عام 2015م.

وقد قال الأستاذ الدّكتور محمّد حسّان الطيّان في رثائه واصفًا فكره وبلاغته وفصاحته: "لا أعرف فيمن عرفت خطيبًا يتوفر على خطبته كما يتوفر عليها الشيخ هشام، ولا أعرف فيمن عرفت راوية للشّعر والحكمة والأدب والطّرفة يحفظ منها كما يحفظ الشيخ هشام، ويروي منها كما يروي الشيخ هشام.

ولا أعرف فيمن عرفت عالمًا يتفرّد بالرأي ويقدح في زناد الفكر، ولا يهاب من جهره فيما تفرد أو اجتهد كما يتفرّد الشيخ هشام وكما يجتهد الشيخ هشام.

 فملاك أمر الشيخ إذن أمور ثلاثة تميّزه فيما أحسب عن كثير ممن عاصره، وهي: خطابة محكمة، ورواية مرسلة، وفكر حر أصيل.

أما الخطابة المحكمة فقد شهد لها القاصي والداني، وتوافدت لسماعها والإفادة منها الجموع الغفيرة من كل حدَب وصوب، وحيثما حلَّ الشيخ أو ارتحل، بدءًا بمسجد الفردوس، ومرورا بالبدر وسعد بن معاذ، وانتهاءً بالثناء، وما أظن مسجدًا من مساجد الشام يكتظّ فيه المصلون، أو يزدحم رواده في صلاة كما يكتظون ويزدحمون في هذه المساجد التي حلَّ بها الشيخ هشام خطيبًا، حتى إن دوريات المرور لتحفُّ بالمسجد من كلّ جانب تنظم وقوف السّيارات، وتتابع الأرتال التي تتكدّس في الشّوارع المحيطة بالمسجد أو القريبة منه، بل إنّ بعض الجوار ليتأذى من كثرة الوافدين على تلك المنطقة إبّان كل صلاة جمعة".

وقد كان معروفًا بعدم دعائه لحافظ الأسد ومن بعده بشّار الأسد على المنبر، وفي هذا قال الدّكتور أحمد فؤاد شميس في نعيه: " أنعى إليكم بكل حزن وأسى وتسليم لقضاء الله وفاة أستاذي الشيخ هشام الحمصي الشاعر والأديب والنحوي أحد أبرز خطباء دمشق؛ سيد المجالس، وهو الخطيب الوحيد الذي لم يقم بالدعاء في خطبه للطاغية ولا لأبيه لا كنايةً ولا تصريحًا على الرّغم مما تعرّض من ضغوط رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأجزل عطاءه".