icon
التغطية الحية

الشاعرة السورية وداد نبي.. بين خطاب المذبحة وجماليات الشعر الصامت

2022.05.01 | 14:44 دمشق

wdad_nby-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

تختتم الشاعرة السورية وداد نبي ديوانها (الموتُ كما لو كان خردةً) بما يلي:

"الجنديّ يملأ المدينة بغبار حذائه العسكريّ

فيما الشعرُ يصعد معي الدرَج الكهربائيّ للعزلة

مبتسما". ص 117

يعتقد القارئ الناقد أن الشاعرة لم تضع هذه الكلمات خاتمة للديوان عبثا، بل هو إعلانٌ وإيجازٌ لرؤيتها التي عبرت عنها في جميع نصوص الديوان الذي يتراوح كيانه الشعريّ بين الجندي وعالمه: (حرب – مذبحة – تشوّه إنسانيّ) والشعر وعالمهِ.

تتحرك النصوص بين غبار الحذاء العسكري بما يعنيه من دلالات الموت والصخب والصراخ والزعيق المسلّح، وبين الشعرِ الصاعد مبتسما مع الشاعرة إلى (العزلة). بما يعني ذلك حقولٍ دلالية للصمت والوحدة واعتزال الموتِ والذبحِ.

تتمكن الشاعرة من استعمال دلالات العالمين المتناقضين المتقابلين، وتعلن خياراتها ليس الشعرية والفنية وحسب، بل والأخلاقية أيضا. وتحرّك قصائدها وفق هذه الخيارات وتُمَوْقِـعُها حسب ما تختاره وتتبناه.

الضجيج والصخبُ والدم والقتل والمذبحة، هذه عوالمُ تناسب جدولَ الحرب، التي لا تغمض الشاعرة عينها وبصيرتها عنها، أي أن (العزلة) التي تصعد إليها مع الشعر ليست خيارا سلبيا وتجاهلا لمقتضيات العالم وانهياره، بل هي عزلةٌ لكي تحمي (الشعر) وأدواته من مؤثرات الذبح والقتل والضجيج. الحربُ لا تحتاج للعزلة والصمت! لا تحتاج مصعدا يوجد فيه الشعر والمرأة الشاعرة! من هنا نؤكد على قيمة الصمتِ حين يكون موقفا أخلاقيا ووجوديا وليس انهزاماً، فالصمت في هذا العالم المحكوم بالدم ليس موافقة على الدم بقدر ما هو احتجاج عليه وتنديد به وتأكيد على ضرورة ممارسة حقّ الشعرِ الذي لم يكن يوما ضد الإنسانِ وجمالهِ. جمالُ الإنسان مهدد بالموتِ لأننا نحيا عالما تهيمن فيه أدوات القتل بكل أشكالها المادية والمعنوية.

تنفتح مفردة (العزلة) على كثيرٍ من التأويلات والاحتمالات الشعرية، من أشهرها الصمت، الذي يثير أيضا حقلا خصبا جدا من المعاني التي لا تخفى على قارئ فكرٍ فلسفيّ. ولكننا لن نبحث في ذلك مباشرة بل سوف نفتح فتحة فرجار القراءة التأويلية لتصل إلى ما استخدمته الشاعرة من (ثيمات مهيمنةٍ) في النصّ والتي تصبّ في المعنى الأصليّ للصمتِ. وقد رأينا أن (الماء) يشكل أميزَ ثيمةٍ مستعملة في خطاب الشاعرة في هذا الديوان. وسوف يكون هناك سؤال حول العلاقة بين الصمت والماء. ونحن نريد توسيع دلالة الصمت كما ذكرنا لا لتعني الانهزام والخنوع فهذا شرح ظالم للصمت، إن الفكر يتعامل مع الصمت من حيث هو بداية الكونِ وأصل الوجودِ، حيث لم يكن في البدء شيء، إلا الماء! وكأن هناك تلازما وجوديا بين الصمت والماء. الماء الذي خلق منه كل شيء حيّ، لا تغفل الشاعرة عنه حين تقول:

"الحبّ سيمنحك ذاتكَ بلا سؤال

كلما طرقت بابه ورميت ما كنت عليه قبلا

الحب... يعيدكَ ماءً ويمضي". ص 99

(الحبّ يعيدكَ ماءً) أي يخلقك من جديد، يذكّرك بما كنت عليه في البدء. أن الحب هنا يصبح ماءً يعيد تكوين الكائن ثانيةً وكأنه ما كان. في مقطع آخر تقول دلالة واضحة وساطعة على وعيها لمعنى الماء الخالق:

"قبل أن يمسخوك | قبل أن يطلقوا عليك اسما | ويحددوا لك طائفتك، معتقدك، ديانتك، وخرافاتهم | كنتَ ماءً مالحاً | يختلط مع دمع أمك". ص 14

لهذا تستغرب الشاعرة من القتلة، هل سبق وتعرضت أجسامهم وهم أطفال للماء؟! أي هل مروا بمرحلة النقاء والطهارة حقا؟ فإذا كانوا كذلك فكيف أصبحوا الآن قتلة وسفاحين؟ تقول عن الجنود الذين يخوضون الحروب:

"هل ولدوا أطفالا صغارا | ببشرات ناعمة وضحكات رهيفة؟

هل حمّمتهم أمهاتهم | بالماء الساخن وصابون الغار؟". ص 22

هنا نلتقط التناقض بين الجنديّ والضجيج المشار إليه في أول المقالة، والجنود القتلة هنا، وبين العزلة هناك والماء هنا. الحرب لا تحتاج لصمتٍ، لا تحتاج لماء بل لصخب الدماء، بينما الشعر والأطفال يحتاجون إلى الصمت والماء...

ولأن الماء خالقٌ كذلك فهو الذي يحيي الزهورَ التي تبكي الآن في شرفات البيوت المهجورة، وهي صورة تكررت بعدة أساليب في الديوان.

"الِّرقة هي أن تسقي الأزهار الذابلة | في حديقة الجيران | لأن زهور بيتكَ ماتت جفافا تحت القصف". ص 10   

لكن كيف تمارس الشاعرة فعالية الكتابة الشعرية؟ والسؤال هنا حول (كيف) مهتمّ بالفنّ والخطابِ الجماليّ بالدرجة الأولى، أي ما هي الأدوات التي امتلكتها وداد لتقدم لنا قصيدتها؟ لم تبخل علينا الشاعرة بالاعتراف ببعض من هذه الأدوات وتقنيات الخطاب، فعلى عادة الكثيرين من الشعراء تتحدث الشاعرة في عدة مواضع من قصائدها عن كيفية الكتابة لديها، وما هي خياراتها الفنية في سبيل ذلك. تبين الأمثلة التالية بوضوح بعض طرائقها الفنية والأسلوبية في الكتابة:

"1- لا أسرف في غواية المجاز

فلا تغويني نياشين اللغة

فقط أسردُ، كعصفور صغيرٍ، الكلامَ

الكلامَ البسيطَ" ص 81

"2 – قد أستعير قرن غزال وقلبِ شاعرٍ ما

فالاستعاراتُ ملحُ الحبّ" ص 83

"3- أديرُ ظهري

لاستعارات الشعر

تلك التي تعمّر كأشجارِ التِّبِلْديّ لأكثر من ألف عام

لا لشيء

إلا لتظلل قبر الشاعر "ص 56

ما تقدمه الشاعرة في ديوانها يؤكد هذه التقنيات المذكورة في قصائدها نفسها. فهي تتخلى عن الاستعارات التي قد تحرف الشعر عن أثرٍ ما تريد أن يتحقق بلا استعارات

نحن هنا أمام خطاب شعريّ مضمونه نقديّ! أي أنه حديث بلغة الشعر عن فنّ الشعر كما تراه الشاعرة. وبتحويل هذا الخطاب الشعري إلى جملٍ نقدية واضحة نقول: إن الشاعرة تهرب من سُلطة المجاز في اللغة، أو هي تستعملها من غير إسراف ولا شطط، فهي لا ترى اللغة أداة للزينة والبهرجة الخارجية كما تفعل النياشين. (وتوظيفها لمفردة نياشين هنا ينطوي على تلميح واضح لنفورها أيضا من دلالة النياشين العسكرية المستبدّة، وثمة علاقة خفيّة تلتقطها الشاعرة بين استبداد النياشين العسكرية واستبداد المجاز حين يتحول إلى مجرد مظاهر خادعة تخفي عجز الشاعر عن الاستمتاع بجمال الحياة البسيطة وخطابها السلس). إنها تنحاز إلى الكيفية التي يلقي بها العصفور سردياته العفوية والمختصرة! إذاً هناك تقابلٌ ضديّ بين دلالة النياشين ودلالة العصفور. وهي مرة أخرى تختار العصفور لتقول مثله لغتها وكلامها ببساطة وانسياب. هذا يعني أمرا مهمّا على صعيد آخر، كيف تفهم الشاعرة مفهوم (الاستعارة)؟ كلامها السابق عن تحررها من غواية المجاز يقودها إلى رفض الاستعارات الطنانة الرنانة الزخرفية، التي لا عمل لها في النهاية إلا أن تبقى شاهداً خالدا على قدرات الشاعر في اختلاق استعارات غريبة ومبالغ فيها. أي أن الشاعرة ترفض الاستعارات التي وظيفتها تأمين مكان للشاعر في ساحة الخلود! والمفارقة أن وداد تعمد هنا في سبيل تبيان رفضها للاستعارة، إلى استعارة رمز من الطبيعة هو شجرة (التِّبِلْديّ) المعروفة بأنها شجرة تعمّر طويلا ولها شكل ضخم وهائل، ويستعمل البشر ظلالها - نظرا لضخامتها وارتفاعها – في حياتهم الاقتصادية البسيطة. وهذه الشجرة من طبيعة أفريقيّةٍ. وما تريد الشاعرة قوله إن الاستعارات الضخمة المزخرفة تشبه تلك الشجرة في تظليل الناس. هي لا تريد استعارات ضخمة، بل كلاما بسيطاً. ولكن إذا استعارت فسوف تستعير (قرنَ غزالٍ وقلبَ شاعر) إذ في النهاية ومع رفضها للاستعارة، ولكن ثمة استعارات (كتلك التي نحيا بها) لا مهرب منها، إنها تشبه ملح الحبّ! ولا بد لطقس الحبّ وخطابه من بعض استعارات يتكئ عليها العاشقان لتوضيح عمق الإحساس بينهما.

وما تقدمه الشاعرة في ديوانها يؤكد هذه التقنيات المذكورة في قصائدها نفسها. فهي تتخلى إذا عن الاستعارات التي قد تحرف الشعر عن أثرٍ ما تريد أن يتحقق بلا استعارات. لهذا تكرّس بلاغة الصورة، والتصوير التشكيليّ. تعيد بناء مشهد تصويريّ من عناصر الواقع الفظّ أو المستعاد من الذاكرة. إن من يريد التحرر من غواية المجاز لا بد أن يعثر على ضالته في (الصورة). لهذا فوداد تحتفي بالصورة كثيراً وتسلم لها روحها.

"الصورةُ | دَينٌ لنا بعنق الذاكرة

لنقابل الحياة كل صباحٍ | أصحّاء |

بلا أمراض حنين مزمنة | بلا اسودادٍ تحت الجفنين

الصورة | ضرورية تماما كالورد | على قبر القتيل لتحيط كإسسوار لازمٍ |

بالإطار الفارغ لحياتنا لنعدم بها زهر الغياب | ورقةً | ورقةً

بمقصلة شغف مهجور ". ص 74 

 مع أن الحديث هنا يتمّ عن الصورة بمعناها الحرفيّ الفوتوغرافيّ، لكن الشعر يتورط في تقديم أسراره من خلال خطابه نفسه ومكرِ لغته. لهذا فسوف يكون هذا الكلام شاهدا حيا على تقنية الصورة الشعرية لدى الشاعرة. تلك الصورة التي تلتقطها من الحياة ببساطة غناء العصفور، وبعيدا عن التكلف والنياشين. ولكن الصورة الفوتوغرافية ليست هي غاية الشعر ولا شكله المفضل، لهذا تذهب الشاعرة إلى اللعب بعناصر الصورة الواقعية وإعادة توزيعها (شعريا) لتؤدي الوظيفة الشعرية الفنية وليس الوظيفة الواقعية، فالشعر لا ينبغي صياغة الواقع حرفيا، وإلا فهو لا معنى له، والشاعرة تدرك ذلك لأنها في صدد تقديم خطاب شعريّ وليس خطاب واقعيّ. ولتحقيق تلك المهمة نرى الشاعرة ماهرة في وضع عناصر الصورة في مواقع المفارقة والتناقض والتوتر الذي يخلق الحالة الشعرية، تقول مثلا (يداكَ نقّالةُ موتى | ستأتي متأخرة إلى جنازتي) ص 47 ربما كانت هذه العبارة أوضح مثالٍ على كيفية قول الشعر عند وداد. جمال الصورة، واقعيتها، بساطتها، صدمتها في المتلقي، الأثر الحزين للعلاقة بين ما يبدو أنها عناصر متنافرة (يداك – نقالة الموتى) إنها ضربةُ ريشةِ شاعرةٍ تتقنُ خلق الحزن وجمال الإبداع في قارئها. كيف لا وهي صاحبة العبارة التي ذهبت كالنار في الهشيم وراح الناس يكتبونها حتى على جدران سوريا المتهدمة (أحبها تلك البلاد حتى في خرابها الأخير)؟  

ولأن الشاعرة مشغولة بخراب بلادها، أي خراب ذاكرتها وروحها وهويتها، فهي تحرّك كتلة نصوصها من مكان إلى مكان في البلاد، خاصة تلك الأماكن التي رسمتْ لها بعض تكوينها الشخصيّ. لهذا نقرأ أسماء أماكن كثيرة ومدن متعددة عربية وأوروبية، لكنها وبطبيعة الحال لا يمكن إلا أن تطيل الوقوف عند المكان الأول الذي ولدت فيه (كوباني) لنقف أمام جرح الذاتِ والهوية، وتناقض المشاعر بين طبيعةٍ "وأنوثةٍ وبين قبح الخراب وشراهة الدم.

المجزرة هاتفها مغلقٌ

كأي شخصية مشهورةٍ

لا تردّ على الاتصالات الكثيرة". ص 95

نحن أمام لغةٍ شعرية صادمةٍ مؤلمة، بقدر ما هي (ملعوبة) فنيا. حيث يتم التلاعب دلاليا بين معنى الهاتف المغلق للشخصيات المشهورة، ومعنى هاتف المجزرة المغلق. وتتحول المجزرة إلى (شخصية مشهورة) باعتبار أن الذبح صار سلوكا علنيا ومشهورا في سوريا! وكالمشاهير فإن تلك المجزرة لا تردّ على الاتصالات، لكن ليس من باب الغرور والتكبر هذه المرة، بل من باب أن المجزرة أنتجت ضحايا صامتين شهداء عاجزين عن الردّ على الاتصالات! إنه منطق الصورة الواقعية المحوّلة شعريا لتصيب أكثر قدر ممكن من الألم والتأثير. ومثل ذلك تفعل الشاعرة في كتابتها عن الغوطة الشرقية ومذبحتها الكيماوية.  

الشاعرة وداد تزجّ بالشعر في قلب الواقع وتنشله منه في الوقت نفسه، في عملية ثنائية متزامنة، أي أنها لا تفترض عالما خياليا للكتابة بل تذهب من الحياة نفسها لتبقى هي مرجعها الأهمّ. ولكن ليس للقصيدة مرجع واقعيّ أو تاريخيّ... الخ بالمعنى العلمي والأكاديميّ لدلالة (المرجع) وإلا انقلبت القصيدة إلى مقالة في أضعف الأحوال. لكن ذلك لا يعفي الشاعر من ضرورة بناء علاقة ما مع الواقع أو التاريخ أو الثقافة أو الفنون بصورة عامة. علاقة ما تنمو ضمن رؤية دقيقة يقيمها الشاعر لمعنى المرجعية لقصيدته. وهنا تتبدى أهمية الإحالات الكثيرة الواردة في نصوص وداد. وهي تفعل ذلك واعية ومتعمدة وليس من باب المصادفات والارتجال. لأنها تقصد إلى توظيف قراءاتها وثقافتها في خطابها الشعري. لتحقق سويّةً تبادليّةً بين ذاتها كشاعرة وبين مصادر تلك الإحالات، وقد تنوعت تلك الإحالات بين أعمال أدبية وموسيقية وأسماء شعراء وفنانين وكتاب وأشجار وأماكن... وتوظف تلك الإحالات حسب السياق الذي يستدعي ذلك، أي كما يقال حسب كل مقام مقال. لهذا نقرأ في نصوصها أسماء (فروغ فرخ زاد – رياض صالح الحسين – سيلفيا بلاث – ليونارد كوهين – لويس أرمسترونغ - لارا فابيان) وقد تورد عبارات بلغات أجنبية كما عي بلغتها الأصلية، بين إنكليزية وكردية وألمانية.

وهي تنطلق في توظيف تلك المراجع من حياتها وتجاربها وقراءتها نفسها، أو من خلال متخيلها الشعريّ أو ذاكرتها، لتصنع من كل ذلك توليفةً ثقافية – شعرية تحفز القارئ على البحث عن معاني تلك الإحالات، التي تقعل هنا في الشعر فعلَ المراجع في النصوص النثرية والدراسات المذيلة بمراجع.

هذا يفيدنا في القراءة النقدية لنحكم على أن نصّ الشاعرة وداد هو نصّ له مستواه المثقّف، من خلال تناصّ وحوارٍ فكريّ وأدبيّ مع تلك الإحالات المناسبة. إنه باختصار توظيفٌ للبعد الثقافي في النص الشعري.