السوريون في حضرة الغياب

2023.07.25 | 06:45 دمشق

آخر تحديث: 25.07.2023 | 06:45 دمشق

لاجئون
+A
حجم الخط
-A

من المشاعر الطاغية التي يعيشها المغترب أو المسافر أو المهاجر، شعور الحنين إلى الوطن وإلى الأرض والبلدة والقرية التي ولد فيها، وليس خافيا أن الأمور اختلطت في عصرنا الحالي، فلم تعد المدينة التي ولد فيها المرء هي المقصودة بهذا، بل المدينة التي عاش فيها الشطر الأساسي من عمره، وتعددت مذاهب المفكرين والفلاسفة في النظرة إلى الوطن، فعلى سبيل المثال يجد الفيلسوف الإنجليزي برنارد شو أن الوطن "هو المكان الذي يكون فيه الخبز رخيصاً"، بينما يجده الفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا "هو المكان الذي يشعر فيه المرء براحة أكبر"، في حين يذهب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إلى أن الوطن " هو المكان الذي يشعر فيه المرء بالانتماء، ولكن ليس المكان الذي يشعر فيه بالسعادة".

في الفلسفة، يُنظر إلى الحنين للوطن على أنه شعور مركب ينشأ عبر مجموعة من العوامل المختلفة، بما في ذلك الذاكرة والعاطفة والعقل. فالذاكرة تلعب دورًا مهمًا في الحنين للوطن، حيث تُعيد إلى الأذهان الذكريات الجميلة التي يرتبط بها المرء بوطنه، مثل ذكريات الطفولة والعائلة والأصدقاء. كما أن العاطفة تلعب دورًا مهمًا في هذا الحنين، حيث يشعر المرء بالحب والراحة والانتماء عندما يفكر في وطنه، والعقل أيضًا يلعب دورًا مهمًا، حيث يُدرك المرء أن وطنه هو المكان الذي يشعر فيه بالانتماء الحقيقي، والمكان الذي يشعر فيه بالراحة والأمان.

في رحلة البحث عن دقة المعنى، وعن موقعنا كمهاجرين سوريين من هذا المفهوم أو الشعور، نحتاج للتفريق ولو بشكل مدرسي أو نظري بين الحنين إلى الوطن بصفته ذاتاً قائمة ومستقلة، وبين الحنين إلى أفراد وذكريات ووقائع عشناها في يوم مضى، ففي التغريبة السورية هناك آلاف العوائل والأصدقاء هاجروا معاً، حتى وإن فرقتهم المدن، سيبقى الحنين والشوق إلى الأهل والأصدقاء أينما كانوا، وليس للوطن موضع في هذا السياق، ولمزيد من الاقتراب من المعنى المقصود، هل يحن الحلبيون إلى مدينة حلب وشوارعها، وكذلك الدمشقيون والحمويون، وأهل الرقة ودير الزور وغيرها من المدن؟ سؤال صعب والتداخل فيه بين جملة من المشاعر كبير.

يجد الفيلسوف الإنجليزي برنارد شو أن الوطن "هو المكان الذي يكون فيه الخبز رخيصاً"، بينما يجده الفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا "هو المكان الذي يشعر فيه المرء براحة أكبر"

في تجربة حديثة عمد مركز صدى لاستطلاع الرأي لمسح تجريبي في مدن تركية وأوروبية، جاوز مئتين وخمسين عينة مسحية من مدن سورية مختلفة، ومن الجنسين ومن أعمار مناسبة لهذا الاستطلاع، فمعلوم أن من خرج من سوريا وعمره دون الخمسة عشر لم يتبلور لديه شعور الانتماء والحنين، لذا كانت العينة المختارة ممن تجاوزوا سن الثلاثين، وكنتيجة أولية فإن معدلات الحنين بالمعنى الموصوف لدى الإناث كانت أكبر بكثير مما هي لدى الذكور، وهذا مفهوم في الغالب، وكذلك هي لدى الذكور الذين تجاوزوا سن الستين، وهذا يمكن فهمه على أوجه متعددة، فالشباب هم الأقدر على التكيف والاندماج في البيئات الجديدة، ويشكل الوطن الجديد رغم الإشكاليات الكبيرة التي يعيشونها فيه، فضاءً مختلفاً كل الاختلاف عن وطن بائس اسمه سوريا، ولدى الشباب أفق أوسع في بيئات العمل وتوفير الدخل، الأمر الذي يخفف من الضغوط التي يعاني منها الطاعنون في السن، والذين لم يستطيعوا توفير مصدر دخل يقيهم العوز، كذلك شرع الكثيرون من الشباب العازبون في الزواج، الأمر الذي يعني بشكل من الأشكال ارتباط المتزوج ببيئته الجديدة، مع التنويه إلى أن الحديث كله منصب على مفهوم الحنين كإحساس مستقل،  ومنفصل تماما عن قضية الرغبة بالعودة سواء كانت ممكنة أم مستحيلة.

هناك استجابات لم تبلغ الـ 25% في الإجمالي تتحدث عن الحنين المستمر الذي لا يخبو في نفوس أصحابه، وجزء كبير منهم ينتظر الفرصة المناسبة ليعود إلى وطنه، وهناك استجابات جاوزت الـ 60% تتحدث عن انعدام الشعور بالحنين أو بقائه بالحدود الدنيا التي قلما تطفو على السطح، وهناك نسبة ضئيلة لم تحسم أمرها بعد.

من الاستجابات الطريفة لكنها ذات دلالات عميقة يكتب أحد الأصدقاء "أستطيع أن أقول لك إنني لا أشعر بأي شعور بهذا الاتجاه أو يمكن القول بأنني كنت أظن بأنني أعيش في وطن، ولكن بعد أن جربت الغربة اكتشفت في الغربة وطناً أجمل من الوطن الذي كنت أعيش فيه، مع العلم بأنني أنا هنا لاجئ ولا اعتبر مواطناً إلى الآن، ولكن يوجد لدي حنين لهذا المكان الذي أعيش فيه أكثر من وطني سوريا، وأنني كنت أعيش في خدعة كاذبه اسمها الوطن، فلذلك أستطيع القول إنه لا يوجد لدي أي حنين لذلك الوطن الضائع، لأنه بالأصل كان مسروقا من الجميع، باستثناء بعض الفئات المنتفعة".

صديق آخر يقول: "إن معدل الحنين لديه إلى سوريا يساوي الصفر، لكنه حين يغادر عنتاب إلى مكان آخر يشتاق إليها وبشكل مؤرق".

صديق آخر يعيش في فرنسا يكتب: "للإجابة عن هذا السؤال، كان عليّ أن أسأل نفسي سؤالاً آخر: لماذا نشعر بالحنين إلى الوطن لمكان ما؟ من جانبي، كثيرا ما أشعر بالحنين إلى ستراسبورغ، ولكن هذا الحنين ينبع من تجربتي الشخصية مع المدينة والذكريات هناك والصداقات التي صنعتها هناك. لكن لو سألت نفسي السؤال نفسه عن دمشق مدينة عشت فيها 5 سنوات لا أستطيع القول إن لدي ذات الحنين، هناك شعور أساسي مررت به، بالنسبة لي كانت دمشق مجرد زنزانة كبيرة في الهواء الطلق. رائحة الشوارع نفس رائحة مراكز الاعتقال. في الشوارع نفس الخوف، أكبر من الخوف الذي يشعر به الفرد في مراكز الاعتقال والتعذيب، سوريا بشكل عام لم تكن وطنًا، كانت سجناً يمجد عظمة الدكتاتوريين.

النظام الديكتاتوري لم يقتصر على المستوى السياسي، فهو ينتشر على كل المقاييس. في المنزل، كانت هناك دكتاتورية الأب على العائلة بأكملها، ثم دكتاتوريات الأم على الأصغر سناً. ثم كان هناك دكتاتورية عائلية أكبر مع الأجداد والأعمام والعمات... ثم جاءت دكتاتورية الحي ثم المجتمع بشكل عام. كان للدكتاتورية الاجتماعية سلاحان: الحكم والحرام (الخطيئة). هذان السلاحان كانا في أيدي الجميع ولكن كانا يستخدمان معظم الرجال والنساء في النظام. نظام قائم على الذل والقهر باسم الأعراف الاجتماعية أو الدينية. لم تكن المدارس تهرب من هذا النظام الديكتاتوري، بل كانت مصانع الذل والتعذيب. بالمناسبة، تبدو مباني المدارس في سوريا مثل السجون. في هذا النظام، لم يكن من الممكن أن أشعر بالتعلق بالأشخاص أو الجغرافيا. سوريا التي افتقدها هي سوريا الثورة، سوريا الخيالية التي كنا نحلم بها، اليوم أنا بلجيكي وعندما أكون في الخارج كثيراً ما أتطلع إلى العودة إلى المنزل، لأنني حر ويمكنني التواصل مع الأشخاص حولي. الحنين والإحساس بالانتماء يا صديقي العزيز لا يمكن إلا في وطن حر يعيش فيه المرء بكرامة.

يؤكد لي وائل: "فقط للتوضيح، أنا لا أحن لشيء اسمه وطن، وهنالك جغرافيا كثيرة في سوريا لا تعنيني أبدا ولا أعرفها وقد لا تهمني.. وإنما الحنين هنا.. للحياة السابقة للمعارف لأماكن معينة لذكريات خاصة.. فقط. وقد تهمني مدينة روساريو بالأرجنتين أكثر من مدينة سورية أو عربية لم أسمع بها سابقا ولا أعرف أحداً منها".

من خلال الحوارات المتكررة تظهر النقطة الأهم حضورا في الوجدان، هي مسألة النجاة التي يحسد فيها المقيمون المهاجرين. وكما يبدو فإن فكرة حب الوطن والحنين إليه أصلاً، بحاجة إلى مراجعه وإعادة نظر، فاليوم وبسبب الممكنات التي أتاحتها العولمة وثورة الاتصالات أصبح أي مكان يقدم للإنسان فرصة حياة كريمة مع فضاء معقول من الحرية الشخصية، وموارد كافية، أهم بكثير من الاستكانة لمفهوم ديار الأحبة، وربما كان مفهوم الحنين متعلقاً بالأرض أصلا تلك التي ورثها المرء عن آبائه وما تعنيه من سيادة واستقرار ومنعة، كل هذا تبخر اليوم ولم يعد أكثر من حكايات الأولين.

في النهاية، الحنين للوطن هو تجربة شخصية تتأثر بالعديد من العوامل المعقدة والمختلفة، وترتبط بشكل جوهري بالتجربة الشخصية، ومع ذلك يمكن القول بأمان إن الكثير وربما الأكثرية من السوريين لم يعودوا يشعرون بهذا الحنين، لكن هذا لا ينفي أن الكثير من السوريين يشعرون بالحنين إلى وطنهم، سواء كان هذا الحنين مصدرًا للألم أو الأمل، أو كلاهما معًا. وهذا الحنين يعكس الحب العميق والرغبة في العودة إلى حياة طبيعية في وطنهم، وهو شعور يستحق الاحترام والتقدير.