في خطابه الأخير، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكّد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، على نهجه السياسي وعقيدة السلطة الفلسطينية، وهو رفض استخدام السلاح، وسيلةً للتحرُّر، أو الاستقلال، أو الضغط لدفع دولة الاحتلال إلى الوفاء باستحقاقات الاتفاقيات التي وقعتها مع قيادة منظمة التحرير، ولا تزال تتلكأ، أو تتنصَّل منها. بالتوازي مع تأكيده على الانخراط في محاربة "الإرهاب" والتعاون، مع كلِّ الأطراف (بما يشمل الدولية، وإسرائيل)، في تلك الحرب.
وبالرغم ممَّا حمله خطابه من انتقادات حادَّة لدولة الاحتلال، وفضْحٍ لممارساتها الوحشية تُجاه الفلسطينيين، العُزَّل منهم والمدنيِّين، إلا أنه لم يعلن أيَّ قطيعة مع الاحتلال، بل إنه بمجرَّد عودته، سارع إلى تهنئة وزير جيش الاحتلال بيني غانتس، بمناسبة حلول رأس السنة العبرية، وكان عباس هاتفَ رئيس كيان الاحتلال يتسحاق هرتسوغ، مهنئا إياه بحلول المناسبة نفسها.
غير أن الأوضاع المتوترة، والمتفاقمة، ميدانيا، في مدن الضفة الغربية، حيث المسؤولية الأمنية لأجهزة السلطة، لم تسمح بسيادة أجواء الوفاق، إذ سارع المسؤولون الإسرائيليون، وفق الإعلام العبري، إلى تحذير السلطة من احتمالية شروع قوات الاحتلال باجتياح شامل للضفة الغربية، إذا لم تقم أجهزة السلطة بإنهاء هذه الحالة الفلسطينية، المسلّحة، واعتقال الناشطين، وإعادة الهدوء إلى مناطق الضفة. وحسب مصادر مطلعة في تل أبيب، فإن الرسالة الإسرائيلية وضعت أمام السلطة الفلسطينية خيارين "إما أن تتحركوا ضد الخلايا الفلسطينية المسلَّحة التي تعمل ضدنا، وتتشكَّل من عناصر في حركة فتح وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإما أن نقوم بعملية اجتياح كبيرة لمناطق السلطة وننجز نحن المهمة من دونكم".
ومع اعتراف إسرائيل الرسمي بأهمية السلطة الفلسطينية لحفظ أمنها، إلا أن قادة الاحتلال، وهم مقبلون على انتخابات ستقرِّر حظوظ الأحزاب الصهيونية في تشكيل الحكومة، وذلك في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، فإنهم لا يملكون رفاهية الصبر، أو التدرُّج في تحجيم هذه الظاهرة المسلَّحة والقتالية التي لا يبدو أن عملية "كاسر الموج" التي أطلقها الاحتلال منذ مارس/ آذار الماضي قادرة على إطفاء جذوتها. وذلك على الرغم من تصاعد عمليات قتل المسلحين الفلسطينيين، والاعتقالات والمداهمات اليومية، وبرغم رفع درجة الاستهداف إلى إقرار استخدام المروحيات لاغتيال قادة في تلك الفصائل المسلَّحة.
السلطة الفلسطينية في مأزق سياسي وشعبي يكاد يكون وجوديا، إذ اضطرت، مرارًا، إلى اتخاذ قرارات بوقف التنسيق الأمني، لكنها بشهادة مسؤولين فيها، لا تزال تعمل ميدانيا لمنع السلاح خارج أجهزتها
وربما تنضاف دوافع أعمق وأوسع انتشارًا، تفضي إلى تعميق الصراع، وتسخين جبهة الضفة الغربية، بعد التطورات النوعية في كيان الاحتلال، سواء لجهة استبعاد إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، عن طريق المفاوضات، أو لجهة تزايد نفوذ الأحزاب الدينية المتطرفة واليمينية التي ترى إلى الضفة على أنها قلب المشروع الصهيوني الاستيطاني.
أما من جهة السلطة الفلسطينية فهي في مأزق سياسي وشعبي يكاد يكون وجوديًّا، إذ اضطرت، مرارًا، إلى اتخاذ قرارات بوقف التنسيق الأمني، لكنها بشهادة مسؤولين فيها، لا تزال تعمل ميدانيًّا لمنع السلاح خارج أجهزتها، وتعتبره غير قانوني، وهي تعمل على منع أي أعمال عسكرية، أو شبه عسكرية تستهدف جنود الاحتلال، أو المستوطنين. فضلًا عن تأكيدات الرئيس الفلسطيني الأخيرة، المذكورة آنفا.
لكن السلطة في الآونة الأخيرة صارت أكثر انكشافًا، حين صارت تقوم بعمليات اعتقال ضد فلسطينيين مطلوبين، ومطارَدين من قبل قوات الاحتلال، فهي تنجح فيما تفشل فيه قوات الاحتلال، وتستكمل ما قصّرت قوات الاحتلال، وأجهزته الاستخبارية عن استكماله. كما حدث عند اعتقالها المطلوب البارز في مدينة نابلس مصعب اشتية؛ الأمر الذي ولّد حالة غضب شعبي واسعة في المدينة، انعكست ظلالها على معظم مدن الضفة الغربية، وانخرطت فيها مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية. حتى وصل الأمر إلى إلقاء الحجارة على قوات السلطة؛ في استعادة لصور شباب وفتيان فلسطينيين يلقون الحجارة على قوات الاحتلال، كما كان يحدث على نطاق جماهيري واسع في الانتفاضة الأـولى، آواخر العام 1987؛ ما يعني تماثُل صورة العنصر الأمني التابع للسلطة مع صورة الجندي الاحتلالي، في الوجدان الشعبي الفلسطيني العادي والبسيط. ولم تكن تلك الهبَّة الفورية والتلقائية التي عمَّت نابلس، وانتقلت إلى غيرها ناجمة عن تخطيط لتنظيم معين معادٍ للسلطة، أو تحريض منه.
كان ذلك إنذارًا خطيرًا فهمت السلطة الفلسطينية معناه ومآلاته الممكنة؛ فسارعت، وعلى مستوى محلّي، في مدينة نابلس، إلى احتوائه، بالوصول إلى اتفاق تمَّ التوقيع بين محافظ نابلس وأجهزة أمن السلطة، وبين وجهاء من نابلس. وتحت هذا الظرف اضطرت السلطة إلى القبول بما يخالف موقفها الرسمي، إذ تعهدت بالكفّ عن ملاحقة المطلوبين، واعتبارهم حالة وطنية.
السلطة لا تضمن، حتى انضباط جميع عناصر أجهزتها الأمنية، وهم لا ينعزلون، شعوريًّا، وأُسَريًّا عن ضحايا الاحتلال الإسرائيلي
ومع أن الموقف العام للسلطة، سواء من حيث الخطاب السياسي للسلطة، أو من حيث الممارسة العملية لأجهزتها، لا ينسجم مع ذلك الانزياح الملحوظ، المحلّي، إلا أنه كان مؤشِّرًا واضحًا على ضعف السلطة، عن الوقوف الصريح أمام الموقف الشعبي، ومعاكسة ذلك التعاطف الواسع من عموم الفلسطينيين، على أرضية انسداد سياسي، وتردٍّ اقتصادي، وانتهاكات احتلالية للمقدّسات، ( وفي مقدِّمتها المسجد الأقصى الأكثر استهدافًا، والأكثر قداسة) والحُرُمات، وارتفاع حالات القتل، فضلًا عن توسُّع الاستيطان والتهويد، وفي ظل تلك المعطيات، فإن السلطة لا تضمن، حتى انضباط جميع عناصر أجهزتها الأمنية، وهم لا ينعزلون، شعوريًّا، وأُسَريًّا عن ضحايا الاحتلال الإسرائيلي، وهم قبل ذلك يتحمَّلون مقادير عالية من الإحباط، وترتدُّ على نفسياتهم عواقبُ الخذلان، حين لا يملكون إلا أن يكونوا في موقف المتفرِّج، وهم يرون قوات الاحتلال تقتحم قلب كبريات المدن الفلسطينية، وتقتل أبناءها، وأحيانًا في وضح النهار، بل وبعضهم يضطر إلى الانخراط في تلك الجهود المتضافرة مع قوات الاحتلال، في ملاحقة جيل من الشباب المتحمسين والذين يندفعون إلى المواجهة بعُدّة متواضعة، وبكفاءات قتالية بسيطة، وعفوية، غالبًا.
صحيح أن إيران تحاول التموضع في الضفة الغربية عن طريق حركة الجهاد الإسلامي، لكن غير قليل من العمليات النضالية والنشاطات المقاومة لا تصدر إلا عن أفراد غير مؤطَّرين تنظيميًّا، وحتى من يتعاون مع (الجهاد) أو ينضوي تحتها، فإنه في حالات غير قليلة يفعل ذلك، لا عن إيمان بالانتماء إلى هذا التنظيم، بالذات، وإنما لتشوُّقه للقتال والمقاومة. ولا سيما بعد أن نجحت أجهزة السلطة في تفكيك البنى التنظيمية للفصائل الأخرى، سواء بالاعتقالات، أو باحتواء أفرادها، كما هو حال عناصر حركة فتح، بتوظيفهم في أجهزة السلطة.
وبعد، فإن إسرائيل تريد من السلطة الفلسطينية أن تكون بأجهزتها الأمنية، امتدادًا صريحًا لها ولجيشها، ولا يهمُّها أنَّ السلطة، حينذاك، ستغامر ببقائها، وقدرتها على التماسُك، أو أنها ستلحق في وجدان الفلسطينيين، وعلى نحو حاسم، بعملاء الاحتلال؛ فأيُّ المُرَّين تتجرّع السلطة؟