السقوط المدوّي لدعاة العصر

2019.11.01 | 20:45 دمشق

4d0532ea1e9c39c2d087f3a9.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان المعلّم رمزاً يقتدي الناس به، ومع تكريس حالة التخلف التي مني بها العالم العربي، تمّ إهمال المعلّم، وتدنى مستوى دخله فاتّجه للانغماس في عمل آخر، فغدا بائعاً للخضار أو سائقاً عمومياً، ترميماً لدخله، ما أفقده احترام المجتمع له، وتدهورت مناهج التربية والتعليم.

الشباب الذين يبحثون عن مثال متجسّد يحتذى، اتّجهوا ناحية الدعاء، يستمدون منهم صورة الرمز الذي ينبغي اتّباع خطواته للفلاح.

مع بدء ثورات الربيع العربي، نبيّن الموقف الحقيقي لكثير من الدعاة الذين غدوا يباركون الطغاة ويحرّمون الخروج على الحاكم مهما طغى وتجبّر، فانفجر الشارع العربي وعرّى الرموز القديمة، وبدأت عملية سقوط القيم مع سقوط حامليها. الآن ينبغي أن نعيد النظر فنجرّد القيم من التشخيص البشري كي لا تسقط بعد اتّضاح نفاق حامليها ودعاتها.

مع بدء ثورات الربيع العربي، نبيّن الموقف الحقيقي لكثير من الدعاة الذين غدوا يباركون الطغاة ويحرّمون الخروج على الحاكم مهما طغى وتجبّر

جاء في لسان العرب: "والدعاة قومٌ يدعون الناس إلى بيعة هدى أو ضلالة، وأحدهم داعٍ، ورجل داعية: إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين". يقول ابن القيّم: "الدعاة جمع داعٍ، كقاضٍ وقضاة، ورامٍ ورماة، وإضافتهم إلى الله للاختصاص، أي الدعاة المخصوصون به، الذين يدعون إلى دينه وعبادته ومعرفته ومحبّته وهــؤلاء هم خواصّ خلق الله، وأفضلهم عند الله منـزلة وأعلاهم قدراً.

ولا ينكر أحد أهمية الداعية المخلص وفضله في إيقاظ النزوع الأخلاقي لدى الناس، وقد خصّه الله بالتفضيل: ]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[ فصّلت 33.

ويبتكر الدعاة الجدد أساليب جاذبة في أحاديثهم ومحاضراتهم وندواتهم التلفزيونية أو الإذاعية أو منابر المساجد وقاعات المحاضرات، للحثّ على الفضائل والقيم والأخلاق النبيلة، والدعوة إلى الالتزام بالسلوك الإسلامي القويم. هذه القدرة على استخدام التقنيّة الحديثة أكسبتهم شعبية واسعة وحضوراً متميّزاً. ويحرص الدعاة المعاصرون على الدعوة إلى الله عن طريق الحكاية والإقناع، بعيداً عن الوعظ الذي لا يرتبط بمستجدّات الواقع. يعتمدون على الترغيب بالتركيز على تأكيد مغفرة الله تعالى الواسعة، وهو الغفور الرحيم، وعلى رحمته التي وسعت كل شيء، ويدلّلون على ذلك مما درسوه من سيرة رسول الله وأهله وصحابته عليهم رضوان الله. هذا الأسلوب جذب إلى مجالسهم وأحاديثهم الشباب، يستمعون ويناقشون ويتأثّرون ويهتدون.

والأمر الذي يستوقفنا في دراسة ظاهرة الدعاة المعاصرين خلال السنوات الماضية أن الشباب وجدوا فيهم قواسم مشتركة، منها لغة سهلة ميسّرة وأسلوب سهل مبسّط، فيسّر ذلك لهم فَهْمَ ما عصي عليهم من أمور دينهم، وجدّد رغبتهم في الالتزام مسلكاً وسلوكاً بالإسلام وتعاليمه السمحة. لقد نجح كثير من الدعاة المعاصرين في مخاطبة الفئة الأهم في المجتمع، وهي فئة الشباب، التي تحاول شتّى التيارات السياسية والحزبية والدينية استمالتها، وذلك من خلال الخطاب الشبابي المنفتح على كل ما هو حديثٌ وعصريّ في عالم اليوم، ومن خلال الإفادةِ من سعةِ اطلاع الدعاةِ أنفسهم وانفتاحهم على الثقافات الغربية.

إنّ صورة الداعية الديني الأنيق، المنفتح على تطورات العصر، والأقرب أيضاً إلى حياة الناس اليومية، لم تكن يوماً في المجتمع الإسلامي كما هي عليه اليوم. لقد تبلورت في السنوات الأخيرة حتى باتت تطغى على الصورة التقليدية للإمام الشيخ ذي اللحية الطويلة، والذي يقصر مواعظه على ما يتعلق بالأمور الدينية البحتة.

لقد أدرك الدعاة الجدد أنّ الوعظ لا يجدي - لمكافحة الرشوة ، مثلاً-  في مجتمع تنمّي فيه وسائل الإعلام، وهيئات التخطيط، والعلاقات الاجتماعية؛ الجشع اللامحدود. إنّ المسألة أكبر من ذلك بكثير، إنّ الشيء اللازم هنا هو التوعية المترافقة بإمكانية التطبيق، بعيداً عن الخطاب الوعظي الخيالي.

ومن المثقِّفين الذين لا يخرجون عن الأسلوب الوعظي هم بعض خطباء المساجد الذين لا ينفكّون يعظون الناس بالوعد والوعيد، بالترغيب والترهيب، للفوز بالنعيم وتجنّب الجحيم. إن مثل هذا الأسلوب يلامس العاطفة لا العقل، إنّه يخاطب الشعور فيمسّ المتلقّي برهة من غير أن يقنعه. ولهذا نجد المصلّي ما أن يخرج من المسجد حتى تعاوده نوبة الاستغلال والتناحر والصراع لحيازة السلطات الدنيوية.

إنّ الهدف الأساسي من خطبة الجمعة هو توعية الناس وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم، إنّ المسجد جامع تتضح أبعاد كونه جامعاً، يوم الجمعة، حيث يسعى ملايين الناس إليه، في لحظة واحدة، لينصتوا بخشوع. ومن هنا تأتي أهمية هذه الوسيلة العظيمة من وسائل التوعية، جمهور غفير يذهب ليتلقى مسلماً مستسلماً حيث لا يفكّر إلاّ القليلون منهم بالتلقّي النقدي، وحينئذ يكون الوقت مناسباً لأن يرتفع المثقِّف-الخطيب عند الله وعند الجماهير بأن يتحدث إليهم عن أسباب معاناتهم ويحاورهم في سبل التخلّص منها.

ومن المثقِّفين الذين لا يخرجون عن الأسلوب الوعظي هم بعض خطباء المساجد الذين لا ينفكّون يعظون الناس بالوعد والوعيد، بالترغيب والترهيب

ولكن، مع الأسف، نلاحظ أنّ كثيراً من مثقِّفي الجوامع يتحوّلون إلى مثقَّفي سلطة، يباركون جلالة الأرضيّ المعظَّم ويبسطون لنا منجزات (السيد الطحلبيّ) ثم يشرحون لنا كيف يجب أن نترفّق بضرب النساء باستعمال غصن زيتون جاف، أو يتكلّمون على الفرق في الصلاة بين المذهبين: الحنفي والشافعي، وإذا جادت قريحة بعضهم فإنّهم يُبكون الجماهير بخطاب عاطفي تحمله ذاكرة خارقة مبيّنةً تفاصيل إحدى المعارك الإسلاميّة التي جرت وقائعها منذ أربعة عشر قرناً، فقط. أو يتناولون شخصية من المسلمين القدماء موضّحين لنا مآثرها وأخلاقها وإنجازاتها بوصف يجترح المعجزات، وماذا بعد ذلك؟ بالنسبة لي، أخرج صفر اليدين ما لم أكن نادماً على ساعة قضيتها من دون جدوى، أو أخرج ضارباً كفّاً بكفٍّ متأسِّفاً على ما آلت إليه حالنا، بدءاً من الأخطاء النحويّة البسيطة الهائلة التي يرتكبها الخطيب، وانتهاءً بإدراكي أنّ هذه الخطبة لا تستهدف إلاّ امتصاص نقمتنا على محرّكي الواقع من حولنا. وهذا الأسلوب الخطابيّ، إن لم يصدر عن متعمّم،  قد يعطي انطباعاً للجمهور بأن صاحبه متعجرف متعال، وبأنّه يعدّ نفسه من النخبة التي تختلف عن الرعاع. وترسخ تلك الصفة فيه حين يبدو جادّاً في بعض آرائه، وحين لا يترك مجالاً للحوار، وحين ينأى بنفسه عن المشاركة بالنشاطات الاجتماعيّة، فيقطع صلته بذويه ومعارفه، ويتعامل مع الناس على أنّهم موضوع للتحليل من غير أن يتواصلَ معهم ويدرسَ مشكلاتِهم عن قرب.