الروح العربية المُستعادة في المونديال

2022.11.30 | 06:37 دمشق

الروح العربية المُستعادة في المونديال
+A
حجم الخط
-A

معجزة الهوية العربية، بمعناها الثقافي والحضاري الواسع، تكمن في قدرتها على العودة كل مرّة من بوابة مختلفة، فتارة تجلبها الأحداث وتحرّكها العاطفة، وتارة تأتي بها اللغة والوجدان والمنتج الإبداعي، وفي أحيان كثيرة قد تأتي مما هو غير متوقع.

استطاع تنظيم بطولة كأس العالم في قطر، كأكبر تظاهرة لا رياضية وحسب، بل على صعيد التظاهرات كافة، ثقافية أو اجتماعية أو سياسية، أن يحدث تغييراً عجزت عنه اللقاءات السياسية والتحالفات الإقليمية وسواها.

دع عنك تشجيع المنتخبات العربية من قبل الجمهور العربي، فهذا لا يحدث لأول مرة، وفي كل مونديال كان العرب يتعاطفون مع المغرب أو تونس أو مصر أو السعودية أو الجزائر أو غيرها ممن شارك في بطولات كأس عالم سابقة.

القيمة الجديدة هنا أن اللعبة تدور على أرض عربية، وأن الجميع شعر أنه مسؤول عن إنجازها لتقديم صورة حقيقية عن العرب، مختلفة عن تلك الصورة النمطية التي صبّ قالبها الغرب الاستشراقي وأسس عليها عداءاته واستعلاءه على العرب، حتى انتقل هذا الاستعلاء من الغرب الاستعماري إلى شراذم تعيش بين العرب وفي ظلالهم رفعت أصواتها في الأعوام الماضية تلعن العرب وتكيل إليهم ما يخطر وما لا يخطر لأحد ببال، شعوبية جديدة متوالدة من شعوبية قديمة.

وتبرز أهمية الحدث في ما يتجاوز الرياضة وكرة القدم إلى كونها مغامرة عربية في حقل لطالما احتكره ”الإنسان الأبيض“ كما يطيب لليمينين وصف أنفسهم، الذي يريد أن يفرض قوانينه وتوجهاته عنوة على الجميع، كما في بلاده أيضاً في بلداننا.

وليست قضية المثلية سوى نموذج من نماذج تلك الغطرسة التي لا تعد ولا تحصى، والتي حين قرّر العرب مواجهتها بموقف حازم، لم تنهر الدنيا فوق رؤوسهم كما كان يتم تخويفهم من قبل، ولم يفشلوا في تنظيم حدث كبير مثل هذا، ولم تثر فضيحة ولا هم يحزنون.

يرى العالم عبر هؤلاء أن العرب مضيافون متحضرون، لا ينقضون على ضيوفهم من النساء والأطفال، وتتلاعب بهم الوحشية والعنف، كما وصفتهم أفلام هوليوود في الماضي

الروح العربية التي هي الهوية لا الجينات ولا العصبية الغرائزية، هي خط الدفاع الثقافي، وهي الجدار الأول والأخير القادر على صد سيل الغزو الثقافي الذي يبدأ بالعادات ولا ينتهي عند القيم والمصالح والغاز والنفوذ وسوى ذلك من المفاهيم الكبرى.

يرى العالم عبر سفرائه الجدد من شعوب الأرض التي جاءت إلى قطر من أولئك المشجعين، أن العرب ليسوا أولئك الذين يعيشون في خيم، كما يتم وصفهم كل صباح ومساء، بل في دول متقدمة منظمة، ويرى العالم عبر هؤلاء أن العرب مضيافون متحضرون، لا ينقضون على ضيوفهم من النساء والأطفال، وتتلاعب بهم الوحشية والعنف، كما وصفتهم أفلام هوليوود في الماضي.

وفي نسخة جديدة من هذا الحدث العالمي، يشاهد العالم كيف يمكن له أن يتواصل مع العرب بلغة مختلفة عن لغة الهيمنة والابتزاز اللتين ما زالتا حتى شهور مضت هي من تحكم علاقة الغرب بهم. من أسعار النفط إلى تحطيم مقدرات الدول العربية في أفريقيا وفي الوقت نفسه مطالبتهم بمساندة الغرب في أزمته الحالية بعد غزو بوتين لأوكرانيا.

آخرون يشاهدون ذلك أيضاً، هم العرب أنفسهم، بما تعنيه الكلمة من دلالات، ثقافية وسياسية واجتماعية من جديد، فهم يقيسون أداءهم اليوم في الملاعب كما في شوارع الدوحة وخارجها على امتداد خارطة الوطن العربي المثخن بجراحه ومعاناته من كل شيء تقريباً، ويرون أنهم ليسوا أقل من غيرهم، شعور يخلّصهم من سطوة الهزيمة في ميادينهم السابقة، ثورات لم يكتب لها بعد أن تحقق ما صبت إليه، لكن كان لها دور في بثّ روح عربية جديدة، انطلقت في ”الربيع العربي“، وتجلّت في كل مظاهر الحياة، وهي تتفاعل منذ تلك الأيام وما زالت تسعى إلى ما أرادته بكل وسيلة ممكنة.

التلاقي الثقافي الذي أتاحه المونديال فسح أمام العرب مجالاً لرؤية أنفسهم في مرايا الآخرين، وما منع مشجعين قدموا باللباس ”الصليبي الحربي“ الكامل إلا إشارة أخرى من إشارات المونديال على أنك إن قلت لا فليس بالضرورة أن تخيب.

موسم المونديال لم يكن مجرّد موسم رياضي، بل ساحة للتصادم الفكري والحضاري، وحين سينتهي كما أريد له، بنجاح، سيترك آثاراً سيكون من الصعب محوها في المستقبل

”هكذا يرونكم“ واحدة من أبلغ رسائل المونديال، عليها أن تبقى ترجّ الذات العربية في هذا الوقت، وهي دينامية ستشتغل عميقاً في الذهنية العربية، ولن تتركها كما كانت من قبل، فموسم المونديال لم يكن مجرّد موسم رياضي، بل ساحة للتصادم الفكري والحضاري، وحين سينتهي كما أريد له، بنجاح، سيترك آثاراً سيكون من الصعب محوها في المستقبل.

ولكن من قال إن تلك الآثار سلبية؟

فردّ الفعل على إصرار بعض المشاركين على فرض رؤيتهم على العرب، يتصاعد كما نرى، وما كان خفراً خجولاً في البدايات أصبح اليوم خطاباً أعم وأشمل، وليست تلك الرسالة صعبة أو معقدة على أي عقل، يمكنك أن تكون ما شئت، لكن لا تفرض عليّ ما تريده عنوةً. وهو فحوى الحرية الأول الذي يقف عند حدود حرية الآخر.

هي إذاً حالة من إعادة النظر في المفاهيم، كالسيادة وحرية التعبير والتقدّم والتخلف والأنا والآخر، ومن الطبيعي أن يكون ميدان المونديال وكرة القدم المساحة الأفضل لخوض تلك الجدالات، لارتباطه بالتكنولوجيا المتقدمة، وأيضاً لغياب المنافسات الشريفة عن بقية المنظمات الأممية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها بكل قراراته التي يبقيها الغرب حبراً على ورق.

اختبار حقيقي للبراغماتية الغربية، ولغة المصالح، والقيم، والنظام العالمي القديم الذي يتهاوى هذه الأيام، حين تنكشف عورة رفض أكثر من ثلثي البشرية له، وإن توافقنا على الديمقراطية والمساواة، فسنختلف كثيراً على محو الهوية، وإن توافقنا على العدالة فسنفترق كثيراً على تأثير المصالح في حرف القيم عن معانيها.

يمكن للحظة المونديال أن تفعل أكثر من مجرّد التأثير الذي ذكر أعلاه، وستفعل، كما أثّر فتح الإعلام الحر ذات يوم، متجاوزة خرائط الدول وحدودها، إلى العقول وفي مقدمتها عقول العرب أنفسهم.