الدخول التركي.. وهوامش على دفتر نكساتنا وضياعنا

2019.10.16 | 17:47 دمشق

20191016_2_38774191_48529558.jpg
+A
حجم الخط
-A

تجاوزت التطورات العسكرية في سوريا وعليها، حدود المبدئية. الموقف المبدئي على أهميته وقدسيته، يبقى بعيداً حالياً عن واقع التطبيق، أو الواقع المنظور والمُعاش. والمقصود بالمبدأ هنا، هو الالتزام الأولي والأساسي والبديهي، بوحدة الأراضي السورية والحفاظ عليها بنسيجها الاجتماعي والجغرافي والديمغرافي. الأساس هنا، هو أن هذا المبدأ الذي نلتزم به وننشده، لم يعد له أيّ أساس من الوجود، والمبدأ الثاني هو في رفض تدخل أي قوة عسكرية أو غير عسكرية، خارجية بمسار الأحداث السورية التي اندلعت في آذار العام 2011. وشيء من هذا أيضاً لم يتحقق.

الواقع السوري اليوم، يشير إلى انتهاء سوريا التي نعرفها، والتي ثار شبابها للمطالبة بالحفاظ عليها وتطويرها وتحسين ظروف حياتهم فيها. لم تكن ثورة الشباب السوري بهدف الوصول إلى ما آلت إليه الأوضاع، وهذا يعني أن المبدأ أيضاً قد تبدد، على مذبح

من أوائل الخروق للمبدأ العام للثورة ومآلاتها، هو النزعة الكردية المتسرعة إلى رسم حدود الكيان الانفصالي، بدلاً من التنسيق مع المعارضة

الصراعات الدولية والإقليمية في سوريا وعليها، وبحث الدول عن مناطق النفوذ. سوريا اليوم، أكثر من دولة، وعلى أراضيها أكثر من احتلال أو توغل أو تدخل، وتعرضت لأكثر من اعتداء. وفي هذه الحالات، ومع الاحتفاظ بالمبدأ العام الذي لا تنازل عنه، يجب تغيير النظرة إلى حقيقة الوضع، بحيث يصبح التشخيص مركّزاً على صراعات النفوذ بين القوى الغريبة المتنوعة، وما تحققه على الأرض السورية.

ومن أوائل الخروق للمبدأ العام للثورة ومآلاتها، هو النزعة الكردية المتسرعة إلى رسم حدود الكيان الانفصالي، بدلاً من التنسيق مع المعارضة والحراك الثائر على مبدأ واحد وهو إسقاط النظام على أن يتم التفكير بالنظام الجديد فيما بعد الانتهاء من هذا الهدف. هذا الخرق، كما غيره من الخروق العربية والدولية التي جعلت سوريا مذبحاً تتصارع عليه الأمم، وتتداخل فيه جملة حسابات وطموحات لمشاريع، قومية، أقلوية، إسلامية، وغيرها.

مع إعلان تركيا تدخلها في شرق الفرات، طرحت أسئلة وجدانية كثيرة في نفوس المؤيدين للثورة السورية، إذا ما كان التدخل مشروعاً أم غير مشروع ولا بد من معارضته. بمجرد طرح السؤال، يقع ضياع هوية الوجهة السياسية، ولهذا أثر بالغ على علاقة الثوار بثورتهم، لكنهم أيضاً أكثر من استشعر اليتم والذبح والتهجير الممنهج على مرأى العالم، وبرعاية "أصدقاء الشعب السوري" الذين لم يقدموا على أي خطوة تستحقها التسمية. في حالة المغبون والمهزوم، والذي تراءت بلاده أمامه تتجاذبها قوى دولية معارضة له أو شاركت في سحق طموحاته وتهجيره من أرضه، تبدو النظرة مختلفة وبعيدة عن التنظير، فجمع كبير من هؤلاء العراة والمهجرين في الشتات، كانت دواخلهم تتوق إلى ما يرتكزون إليه، أو يركنون لديه في أمن وأمان، يستشعرون استنصاره لهم، بمعزل عن قراءتهم أو رؤيتهم لكل النقاش السياسي المبدئي، أو السيادي، برفض التدخل. جل ما يريده هؤلاء أن تدخل قوة تمنحهم بعضاً من قوة البقاء والوجود، في ظل وجود قوى مختلفة ومتنوعة أنزلت بهم ما أنزل الله بها من جور وسلطان.

وفي هكذا حالات، لا يسيطر الضياع وحده فحسب، إنما تتجلى معاني التناقض السياسي في المواقف بين الدول التي كان هؤلاء المسحوقون ينظرون إليها ناصرة لهم وخاصرة حمايتهم. من رحّب بالتدخل التركي، استوقفه الاستغراب من حجم المواقف العربية المدينة لهذا التدخل، متمنياً لو أنها كانت بهذه السرعة والفعالية أمام التدخل الإيراني أو الروسي. ولو حصل ذلك لما وصلت الأوضاع إلى ما وصلت إليه.

سوريا العربية يغيب عنها العرب، تحضرها قوى متعددة، من إيرانيين، روس، أتراك، وأميركيين. والطامة الأكبر تنعكس في الموقف العربي الرافض للتدخل التركي بما يمثّله من تهديد لوحدة الأراضي السورية، بينما بعضهم كان يدعم الأكراد، أصحاب المشروع والطموحات الانفصالية التي تشكل التهديد الأساسي لوحدة الأراضي السورية. هذا الإجماع العربي الذي جُلب على عجل، باجتماع جامعة الدول العربية، لم يتوفر بشأنه أي مبادرة بهذه الشراسة والسرعة إزاء التدخل الإيراني، أما التدخل الروسي فقد حظي بالدعم العربي الكافي لتتولى روسيا الوصاية الكاملة على سوريا، مع توزيعها لأدوار مختلف القوى وخصوصاً الإيرانيين والأتراك.

وبالعودة إلى السؤال الأساسي، هل يجب على المرء أن يقف ضد التدخل التركي أم معه؟ ليس من السهل الوصول إلى جواب شاف وواضح. لتركيا مشروع واضح في سوريا، تستند إلى عناوين عديدة لتبرير تدخلها، أولاً حماية الأمن القومي التركي، وثانياً المنطقة الآمنة لنقل اللاجئين إليها، وقطع الطريق أمام أي مشروع انفصالي كردي قد ينعكس سلباً على تركيا، وإيران والعراق معاً. وتستند تركيا في تدخلها إلى ما سبقها

الغياب العربي، والوقوع في التناقضات، وغياب أي رؤية سياسية جدية كانت قادرة على حماية سوريا من كل هذه التدخلات، رمى بالسوريين في أحضان الآخرين

من تدخلات في سوريا، من قبل الروس الذين دخلوا لحماية النظام والدولة بما يتلاءم مع مصالحهم، وإعلانهم الدخول في حرب مقدسة لحماية الأقليات، إلى إيران التي تدخلت أيضاً بذريعة الدفاع عن المقدسات وحرب استباقية على الإرهاب، بهدف تحقيق أهداف استراتيجية في سوريا من مناطق النفوذ وتوفير الأمن للهلال الإيراني أو للأوتستراد الذي يصل إيران بالعراق بسوريا وصولاً إلى لبنان.

لا جواب للسؤال، إلا أن الغياب العربي، والوقوع في التناقضات، وغياب أي رؤية سياسية جدية، كانت قادرة على حماية سوريا من كل هذه التدخلات، رمى بالسوريين في أحضان الآخرين، سواء كانوا أتراكاً أم غير أتراك. تربح تركيا من تدخل كما ربح من قبلها الإيرانيون والروس، بينما العرب هم الخاسرون، وطبعاً الخسارة الفادحة تقع على الشعب السوري وما مني به. لم يكن التدخل التركي ليحصل لو لم يكن هناك توافق دولي حوله، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى روسيا وإيران. موقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان واضحاً، والتنسيق مع موسكو متكامل وصولاً إلى رفع الفيتو في مجلس الأمن دول قرار يدين التدخل التركي في شرق الفرات.

في غياب العرب، تلعب قوى خارجية أدوارها على أراض عربية، فلاديمير بوتين هو المايسترو، وهو تحدّث بوضوح قبل أيام حول وجوب عمل إيران وإسرائيل معاً، لربما هذه الجملة البسيطة، كافية لاتضاح الصورة أكثر، من الحرب الساحقة التي تعرضت لها الثورة السورية، إلى عمليات التهجير الممنهج التي شهدتها سوريا، ربطاً بما يحكى عن تحالفات أقلوية، وصفقة القرن. قال بوتين كلمته خلال زيارته إلى السعودية، التي تستعد لعقد حوار مع إيران، التي استهدفت الأراضي السعودية والأمن القومي والنفطي الخليجي بلا أي مواجهة جدية، وتستعد للذهاب إلى حوار مع الأميركيين. هذا الكلام يفسّر وجهة التطورات المقبلة، وستكون نتائجها مماثلة لما شهدته سوريا بلا حاجة للحرب. على قاعدة مبادلة العرب ومساومتهم على أمن شعوبهم مقابل الحفاظ على أنظمتهم، فيعودون إلى تعويم نظام الأسد انطلاقاً من الجامعة العربية، وفق منطق نفسه قاده الإيرانيون منذ سنوات. وهذا أساس الهزيمة ومنطلقها، وأمامها لا قيمة لأي جدال آخر، يأتي على حساب أمن السوريين وبحثهم عن ملجأ في آفاق مسدودة أمامهم بالكامل.