الختيار رياض الترك بين ظلمتين

2024.01.04 | 17:36 دمشق

الختيار رياض الترك بين ظلمتين
+A
حجم الخط
-A

مات أبو هشام، الختيار الآن يتم تهيئة جثمانه للدفن، إلى عتمة القبر يمضي الرجل وحيداً كما كل الخلق، لكن المختلف هنا أنه رجل اعتاد الوحدة والظلمة حين كان حياً ومنتبهاً.

وفاة رياض الترك تطوي صفحة من صفحات تاريخ سوريا السياسي الحديث، هو الرجل الذي عاصر تقلبات الحياة السياسية فيها لعقود خلت، وأسهم في تأسيس معارضة واضحة وصلبة من نظام حافظ الأسد، حتى غدا هاجس ذلك الدكتاتور والعين التي تقاوم مخرز سلطته.

أبو هشام القيادي البارز في الحزب الشيوعي السوري منذ خمسينيات القرن الماضي، كان صاحب رؤية مختلفة حول واقع الشيوعية العربية، فكان صقراً في محاربة ارتباطها بالاتحاد السوفييتي، وجدلية تطبيق نظرياتها كاملة في مجتمعاتنا، فهي كما يرى فصّلت على مقاس مختلف، ولمجتمعاتنا خصوصية مختلفة معها، وهذا ما جعله مكروهاً من السلطة السوفييتية، حتى أن بعض مسؤوليها في ذلك الوقت طلبوا وبشكل رسمي من خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي عدم إحضار الترك معه خلال زياراته لموسكو.

يعتبر الترك حاملاً أميناً ومطوراً لإرث الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، ذلك الرجل الذي قتله عبد الحميد السراج مطلع الستينيات وذوب جسده بالأسيد أثناء عبوره إلى سوريا قادماً من لبنان، ونتيجة لمواقفه الثابتة والصريحة خلال مسيرته السياسية التي امتدت لسبعة عقود، كان الترك هدفاً دائماً لعسس السلطة منذ عهد أديب الشيشكلي حتى بشار الأسد.

وقف رياض الترك موقفاً صلباً من سياسة حافظ الأسد تجاه لبنان، ونظم حزبه وقفات ومظاهرات في الشارع السوري نتيجة التدخل العسكري عام 1976، ونتيجة لتغول سلطة حافظ الأسد

أبرز مواقف الترك الواضحة بدأت في عام 1969 حين شكل مع قادة الأحزاب الشيوعية في الدول المحيطة (لبنان والأردن والعراق) ما عرف بمنظمة أنصار، والتي عملت على دعم القضية الفلسطينية، ومدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بما استطاعت من الكوادر والدعم، وحاول الترك مع رفاقه في المنظمة استمالة دول في المعسكر الشرقي آنذاك، فزار عواصم عدة من صوفيا إلى وارسو إلى براغ وصولاً إلى موسكو، تلك الأخيرة التي أجهضت حكومتها أي مشاريع دعم للمنظمة.

وعلى الصعيد الحزبي جاء انشقاقه عن الحزب الشيوعي السوري في السبعينيات، بعد رفضه دخول الحزب في ما أطلق عليها الجبهة الوطنية التقدمية، فاتجه مع مجموعة من رفاقه لتأسيس ما عرف بالحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) وعرف وقتها من قادة حزبه الجديد فايز الفواز العقل المنظر، وعمر قشاش صاحب النضال النقابي.

وقف رياض الترك موقفاً صلباً من سياسة حافظ الأسد تجاه لبنان، ونظم حزبه وقفات ومظاهرات في الشارع السوري نتيجة التدخل العسكري عام 1976، ونتيجة لتغول سلطة حافظ الأسد، أسس الترك مع جمال الأتاسي زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي وآخرين ما عرف بالتجمع الوطني الديمقراطي عام 1979، والذي شكل جبهة سياسية معارضة في وجه حافظ الأسد في ذلك الوقت، ليتم اعتقال الترك في العام الذي يليه، ويبقى ما يقارب الثمانية عشر عاماً، لم يكن الترك صاحب أطول اعتقال في تاريخ نظام الأسد، ولكنه كان الرجل الذي تم عزله طيلة مدة السجن، فلم يكن يلتقي إلا بسجانيه، ويقضي وقته وحيداً منفرداً، لذلك أطلق عليه لقب مانديلا سوريا.

خروج الترك من السجن قبل نهاية الألفية الجديدة، وسنوات سجنه الطويلة، لم تثنه عن متابعة نضاله، ليعود إلى السجن عام ألفين وواحد، يعد أن تم حكمه لمدة سنتين ونصف، قضى منها نصف المدة تقريباً.

خرج الترك مرة أخرى من السجن، فجاءت حرب العراق كمنعطف مهم في نظرته إلى تاريخه وتاريخ حزبه، ليقوم مع من تبقى من رفاقه القدامى بتأسيس حزب الشعب، على أهداف ومبادئ جديدة، تحمل تطلعات الحرية والعدالة والمساواة وشرعة حقوق الإنسان.

وما إن انتهى الترك من ترتيب بيت حزبه الداخلي، حتى مضى مع مجموعة من السياسيين السوريين إلى تأسيس مظلة جامعة للمعارضة السورية، أطلق عليها إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي.

لم يكن رياض الترك شخصية سياسية حزبية مؤطرة، بل كان رمزاً سورياً خالصاً، أخطأ وأصاب، حاول وفشل، واجه واعتقل، أجرى تقييماً واضحاً لسياسته وسياسة حزبه، ونقد تجربته كاملة، واعترف بأخطائه الكثيرة

الترك ومع انطلاق الثورة السورية، أيدها منذ لحظاتها الأولى، وكتب وتحدث عنها، واتهمه أبواق النظام بأنه أحد المعتصمين داخل المسجد العمري في درعا، ليبقى متخفياً في سوريا حتى عام 2018 حين غامر برحلة كبيرة نحو الشمال، وهو العجوز في آخر عقده التاسع، ليستقر في فرنسا منذ ذلك الوقت، بعد أن منحته حكومتها حق اللجوء.

لم يكن رياض الترك شخصية سياسية حزبية مؤطرة، بل كان رمزاً سورياً خالصاً، أخطأ وأصاب، حاول وفشل، واجه واعتقل، أجرى تقييماً واضحاً لسياسته وسياسة حزبه، ونقد تجربته كاملة، واعترف بأخطائه الكثيرة، مختلفاً بذلك عن كثير من أقرانه السياسيين، عاب عليه كثيرون أنه تحالف مع الإخوان المسلمين قبل الثورة وخلالها، ولكن كان للرجل رؤية تستند إلى حجة سياسية، فهم شركاء في الحياة السياسية، ولديهم حقهم بالتعبير، ليعود معتذراً عن ذلك، في موقف لا يجرؤ عليه قلة من السياسيين العاقلين.

موت رياض الترك فتح باباً للحديث عن تاريخ سوريا ومعارضتها للنظام، وعن أداء المعارضة السورية وانكساراتها، واليوم يرحل الختيار كما أتى لهذه الحياة، يتيماً في دار رعاية، ووحيداً في زنزانة، غريباً، الرجل الكهل صاحب البنية الضعيفة، كان صلبا كجبل قاسيون، وهو الذي قال عنه الراحل حكم البابا إن رياض الترك هو الوحيد من المعارضة السورية الذي أثق بأنه لن يصالح الأسد يوماً ما، وسيأتي يوم تكرمه سوريا كما يليق به بعيداً عن الدكتاتوريات وأصوات بعض الأقزام الحاقدة، فهو كما قال الشيخ إمام في أغنية غيفارا، مات المناضل المثال يا ميت خسارة ع الرجال.