الحراك الشعبي في العراق بعد مقتل سليماني

2020.01.09 | 16:57 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعله من المؤكد أن تداعيات مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ليلة الثالث من كانون الثاني الجاري، لن تكون بعيدة عن مشهد الحراك الشعبي في العراق، وتحديداً في الجنوب، والذي بدأ في بداية تشرين الأول من العام الفائت. إذ يمكن الإشارة إلى الإرهاصات الأولى لمواجهة محتملة، بل ربما أكيدة، بين المنتفضين على السلطة القائمة في بغداد، وميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من إيران. لقد بدأ تشييع أبو مهدي المهندس وسط حشود كبيرة يقودها الحشد الشعبي، مطالباً شباب الحراك المشاركة في التشييع، وسرعان ما أدى امتناع المتظاهرين عن المشاركة بمراسم التشييع إلى قيام ميليشيات الحشد بإطلاق الرصاص على المواطنين السلميين، في رسالة واضحة مؤدّاها اغتيال الوجه الحقيقي لانتفاضة العراقيين، من خلال استغلال المشاعر الدينية، بل الطائفية، واستثمارها في عملية إرغام المتظاهرين على الانزياح عن مطالبهم المشروعة والعودة إلى الخضوع لسلطة وتوجهات العصائب والمجموعات التابعة لإيران.

قد يبدو مقتل سليماني والمهندس فرصة مناسبة جداً – وفقاً لإيران – لأمرين اثنين، الأول هو إسكات الشارع المنتفض داخل إيران بحجة أن المواجهة الحقيقية مع الشيطان الأكبر قد بدأت، وليس ثمة مجال لأي مواجهة أخرى، والثاني هو نقل المواجهة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية إلى الساحة العراقية، وخاصة أن الكادر السلطوي في العراق ما يزال تحت السيطرة، وما يزال جاهزاً، لتنفيذ كامل إملاءات طهران، وما شهدته جلسة اجتماع مجلس النواب العراقي في الخامس من الشهر الجاري ينطوي على دلالات بالغة الوضوح، إذ صوّت المجتمعون على جملة من القرارات، لعل أبرزها

مجلس النواب العراقي بات أقرب إلى حوزة دينية، حين بدأ النواب اجتماعهم بوصلة من النواح والهتافات التي تمجّد سليماني، وكان من الممكن أن يتطور المشهد، فيتحول إلى (لطميّة) لا تنتهي

وجوب خروج القوات الأمريكية من العراق، كما اعتبر المجتمعون أن استهداف سليماني والمهندس هو اعتداء على سيادة الدولة العراقية. ولعله من الضروري جداً الإشارة إلى مجمل التهديدات المباشرة التي وجهتها عصائب أهل الحق، وميليشيات الحشد الشعبي إلى أعضاء البرلمان طالبةً منهم الامتثال التام بالتصويت الإيجابي على القرارات المشار إليها آنفاً.

واقع الحال يشير إلى أن مجلس النواب العراقي بات أقرب إلى حوزة دينية، حين بدأ النواب اجتماعهم بوصلة من النواح والهتافات التي تمجّد سليماني، وكان من الممكن أن يتطور المشهد، فيتحول إلى (لطميّة) لا تنتهي، إلى حين تسيل الدماء من الوجوه والنحور، تعبيراً عن ولاء سياسي بسحنة طائفية.

ولكن السؤال القديم الجديد، ما فتئ يعيد نفسه: هل ثمّة مواجهة بالفعل

المدعو (قاسم سليماني) الذي قتلته واشنطن، باعتباره بات أحد ركائز الإرهاب في المنطقة، هو ذاته من كان مهندساً وموزّعاً الأدوارَ لبيادق إيران السياسية في المنطقة الخضراء

بين طهران وواشنطن؟ وإن كان الجواب بنعم، فما طبيعة تلك المواجهة؟

لعله من المفيد، لبيان ما ينطوي عليه التساؤل، الوقوف عند مسألتين اثنتين:

  1. لئن كانت رغبة إيران في السيطرة على العراق، من خلال نهجها القائم على التمدّد والهيمنة ضمن استراتيجية (تصدير الثورة) قائمة منذ وصول الخميني إلى السلطة عام 1979، ولكنها لم تتمكن من تحقيق تلك الرغبة بسبب جدار الصدّ العراقي طيلة ثماني سنوات (1980 – 1988)، فإن ما يجب الإقرار به، والتذكير به على الدوام، هو أن إيران لم تتمكن من الحيازة على العراق – سياسياً واقتصاديا – إلّا بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 ، كما أن مجمل الحكومات الطائفية التي تعاقبت على الحكم في العراق فيما بعد الاحتلال، ومعظمها من تصنيع إيران، هي ذاتها قد جاءت محمولة على الدبابة الأمريكية وبمباركة إيرانية، وأن المدعو (قاسم سليماني) الذي قتلته واشنطن، باعتباره بات أحد ركائز الإرهاب في المنطقة، هو ذاته من كان مهندساً وموزّعاً الأدوارَ لبيادق إيران السياسية في المنطقة الخضراء، وعلى مرأى ومسمع كبار قادة الإدارة الأمريكية.
  2. على الرغم من ارتفاع حدّة الصخب والشجار الإعلامي بين نظام الملالي والإدارة الأمريكية منذ بداية الثمانينيات، إلّا أن العلاقة بين الطرفين لم تصل إلى درجة القطيعة، كما لم يؤدِ ارتفاع نبرة الشجار إلى درجة المواجهة، وحينما حصلت في ليلة الثالث من الشهر الجاري، فقد شاءت الإدارة الأمريكية أن تكون هذه المواجهة – كما هو مُتوقع -  خارج إيران، ثم جاء الردّ الإيراني من خلال استهداف قاعدة (عين الأسد) في الأنبار العراقية، ليؤكّد أن هذه المسرحية ذات الإخراج السيء إنما توحي بقوّة إلى استمرار حرص الولايات المتحدة الأمريكية على أن تبقى إيران مستمرّة في تأدية دور (البعبع) الذي يمكن أن يكون مصدر خطر على المنطقة كافة، وأن هذا الخطر ( الفزّاعة) يستوجب على الدوام حضور (اللاجم) الأميركي الذي لا يسعى سوى إلى ابتزاز دول المنطقة، واستنزافها اقتصادياً وبشرياً.

ما من شك في أن العلاقة الأمريكية – الإيرانية، القائمة على مبدأ تجاذب وتنابذ المصالح، مع الإبقاء على (شعرة معاوية) في الوقت ذاته، لها تداعياتها المباشرة على ما يجري في العراق من حراك شعبي رافض لما هو قائم، ومطالب باستعادة العراق لأبنائه، ولعلّ من أبرز هذه التداعيات انحسار كافة الأقنعة عن ماهية السلطات الرسمية في العراق، فعلى الرغم من ادعاءات العديد من الكيانات السلطوية في العراق، بما فيها مجلس النواب، والمرجعيات الدينية، وقوفَها إلى جانب المتظاهرين، إلى درجة التماهي مع مطالبهم، إلّا أن هذا الادعاء سرعان ما تبيّن زيفه، حين حوّل مقتلُ سليماني حكومة العراق وبرلمانه إلى جوقة تهتف لإيران مؤكدةً بوضوح ابتعادها، بل وقوفها على النقيض مما يطالب به المنتفضون من أهالي الجنوب العراقي.

الخيبة التي مُنيَ بها الحراك الشبابي في الجنوب بعد مقتل سليماني، تحيل إلى مواجهة ذات مستويين، مستوى مباشر يتجسّد بمقاومة الطبقة السياسية التي تجاوزت مفهوم الوطنية، وقبلت أن تمارس سلطتها وكالةً عن حاكم خارجي، ومستوى غير مباشر يتمثّل بمقاومة سلطة العمائم، باعتبارها المُشرِّع الفعلي للطغيان السياسي، الخارجي والداخلي معاً. لا شكّ أنها مواجهةٌ مُركّبة شديدة الوعورة، ولكن مما لا شكّ فيه أيضاً، أنها لن تقهر إرادة العراقيين.