icon
التغطية الحية

الحداثة وقبعة القوى الانفعالية

2022.09.12 | 10:54 دمشق

شضصسس
(لوحة: علي رضا درويش)
+A
حجم الخط
-A

لا خلاف على أن من بين أخطر ما واجهته مسيرة الحداثة، في تاريخ البشرية، هو سد القوى الانفعالية التي عملت، وما زالت تعمل، على اجهاض مشروعها المنتظر الاكتمال، وهو المشروع الذي يمثل الصيرورة التاريخية الطبيعية لحياة البشرية.

ومشروع الحداثة الذي أعقب الثورة الفرنسية والثورة الصناعية التي تلتها، يكون قد تأخر فعلاً، قياساً لعمر البشرية على كوكب الأرض، ودائماً بسبب توالد القوى الانفعالية، التي مثلت وما زالت تمثل وجه الحرب المعيق لمسيرة الحداثة، وعلى طوال تاريخ البشرية التطوري.

وبعيداً عن اشتراطات العملية التاريخية وحتمياتها الافتراضية، فإن الحداثة، كانت وما تزال تمثل الاشتراط الأول للوجود والمسيرة الإنسانية، كمطلب إشراقي – إزاحي لدورة الوجود الإنساني التي تمثل تاريخه الفاعل على كوكب الأرض، من حيث كون وجود الإنسان قائم على فعل الخلق والإبداع والتطور وليس على فعل الحياة القهري (الاستاتيكي)، كما ترى النظريات "المعبدية" (الصوفية، كما أطلق عليها الفرنسي غوستاف لوبون) وسدنتها.

على أن مسيرة الحداثة وخطها العقلاني طالما واجهت فعل نكوص ارتدادي مثلته القوى الانفعالية التي سعت إلى العودة بالإنسان إلى ما قبل الحداثة والبربرية، رغم سعي هذه القوى لطرح نفسها وفعلها تحت يافطات وقوالب نظرية محكمة البنود، كالدعوات القومية– العرقية والشيوعية والاشتراكية والنقاء العرقي والتفوق الثقافي... تلك الدعوات التي تطورت إلى جميع الأشكال العنصرية، والتي أفرزت النازية والفاشية ونظرية تفوق الأعراق في أوربا على وجه التخصيص، وإلى عهود قريبة، والتي كانت نتيجتها الحربين الأوربيتين، والتي عممها بعض الساسة العنصريين، في تلك الفترة، لتكونا حربين كونيتين، من أجل استخدام الشعوب الشرقية والأفريقية، غير المهمة أو الهامشية (غير النقية والمتفوقة) في تلك الحروب أو القتال بها بالنيابة عن جيوشها.

ورغم أن هذا لم يعنِ تراجع التيار العقلاني وحركة الحداثة في قارة أوروبا، إلا أنه أفرز فيها الكثير من أشكال الانكفاء الثقافي وعقدة التفوق والاستعلاء على باقي الشعوب، وهو العامل الذي يمكن تصنيفه تحت يافطة (ضد الحداثة أو البربرية) وخاصة في جانب حروبها الاستعمارية (الحكومات الأوروبية) وجهدها (الثقافي)، الذي انحصر لفترة طويلة تحت يافطة الاستشراق، وهو الجهد الذي مرر بعضه نظرية تفوق الرجل الأبيض وحقه في استعباد الآخر (غير الأوروبي) واحتقار ثقافته وتاريخه، بل ومحقهما، وأمثلة الدول التي استعمرت، من قبل إسبانيا وفرنسا وبريطانيا، في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية كثيرة وما زالت ماثلة، في الذاكرة والتاريخ الحديث وليس البعيد.

ولكن أمثلة القوى الانفعالية لم تقتصر على شعب من الشعوب أو قارة لوحدها طبعاً، بل إن أمثلتها خارج أوروبا كانت أنصع وأعنف، من حيث التمثل والفعل، وخاصة لدينا نحن العرب، إذ حولنا فكرة الحداثة واشتراطاتها البنيوية والتاريخية إلى سلسة من معارك الجدل العقيم حول جواز الأخذ بها من عدمه، تحت رهاب معارضتها للتراث أو تمثيلها لعملية نسف له وانسلاخ عن الجذور، وبالتالي تحول شرط الحداثة من شرط حياتي معرفي– عقلاني (من حيث اختلافه مع التراث)  إلى وحش أصولي جديد، وهو ما أدى إلى إنتاج نوع من الأصولية الجديدة، كما حدث عند محمد عابد الجابري، على سبيل المثال لا الحصر.

رغم أن الحداثة جاءت كثمرة للعقلانية الأوروبية، قبل نتاجها الحضاري الذي نعيشه، إلا أن القوى الانفعالية الشرقية مصرة على عدم الفصل بين تلك العقلانية والنتاج الصناعي

ومن الناحية الفكرية الصرف، لم تبنى قضية الحداثة العربية، كما حصل في الفكر الغربي بعمومه، على فكرة إنتاج معرفي– عقلاني حديث، يواكب اشتراطات تطور الحياة وبشكل طبيعي، باعتبار أن التطور أحد سنن الحياة، بل زجت القضية في جدل جانبي خلق الشكوك حول هدفها وجوازه من عدمه، ولهذا، وبدل أن تنصرف جهود المفكرين الذين تصدوا للقضية لبناء المفاهيم وتأسيس الأرضية والقواعد الفكرية، تبعثرت جهودهم في الدفاع عن مبدأ الفكرة من جانب، وعلى محاولات إيجاد التوافقات لها مع التراث القديم، أو الأصولية القديمة، إذا شئنا الدقة. تلك الأصولية التي أنتجت لها الأوضاع السياسية المختلة (منتصف خمسينيات القرن العشرين، أو كما تسمى في السردية السياسية وأدبياتها بمرحلة التحرر من سيطرة الاستعمار)، أجيالاً جديدة من القوى الانفعالية، قومية واشتراكية (متأثرة بطروحات وتجربة المعسكر الشيوعي) وراديكاليات عقائدية، تاريخية   ومحلية (جغرافية– قطرية) وأصولية دينية، عمدت إلى معاداة قضية الحداثة ورفضها من الأساس، باعتبارها تمثل مساساً وعملية سلخ للهوية الوطنية والبنى الثقافية والعقائدية الموروثة والتي تشكل الهوية الأساسية للإنسان العربي، بحسب أصحاب هذه الرؤية.

والجدير بالذكر هنا هو أن حتى المحاولات الجريئة التي سعت إلى طرح أو تأسيس قواعد وبنى مفاهيم لمشروع الحداثة، قد سحبت –من قبل بعض المفكرين التوفيقيين- إلى أنفاق ضيقة من التغطية والتعمية، خوفاً من سلطة الأصولية وسيفها المشرع والمحمي بقوة السلطة السياسية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المفاهيم والرؤى التي تم طرحها أو تقعيدها، لم تكن نتاج معرفية وفلسفة عربية خالصة، بل كانت نسخاً معدلة (كي لا أقول مشوهة) لطروحات غربية، سوقها أصحابها، من المفكرين الغربيين على إنها مناسبة للوضع والعقل العربيين، رغم أننا لن نكون متعسفين في هذا الجانب وننسى أن العقل العربي ما زال يعاني من هيمنة جائرة للتراث، بل ويكاد يسيطر عليه سيطرة شبه تامة.

المشكلة البنيوية التالية التي واجهت العرب في قبول فكرة الحداثة كانت تتمثل في عدم بناء العقل العربي على قواعد النقد التفكيكي. فالعقل العربي، وبحكم رهبته أمام سيطرة التراث عليه، وقمعه وقمع جهده الفلسفي من قبل القوى الانفعالية الحارسة لهذا التراث، ظل عقلاً نقلياً، ولهذا فهو أنفق جهده على المصالحة (الجائرة) مع التراث بدل تقليبه وتفكيكه نقدياً والتخلص مما لا يواكب روح الحداثة والعصر منه بصورة قاطعة ونهائية، وخاصة ما يقع من هذا التراث في دائرة اللامفكر فيه والمعرفة التاريخية المقدسة، إذا جاز لنا هذا التوصيف.

ولعلي لا أكون متعسفاً إذا ما قلت إن ما يجب أن يعرض على النقد (التفكيكي)، ضمن إطار ما نطلق عليه المعرفة التاريخية، هو إعادة النظر ونقد الإنسان والعقل العربيين لعلاقاته القديمة بالمقدس وطريقة فهمه له والحدود التي يجب أن يمارس دوره فيها، في حياته العامة (المجموع الاجتماعي) وعقول النخب الفكرية والثقافية، هذه النخب "المُرتَهِبة" والمفزوعة من سلطة القوى الانفعالية، على طول تاريخها.

ورغم أن الحداثة جاءت كثمرة للعقلانية الأوروبية، قبل نتاجها الحضاري الذي نعيشه، إلا أن القوى الانفعالية الشرقية (العربي منها على وجه الخصوص وفي جانبه الصوفي أو الأصولي) مصرة على عدم الفصل بين تلك العقلانية والنتاج الصناعي والنظر إليهما ككل واحد ومهاجمته في جانبيه الإنتاجي والسياسي، وما نتج عن هذين الجانبين من حروب واستعمارات قهرية وإنتاج للأسلحة المدمرة. إضافة، وربما قبلها، إلى ما رافق العقلانية الأوروبية ونتاجها الحضاري من عملية انفتاح قيمي وسلوكي، على صعيد نظم القيم الأخلاقية والسلوكية والحياة الاجتماعية وطرق العيش المختلفة مع العادات ونظم العيش العربية، وهو اجتزاء مُخل يُخرج مسيرة الحداثة من سياقها ويحشرها في زاوية رؤية غير منصفة. إضافة إلى قصر نظر هذه القوى عن إدراك أن ليس كل ما يختلف مع التراث والموروث الاجتماعي هو بمثابة حرب مبيته على نظام القيم والعقائد، بل هو مجرد اختلاف في الرؤية ورصيدها الثقافي والحضاري ونظم وقواعد التفكير، الناتجة عنهما.

هل أستطيع أن أقول في الختام، إن مشكلة العقل العربي مع الحداثة، بل ومع أي شكل من أشكال تطور الأفكار وسبل التحديث فيها، من الأساس، قائمة في جانب أن العقل العربي هو عاطفي أكثر مما هو عقلاني؟

وكم سيغضب هذا الكلام من القوى الانفعالية، بشقيها السياسي و(الصوفي)؟