الجوكر كقائد جديد للثورات...

2019.11.29 | 17:41 دمشق

580_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن من المستغرب مطلقاً أن يرتدي المحتجون والمتظاهرون في شوارع بغداد وبيروت وطهران وتشيلي وهونغ كونغ أقنعة رمزية، لشخصيات من أعمال فنية باتت ذات مرجعية عالمية، وتحمل دلالات واضحة وجذرية على رفض النظام العالمي برمته.

فالثورة كما طرحت في فيلم الجوكر على سبيل المثال هي ثورة ضد نظام يتحكم فيه الأغنياء برقاب الفقراء ويستغلونهم لا وبل يزيدون من فقرهم وعذابهم عن سبق إصرار وتصميم ، سواء كان هؤلاء الأغنياء يسكنون في نيويورك في الجادة الخامسة أم في المنطقة الخضراء في بغداد أم في دمشق أو طهران أو بيروت، الظلم الاجتماعي هو ذاته والصراع الطبقي ضمن هذه التركيبة، محتوم ولا مناص منه، فكل نظام سياسي يعتمد على بنية رأسمالية جشعة غير تنافسية، مبنية على الاحتكار والفساد السياسي المتزاوج مع الفساد الاقتصادي ، لا بد أن تنتج خراباً اقتصادياً وقمعاً للحريات واستغلال وقمع وفساد إلى آخر ما هنالك من صفات المجتمعات المنتفخة الجاهزة للانفجار الذي ستحدثه الثورة.

ولكن الغريب في الأمر أن الثورات التي اندلعت في حواضرنا العربية وطهران وهونغ كونغ على سبيل المثال، لم تتخذ شكل تظاهرات مسترخية واحتجاجات شعبية مهما كان حجمها الجماهيري كما هو الحال في أوروبا مثلاً، بل على الفور اتخذت شكلاً فوضوياً عبثياً لا يحمل صيغة مطلبية بعينها، أو هدف إسقاط حكومة أو تغيير رئيس كما يتمنى حكام البلدان الثائرة، بل اتخذت تلك المظاهرات شكل مطرقة هادمة

ارتدى المتظاهرون أقنعة الجوكر وسلفادور دالي، الجوكر الذي رسم في أذهان الرأسمالية الأميركية على أنه البطل الشرير (الأنتي هيرو)

تريد نسف كل ما رفع من أبراج للفساد والإفساد والخلل السياسي، مظاهرات تريد محو كل ما بني على باطل لأنه باطل، أي أنها تريد نسف الاتفاقات الطائفية والمحاصصات العشائرية والتوازنات الدينية والتوزيعات المالية فيما بين المتحاصصين، ناسين ومتناسيين بشكل كامل ما يريده الشعب وما يحتاجه الناس، لبناء نظام جديد أكثر عدالة يكونون مشاركين فيه ولو بالقليل. من أجل ذلك ارتدى المتظاهرون أقنعة الجوكر وسلفادور دالي، الجوكر الذي رسم في أذهان الرأسمالية الأميركية على أنه البطل الشرير (الأنتي هيرو) الذي يعيث في المدن فساداً ولا يريد سوى القتل والنهب والتخريب، بينما خصمه الأبيض سليل الطبقة المتحكمة بالسلطة والسياسة والأحزاب ورأس المال بات مان هو من يحاربه وينتصر عليه على الدوام ..البات مان الذي صور للجماهير أنه  يسكن المنطقة الخضراء ربما، أو هو عضو في مجلس النواب اللبناني، أو ينتمي لطبقة سياسية حاكمة ومتحكمة بشركات الاتصالات والاقتصاد السوري، أو أي ممن يروج لهم الإعلام العربي والإقليمي عموماً.

من هنا تتخذ قصة فيلم الجوكر معنى سياسياً غاية في الأهمية، حينما يصبح حدث الفيلم متمحوراً حول كيف تحول الرجل الطيب من إنسان بسيط مسحوق مقموع ومهمش، حاول مراراً وعبر نصف قرن من الإبعاد والتهميش والتنمر والإذلال أن يرفع صوته في وجه مستغليه ولكن دون نتيجة، إلى قاتل ومجرم مهووس، ببساطة لأنه رفض القمع ورفض سياسة الأمر الواقع ورفض سياسة تقاسم المال والسلطة بين الطبقة الحاكمة والمتحكمة بالبلاد، ويصبح بات مان مجرد شبيح صغير، مسنود ومدعوم من الطبقة السياسية والحزبية والاجتماعية والأهم من ذلك الطبقة الإعلامية، التي روجت له على أنه بطل عظيم، وابن الشعب البار، ونصير الفقراء والمظلومين والساهر على حماية الشعب البسيط، وهي شعارات نسمعها وسمعناها في شوارع بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد وطهران في منطقتنا ..لتكون المعادلة هي: الابتسامة المدماة في مواجهة وطاويط السلطة المختفين خلف بنية الدولة المتهالكة.

ليقلب الفيلم وجهة النظر والطاولة حتى يصبح المشهد في غاية الرعب والدهشة، حينما نكتشف ربما أن من ظننا أنهم أبطال ومخلصون ليسوا سوى قتلة ومجرمين ولكن ملمعين إعلامياً واجتماعيا واقتصاديا، والأسوأ أن تلك الخديعة من الممكن

هي حكاية المهمشين الذين اتهموا طويلاً بالإرهاب والجهالة والفقر والبطالة وألصقت بهم صفات سكان مدن الصفيح والعاطلين عن العمل

أن تستمر لسنوات طوال جداً، وتنطلي على مئات الملايين حتى يأتي من يقترح رواية جديدة للحدث كما فعل تود فيليبس في فيم الجوكر. والتقطها جيل الألفية الشاب بذكاء وألمعية عصرية، ليشعلوا شوارع مدنهم فوضوياً، رغبة منهم في كشف الأقنعة عن باتماناتهم وكشف حقيقتهم..

هي حكاية المهمشين الذين اتهموا طويلاً بالإرهاب والجهالة والفقر والبطالة وألصقت بهم صفات سكان مدن الصفيح والعاطلين عن العمل.. هي صرختهم كي يقولوا لسنا من فعل ذلك، وإنما أنتم أيها المتحكمون بالسلطات من فعلتم بنا ما فعلتم .. وستكون الصرخة عالية جداً وباكية وربما دامية ولكن من خلف قناع مبتسم وملون، هو قناع الجوكر الساخر من هذا العالم القذر..