الجريمة ضد اللاجئين السوريين تخلق معجزة الإجماع اللبناني

2024.05.31 | 05:39 دمشق

آخر تحديث: 31.05.2024 | 05:39 دمشق

c9371a59-677e-4790-9c38-515e368efa21.jpg
+A
حجم الخط
-A

في بلد لم يسبق أن تحقق فيه توافق على أي عنوان مهما كان ضئيلا، ولم ينجح في إصدار كتاب تاريخ موحد، ولا تزال وقائعه القريبة والبعيدة والجارية تدخل في غياهب التأويل والخلاف الحاد، تحدث من -دون سابق إنذار- المعجزة الفريدة ويتحقق الإجماع الذي طالما كان مستحيلا، تحت عنوان الرغبة اللبنانية العامة في تسليم اللاجئين السوريين إلى قبضة جلادهم الأسدي.

تقول 27 دولة أوروبية إن الظروف الأمنية والسياسية لا تصلح حالياً لعودة اللاجئين السوريين، ولكن الدول المستضيفة والتي كانت عموماً مشاركة في إنتاج الأزمة، وحصلت على جملة من المكاسب السياسية والاقتصادية مقابل استضافة اللاجئين، اكتشفت فجأة أن المسألة لم تعد مجزية.

في ظل المشهد الإقليمي الذي تضيق بلاده ذرعاً باللجوء السوري لأسباب تتصل ببناء السلطات وتركيبها، يحتل لبنان موقعاً متمايزاً لناحية تطوير شبكة تضييق وكراهية وعنصرية وتنكيل أمني ضد اللاجئين بالتوازي مع بروز تقارير تفيد بأن "حزب الله" قد تحوّل في سوريا إلى قوة احتلال وتغيير ديمغرافي ولم يعد مجرد ميليشيا مساندة.

الدفع العام في اتجاه طرد السوريين لا يهدف إلى إعادتهم إلى مناطقهم الأصلية، بل إلى اكتمال التغيير الديموغرافي والتهجيري، وتأمين حشر السوريين في مناطق محدّدة تفتقد للموارد وسبل العيش وتحويلهم إلى لاجئين داخليين..

بيانات وخرائط عديدة نشرت مؤخراً، تكشف حجم "انفلاشه" الكارثي في الجغرافيا السورية و-خصوصاً- تلك التي ينحدر منها قسم كبير من اللاجئين السوريين في لبنان.

من هنا نفهم أن الدفع العام في اتجاه طرد السوريين لا يهدف إلى إعادتهم إلى مناطقهم الأصلية، بل إلى اكتمال التغيير الديموغرافي والتهجيري، وتأمين حشر السوريين في مناطق محدّدة تفتقد للموارد وسبل العيش وتحويلهم إلى لاجئين داخليين، يقبض النظام ثمن حجزهم ومنعهم من الفرار نحو دول المنطقة وأوروبا.

يُشيطَن اللاجئ وتستخدم هذه الشيطنة في سبيل تأمين رافعة للنظام الأسدي للخروج من نفق العقوبات الدولية المفروضة عليه وعلى رأسها قانون قيصر، الذي يجرّم التعاون والتعامل معه.

يُستخدم اللجوء كعنوان تفاوض وضغط ويتم توظيفه في سياقات اللعب على التباين في الآراء بين الأوروبيين الذين تشهد مواقفهم المصرّة على رفض التطبيع مع الأسد تراخياً لافتاً، والعرب الذين قرّروا الانفتاح عليه وتعويمه وغسله وإعادة إنتاجه وشرعنته، والأميركيين الذين يصرّون على تمكين العقوبات عليه وإدانة أي تعامل معه لأسباب لا تتصل بالأخلاق والإنسانية، بل ترتبط بتصنيفات الأمن القومي والصراع مع الروس والصينيين.

تعميم الموقف السلبي من اللجوء وتكريسه كقضية لبنانية وطنية شاملة وعابرة للطوائف والحساسيات الحزبية والخلافات ينطوي على أبعاد خطيرة في دلالاتها ومرجعياتها، قياساً على ما يجري من نزوع عمومي غالب لم يعد معه ممكناً التمييز بين حسن نصر الله وجمهوره وبين مواقف سمير جعجع وجبران باسيل وجماهيرهما.

توظيف قضية اللجوء السوري في لبنان تشي بتمكّن خطاب "حزب الله" من الحلول في الخطابين الرسمي والشعبي كمصدر ومرجع، ذلك الربط بين الحزب والمواقف اللبنانية العامة من اللجوء وتوحيدهما يحوّل المواقف المتوقّعة إلى جزء من كتلة الصراعات التي يخوضها الحزب في كل الميادين، وتنطبق عليها تالياً الأحكام والمواقف التي تطبع علاقات الحزب بالمحيطين العربي والدولي.

وبينما تطمح القوى اللبنانية من وراء مواقفها ضد اللجوء إلى انتزاع مكاسب ضيقة في طموحاتها وخيالاتها، فإنّ المشروع الصلب الذي يدفع الحزب في اتجاهه يتجلّى في إعادة وصل نفسه بالنظامين العربي والدولي من بوابة تحقيق رفع العقوبات عن نظام الأسد، وتكريس نفسه كقابض على مسألة اللجوء ومفاوض باسمها.

يضاف إلى ذلك استفادته من تباين المواقف الأميركية والإسرائيلية من حرب المساندة التي يخوضها تضامناً مع غزة وفلسطين، حيث تنشط دوائر التفاوض الخلفية الأميركية الإيرانية في محاولة إنشاء نظام ضبط لا يجد مشكلة في وضع لبنان تحت وصايته ضمن شبكة ترتيبات أمنية وإدارية لا تقبل بها إسرائيل، ولكنها تعجز -حتى هذه اللحظة- من الدفع بالأميركيين إلى تغيير سياساتهم في هذا الصدد.

مسألة اللجوء السوري تشكل في هذا المقام جزءاً أساسياً من استراتيجية "حزب الله" الهجومية التي تصيب عدة أهداف في آن واحد، في ظل الانفتاح العربي على "الأسد"، ونشوء منظومة ضبط وتفاهم وربط للنزاعات بين دول الخليج وإيران وصراع على النفوذ بين "الأسد" وإيران في الداخل السوري، ما سيسفر -في نهاية المطاف- عن تحديد للنفوذ لن يصب لمصلحة إيران مع ميل روسيا إلى تقزيم دورها.

ولا شك أن استقرار الأمور في لبنان غير ممكن من دون رافعة عربية وخليجية ما يفترض أنّ على الحزب إذا ما تم الإقرار له بالسلطة على لبنان أن ينشئ تفاهمات مع هذه الدول، وهو أمر يرجح أن ينسحب على الإطار العام للتوافقات العربية الإيرانية والتي تعكس لامبالاة عربية عامة بأحوال لبنان وسوريا في مقابل السعي لتمكين السلطات الداخلية، وتطوير شبكات الأمن والاقتصاد بمعزل عن سلاسل الأزمات القائمة في هذين البلدين.

استعمال كتلة بشرية تضم ملايين الناس، وقوداً لمشروع هيمنة وسيطرة ووضعها بين إرهاب الإعادة القسرية إلى جلادها وإخضاعها لحملات كراهية وعنصرية ممنهجة وسطوة أمنية مهينة في لبنان وغيره من بلاد اللجوء، يعني التأسيس المنهجي للمستقبل على الجريمة

ترسم ملامح هذه المشاريع عبر قوة أطرافها ونفوذهم وشبكات علاقاتهم ومصالحهم ولكن القاسم المشترك الذي يجمع بينها، يتمثل في الاستخفاف التام بالدماء ومصائر الشعوب.

استعمال كتلة بشرية تضم ملايين الناس، وقوداً لمشروع هيمنة وسيطرة ووضعها بين إرهاب الإعادة القسرية إلى جلادها وإخضاعها لحملات كراهية وعنصرية ممنهجة وسطوة أمنية مهينة في لبنان وغيره من بلاد اللجوء، يعني التأسيس المنهجي للمستقبل على الجريمة.

يعتقد الإجماع اللبناني أنه من الممكن إعادة إنتاج السلطة المتهالكة وتقاسمها بالتأسيس على شرعنة الجريمة ضد اللاجئين السوريين، ولكن ما لا يفهمه أرباب هذا النظام أن ذلك المسعى الدولي والعربي إلى تسليم البلاد لسلطة الحزب وتأمين الحد الأدنى من شروط العيش متلازم مع ترويضه وسلبه الوزن والقيمة والتأثير.. وضع لبنان تحت حكم "حزب الله" ونظام الأسد، انعكاس لقيمته في العالم وإظهار لملامح ومعاني معجزة الإجماع حول الجريمة.