التوعية السياسية خارج إطار الدولة

2023.02.02 | 07:16 دمشق

التوعية السياسية خارج إطار الدولة
+A
حجم الخط
-A

منذ اندلاع الثورتين الأميركية والفرنسية حتى يومنا هذا مازال دور وأهمية الرأي العام ومواقف واتجاهات الجماهير في تعاظم مستمر، وهو ما حدا بالأنظمة السياسية -على اختلاف مشاربها- للاهتمام بالرأي العام الداخلي والخارجي لضمان استقرارها، ومع التقدم المذهل في وسائل الاتصال الجماهيري طورت الأنظمة السياسية أساليبها الدعائية والإعلامية في محاولة للتحكم باتجاهات الجماهير وميولها.

في يومنا هذا يتحدث البعض عن اغتصاب العقل، وهندسة الجمهور، وعن غسيل الأدمغة. وحسب "نعوم تشومسكي": "بفضل علوم الأحياء والأعصاب وعلم النفس التطبيقي، تمكن النظام من معرفة الكائن البشري جسديا ونفسيا، فالنظام يستطيع معرفة الشخص العادي بشكل أفضل مما يعرف هو نفسُه". ورغم ادعاء البعض أن مثل هذه الطروحات فيها الكثير من المبالغة، إلا أنه في الوقت ذاته لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الحاسم الذي تلعبه السلطة في التأثير على معتقدات وتوجهات العامة، فالمواطن في عصرنا الراهن يقع تحت الهيمنة الكاملة للأيديولوجيا السائدة في النظام السياسي، فالطبقة الحاكمة تسعى من خلال الوسائل التي تمتلكها إلى التأثير في مواقف مواطنيها على نحو تتوخى منه تحقيق أهداف الخط السياسي الذي تتبناه.

تعد المحافظة على أنماط التفكير والمعتقدات والممارسات السلوكية الموروثة عن نظام الاستبداد الذي ثار عليه السوريون أحد أهم أسباب التعثر الذي رافق ثورتهم

مع الزمن، ومن خلال الضغط المستمر للبروباغندا المدروسة بعناية شديدة؛ يصبح لدى أفراد المجتمع مخزون وفير من المعلومات التي تمتاز بنوع من الثبات والقدسية، يستخدمونها كمقدمات صادقة يقينية عند مقاربتهم لأي قضية تعترضهم، فتتشابه أنماط التفكير والخرائط الإدراكية لدى المجتمع مشكلة جزءا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع وعاداته. ورغم أن لمثل هذا التشابه الكثير من الجوانب الإيجابية؛ كـتوفير إحساس بالهوية والانتماء، وتعزيز التماسك الاجتماعي، فإن المحافظة على أنماط التفكير والمعتقدات السائدة تصبح وسيلة للانتحار الجماعي في الحالات التي يكون فيها المجتمع بأمس الحاجة للتغيير. فعلى سبيل المثال: تعد المحافظة على أنماط التفكير والمعتقدات والممارسات السلوكية الموروثة عن نظام الاستبداد الذي ثار عليه السوريون أحد أهم أسباب التعثر الذي رافق ثورتهم.

قد لا تحتاج الفرضية القائلة: إن النخب السورية حافظت على أنماط التفكير والمعتقدات والممارسات السلوكية الموروثة عن نظام الاستبداد إلى البرهان، حيث أصبحت قضية واضحة للعيان، والاتهامات الموجهة لهم بهذا الشأن أصبحت مكرورة ترددها الألسن كل يوم، كما أن اعتبار هذه الظاهرة حالة طبيعية لا يحتاج لبرهان، خاصة أن الثورة السورية كما هي ثورات الربيع العربي انطلقت على حين غرة معبرة عن رفض الظلم والفساد الذي يرافق الاستبداد. أي انطلقت دون أن تسبقها أفكار تنويرية تمهد لها، فمقاومة التغيير ظاهرة ملاصقة للطبيعة الإنسانية. كل هذا لا يحتاج لبرهان، لكنه يشير إلى ظاهرة مدمرة ومعضلة حقيقية تحتاج إلى حل.

مبكرا لاحظ السوريون وغيرهم ذلك الخلل الجسيم، وتحدث الكثيرون عما سموه بالتصحر السياسي، فالنظام السوري عطل الحياة السياسية في البلاد وجعل التعاطي بالشأن السياسي من أعظم المحرمات. لذلك ارتأى البعض أن التوعية السياسية هي الحل؛ فانبرى كثيرون أفرادا ومنظمات مجتمع مدني للتصدي لهذه المهمة؛ فكانت النتيجة أن انتقلت الأفكار وطرائق معالجة المعلومة إلى الأجيال الجديدة بطريقة أسرع، أو على حد تعبير مالك بن نبي انتقلت الجراثيم الناقلة للأمراض الاجتماعية بشكل أسرع، ذلك لأن من يشرفون على هذا النوع من الأنشطة -في غالبيتهم- ضحايا عملية التشويه المعرفي والإدراكي التي مارسها النظام السوري طوال سنوات حكمه، فتراهم يقدمون المادة العلمية بطريقة مشوهة بعد أن تعبر المصافي الثقافية خاصتهم، وبعد أن تُنتقى بناء على تحيزاتهم المعرفية.

بكل تأكيد، لم يكن هدف هؤلاء تخريب عقول الشباب وجرثمتها بأفكار ومعلومات وطرائق تفكير موروثة عن نظام الاستبداد، وإنما كان هدفهم الإصلاح. لكن المشكلة أن قضية التنشئة السياسية أخطر وأشد تعقيدا مما نتوقع ويتوقعون؛ إذ لا يوجد نموذج محدد لمعلومات وأفكار وقيم ينتج عنها وعي سياسي، فالوعي السياسي مفهوم نسبي. وبمعنى آخر، لكل دولة أو جماعة من البشر ما يناسبها من القيم والمعتقدات التي تعبر عن وعيها السياسي، فعلى سبيل المثال: ترى النخب الحاكمة في الدول الغربية أن الوعي السياسي يتمثل بإيمان الشعب بالقيم الليبرالية، بينما يعتقد الاشتراكيون أن تبني القيم التي يقوم عليها النظام الاشتراكي هو الوعي السياسي. بهذا المعنى: إن ما يحتاجه السوريون هو تنشئة سياسية تغرس في نفوس السوريين قيم الحرية والكرامة، وقيم الديمقراطية التي تناسبهم. وهذا العمل لا يمكن الشروع به قبل إجراء مراجعة عامة لكل المقولات والمعلومات والأفكار الموروثة عن عهد الاستبداد، فهل تلك المعلومات التي يستخدمونها كمقدمات صادقة يقينية عند مقاربتهم لأي قضية تعترضهم هي معلومات صادقة أم متوهمة أسبغ عليها الزمن تلك الصفات المقدسة.

إن صحت مقولات السوريين في الثروات والأطماع والمؤامرات والتحالفات الخفية؛ فلا شك أن مقولة إننا مجرد بيادق يحركها الآخرون صحيحة

أسئلة كثيرة يجب أن تسأل وأن يجاب عنها بكل وضوح كمقدمة لاضمحلال الحقيقة؛ أسئلة حول الثروات والأطماع الاستعمارية، وحول المؤامرات الكونية، وحول التحالفات والعداوات، وحول النفوذ ومدى النفوذ. ولعل أهم تلك الأسئلة: هل نحن مجرد بيادق حركتها القوى الاستعمارية من أجل تحقيق أهدافها؟! لأنه إن صحت مقولات السوريين في الثروات والأطماع والمؤامرات والتحالفات الخفية؛ فلا شك أن مقولة إننا مجرد بيادق يحركها الآخرون صحيحة.

منذ زمن بعيد اعتقد الفيلسوف الألماني "هيغل" "أن المجتمع المدني لا يمكن أن يولد أو يتطور إلا في دولة وبواسطتها ". كذلك الأمر لمعظم الأنشطة المجتمعية؛ فهي خارج إطار الدولة إن لم تكن مؤذية سيكون إنتاجها في حده الأدنى، ويُعتقد أن مهمة التنشئة السياسية لا يمكن إنجازها بجهود الأفراد. من هنا، فأهم ما يمكن أن يقوم به الفرد في مجال التوعية السياسية هو التوعية بأهمية وجود السلطة التي تعطي للجماعات الإنسانية شكلها الطبيعي، والتي تستطيع أن تقدم برنامجا متكاملا يشرف عليه مختصون لتنشئة الأجيال تنشئة سياسية تتناسب والشعارات التي رفعها السوريون خلال ثورتهم.