icon
التغطية الحية

التنمية البشرية.. خريطة للوصول إلى السعادة أم دهليز للضياع؟

2022.08.14 | 09:42 دمشق

بشرية
+A
حجم الخط
-A

الإنسان كائن محكوم بنفسه قبل كل شيء، نفسه التي هي مصدر الخير والشر، وهي النافذة التي تعبر منها نسائم السعادة إليه، كما تعبر عواصف التعاسة أيضًا. هذا ما أكدته كثير من النظريات النفسية وحتى الأديان التي تُعتبر موجهًا لحياة وآخرة أمثل. في المقابل نجد بعض النظريات التي تؤكد اكتساب الإنسان طاقته من المحيط، أي من خارجه، فلكل شيء في هذا الكون طاقة، الإنسان والطبيعة والكواكب، وما علينا إلا فهم كيفية اقتناص الطاقة الإيجابية من كل ما ذُكر والحصول بعدها على السعادة.

وكبشر، نحن مولعون بسلوك كل الدروب المتاحة في رحلة بحثنا الدائمة عن مفهوم السعادة أو السعادة المادية، إن كانت خارجنا أو حتى تلك القابعة في دواخلنا والتي لم يتعرف معظمنا عليها بعد. ومن هنا وجدت السوق طريقها إلينا، فهطلت كتب ومحاضرات وبرامج، تدّعي أن مفتاح الحياة الأفضل هو في يدها، وببساطة ستمنحنا إياه…

وبما أننا نعيش الآن نمط حياة مستفز يدفعنا دائمًا نحو تحقيق الأفضل، فوسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، تحثنا في كل لحظة وما بين تحريك إصبع وآخر على أن نمتلك أجسادًا رياضية، وأدوات حديثة، وسيارات وثيابا وطعاما وعلى قضاء إجازات في أماكن جميلة، كما أن الإعلانات تلعب دورًا مهمًا في زعزعة فكرة الاكتفاء بما هو متوفر، وأشياء كثيرة تحفز النفس على الوصول للأفضل، هذا يدخلنا في دوامة من اليأس كوننا غير قادرين على الوصول إلى كل ما نرغب فيه والذي يتجدد بشكل سريع ومتواصل؛ لنجد أنفسنا في دائرة المأزق النفسي التي نظن أن مفتاح الخروج منها في يد المختصين.. وهنا يأتي دور هؤلاء المختصين؛ فبعضهم ينصحنا باللامبالاة وآخرون يحثوننا على السعي، ومثلهم ينادون علينا بفهم تركيباتنا النفسية، وبعضهم عزوا الأسباب للجسد... ونحن، بكامل الشغف نطارد هذه التعويذات، وندخل بملء إرادتنا إلى الأفعوانية، متخلّين عن مفاهيم كثيرة في حياتنا، والتي نادى بها أبيقور، فهدوء البال يتحقق بالحد من الرغبات، والحاجات، والبساطة، والاعتدال في العيش.

  يغلب الظن على كثير من المتلقين أن مواد التنمية هي مواد سحرية فيضعون كل ثقتهم فيها وكأنهم وبمجرد اطلاعهم عليها ستتغير حياتهم وستحل مشكلاتهم

في الدرجة الأولى، يُعد علم التنمية مادة غربية طُرحت لمتلقٍ غربي، غير أنها تسللت إلى الثقافة العربية مع الدكتور إبراهيم الفقي والذي يُعد أول من أدخل علوم التنمية البشرية إلى العالم العربي، ثم تبعه كثيرون من أمثال سلطان العصيمي، وطارق سويدان، ومها الخمشي، لم يحتج الأمر إلا لألقاب رنانة ومهارة عالية في التسويق ليقتنع المتلقي العربي بأصالة وجدوى ما يطرحه "المدربون" العرب المؤهلون لتسليمه مفاتيح النجاح والعبور به نحو القمة. 

وإن اعتبرنا تلك المواد عبارة عن سلع، وأن المتلقي "مستهلك"، فإن في طرح السلعة المتناقضة بعضها مع بعض -كما ذكرنا سابقا- وبعناوين مغرية؛ تعميق للمشكلة لدى المتلقي وإحالته إلى خيارات مشتتة، وهذه السلع تختلف بشكل جذري عن أية سلعة أخرى، فإذا أردت شراء هاتف جديد مثلًا فهناك مئات بل آلاف الخيارات إلا أن جميعها في النهاية يعتمد على ما تملكه من ثمن، أما في مواد التنمية البشرية فأنت أمام آلاف الخيارات بمقابل مادي متقارب لكن المضمون قد يختلف جذريًا أو لنقل بشكل أدق، الطريقة التي سيرشدك فيها إلى ما تريده مختلفة كليًا بين مادة وأخرى.

  ومن جانب آخر يغلب الظن على كثير من المتلقين أن مواد التنمية هي مواد سحرية، فيضعون كل ثقتهم فيها، وكأنهم وبمجرد اطلاعهم عليها ستتغير حياتهم وستحل مشكلاتهم، وفي هذا الشأن يأخذون من المواد جانبها التحفيزي فقط متجاهلين الجانب التطبيقي "العملي"، لكن في الحقيقة يحتاج النجاح في التغيير من خلالها إلى فهم معمق للحالة وللمادة المطروحة وكيفية الاستفادة منها بما يتناسب مع المشكلة أو الحالة المراد تغييرها، وإلا فسيكون الفشل هو النتيجة. الفشل الذي سيحوّل المتلقي الذي حاول حل مآزقه من خلال هذه المواد إلى شخص ناقم على حياته وأسلوبه في العيش.

وفي معظمها تعتمد مواد التنمية وتطوير الذات على مجموعة من الجمل الإنشائية التحفيزية، ثم على قصص لتجارب نجحت في الوصول إلى مبتغاها، وذلك لإقناع المتلقي أن ما بين يديه من مادة لا تقدَّر بثمن وستكون الحل الأمثل لجميع مشكلات الحياة. فعلى سبيل المثال يقول نواه سانت جون عن كتابه الشفرة السرية للنجاح:

"في هذا الكتاب سنكسر بعض الحواجز ونتخطى حدود الممنوع في أفكار مساعدة الذات، أعي تمامًا أن بعض أساليبي قد تبدو غريبة للوهلة الأولى. هذا هو بيت القصيد! إن كنتَ قد حصلتَ بالفعل على كل شيء أردتَه فلن تحتاج إلى كتاب آخر يدلّك على طريقة للحصول عليه، أليس كذلك؟".

عدا ذلك كله وتأكيدًا على أن مواد التنمية ليست سوى سلع، ومنتجوها لا يبتغون سوى الربح، فحين يطرح أحدهم عشرا أو اثنتي عشرة قاعدة لحياة أفضل أو للثقة بالنفس لا يراعي في طرحه الاختلاف بين شخص وآخر وبين تركيبة نفسية وطريقة تفكير وأخرى، فيقدّم قواعده على أنها قابلة للتطبيق من قِبل جميع البشر بمختلف ثقافاتهم ومستوياتهم الفكرية..

 وأخيرًا لا ننفي بشكل قاطع إمكانية مواد التنمية البشرية في التغيير، فهي من جانب ما وُضعت بناءً على دراسات للنفس البشرية، ومن جوانب أخرى اعتمدت على الوصول إلى النقاط الضعيفة في النفس والعبور منها؛ لتتخذ الإقناع سبيلًا للبيع، وقد تلامس في بعض الأحيان موطن المشكلة ومعالجتها، لكن ما نجح من هذه الحالات لا يضاهي قطعًا درجة وصول هذه المواد ودرجة الترويج الذي وصلت إليه وخصوصًا في وقتنا الحاضر.