icon
التغطية الحية

"التغريبة السورية".. توثيق آخر للثورة وللحرب على السوريين وتهجيرهم

2024.06.06 | 08:26 دمشق

345345
 تلفزيون سوريا ـ إسطنبول
+A
حجم الخط
-A

بعد نحو شهر على إطلاقه منصة "الذاكرة السورية" -مطلع أيار الماضي- يطلق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب اليوم كتاب "التغريبة السورية: الحرب الأهلية وتداعياتها المجالية والسكانية 2011-2020"، ليشكلان حدثين بحثيين مهمين يوثقان أحداث سوريا منذ اندلاع الثورة. الكتاب من تأليف سامر بكور، وجاء في جزأين؛ الجزء الأول تناول "المناطق الجنوبية والوسطى والساحلية من سوريا"، وتناول الثاني "المنطقة الشمالية الشرقية والمنطقة الشمالية الغربية من سوريا"، وهو ليس مجرد كتاب سردي لمعلومات ووثائق مهمة، بل يُعتبر مرجعًا تحتاج إليه المكتبة العربية.

يركز الجزء الأول من الكتاب على بحث أسباب الثورة السورية التي انطلقت في عام 2011 وما تلاها من حرب أهلية وأحداث جسام أثرت كثيرًا في سورية ومحيطها، ولا تزال تداعياتها ماثلة أمام أنظار العالم أجمع حتى يومنا الحالي، وبخاصة في ما يتعلق بمسألتَي النزوح والتغييرات التي حصلت على الخريطة السورية، اللتين يقف الكتاب على آثارهما حتى عام 2020، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" وتأثيره الكبير في تغيير مجرى الصراع. جاء الكتاب في 560 صفحة.

657577

الأسباب غير المباشرة والمباشرة في انطلاقة الثورة السورية

"الشعب يريد إسقاط النظام" عبارة كتبها أطفال في عام 2011 على جدار مدرسة في درعا متأثرين بجو الثورات على الأنظمة التسلطية في المحيط العربي، فاعتقلتهم أجهزة النظام السوري وعذّبتهم وأذلّت أهاليهم؛ ما تسبب باشتعال موجة احتجاجات لم تُعهَد منذ أمد بعيد، لا بسبب اعتقال الصِّبْية فحسب، ولا نتيجةً لعامل لحظي، بل بسبب عقود من الاستياء والمظالم التراكميَّين اللذَين عانى منهما الشعب السوري في دولة ما بعد الاستقلال ثم حكم البعث بعد انقلاب عام 1963، الذي تبنّى القومية هويةً، فمأسسة الرئيس حافظ الأسد حزب البعث بعد انتكاس القومية بقوة إثر هزيمة حزيران/ يونيو 1967، واتّباعه عملية تحديثية عرَّفها بـ "سورية الحديثة"، بنى خلالها عصبية طائفية في الجيش وأجهزة الأمن، وقد وصفها رايموند هينبوش Raymond Hinnebusch في كتاب سورية: من الاستقلال إلى الحرب بالوكالة Syria: From National Independence to Proxy War، بأنها هيكلية مزدوجة للسلطة؛ نواة من النخب الأمنية العلوية وقشرة من سائر الأقليات والسنّة؛ ما سخَّر موارد الدولة لشبكات باتريمونيالية زبائنية شكّلت النخبة العلوية مركز قوتها الفعلية، وسمحت للنظام بدمج المجموعات الثانوية أو تهميشها بحسب ولائها للنخبة العلوية، التي أشعرت أي فرد من الطائفة بالانتفاع بها، إن لم يكن مباشرةً فعبر قريب أو صديق مقرّب يعمل في القوات الأمنية أو المسلحة، التي كانت الأفضلية والأولوية في الالتحاق بها للعلويين، لا سيما في الفروع "المرموقة"، كالمخابرات والجمارك والقوات الخاصة، بينما تمثّلت استفادة الآخرين في ارتقائهم، تبعًا لنسبة ولائهم، في فروع الشرطة غير المؤثرة والألوية المقاتلة في الجيش. كانت سياسة الأسد مع طائفته تقوم على "الترغيب والاستيعاب"؛ أي زيادة تمثيل العلويين في الدولة لضمان ولائهم له، وإيهامهم بأن إسقاط النظام سيُفقد الطائفة مناصبها وميزاتها، فيضمن بذلك تبادل المنفعة بين تجميع ضباط الطائفة الثروة، مقابل تفانيهم في الدفاع عنه.

وعلى الرغم من أن نظام الحصص في السلطة يخفي بقاء الرئيس علويًّا منذ فرْض "التوريث" لبشار الأسد، ومن ثم التمهيد لـ "الأسرة الحاكمة"، فقد شغل السنّة مناصب النائب الأول للرئيس، ووزير الخارجية، ووزير الدفاع الذي كان يشغله مسيحيون أحيانًا، لكن منصب النائب الأول للرئيس سرعان ما لم يعد حكرًا على الطائفة السنية فقط؛ إذ ضم علوي هو رفعت الأسد (أخو الرئيس حافظ) ونائبين آخرَين؛ هما: عبد الحليم خدام ومحمد زهير مشارقة، وذلك في إثر محاولة رفعت الانقلابية في عام 1984 مستغلًّا غيبوبة أُصيبَ بها حافظ (كما يقول مصطفى طلاس في كتابه ثلاثة أشهر هزت سوريا)، لكن حال دونها حافظ واتفق مع أخيه على خروجه رفقة مساعديه من سورية 6 أشهر إلى ماربيا بإسبانيا على نفقة العقيد معمر القذافي، على أن يعود بعدها ليشارك في أعمال المؤتمر القُطْري في عام 1985، فعاد إلى دمشق وتم تعيينه نائبًا للرئيس، لكن وجوده بقي صوريًّا، ثم أُعفيَ من المنصب في عام 1998، بعد أن أبدى انتقادات للنظام، في حين استمر خدام في شغل المنصب حتى أُقيل في عام 2005، ليتولاه فاروق الشرع ونجاح العطار السنيّان حتى عام 2014.

أما الخارجية فكانت في يد وليد المعلم السنّي منذ عام 2006 حتى وفاته في عام 2020، ليتولى المنصب السنّي فيصل المقداد. وفي الدفاع عُيِّن المسيحي داود راجحة في 8 آب/ أغسطس 2011، ورغم الإعلان عن أن التعيين كان وفق نظام الأقدمية في الجيش، لكنه فُهم وفق بعض الباحثين بأنه خطوة لكسب ولاء المجتمعات المسيحية.

تحرّر اقتصادي وأزمة

شهدت سورية بعد عام 2000 تحرّرًا اقتصاديًّا "انتقائيًّا" ومتسارعًا كرّس منافسة على الموارد العامة المتناقصة، وزاد اللامساواة الاجتماعية، وقلّص فرص المواطنين ذوي الدخل المحدود، وضخّم ثروات شريحة صغيرة من رجال الأعمال والشخصيات الأمنية. وقد أشار محمد جمال باروت في كتابه العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح، وعزمي بشارة في كتابه سورية: درب الآلام نحو الحرية:محاولة في التاريخ الراهن، إلى أن إعادة الهيكلة الاقتصادية وتقلص إنفاق الدولة دفعا القطاع العام ليموت سريريًّا، كما أن تضخُّمَ قطاع الأمن زادَ المظالم المجتمعية، ليس المادية فحسب، بل بفرض المراقبة في كل مكان، حتى استقر في وجدان الشعب السوري أنّ فردًا من أربعة كان مُخبرًا، كما اقتبسا في كتابَيهما أسماء من قائمة بأهم 100 رجل أعمال سوري نشرتها في عام 2010 مجلة الاقتصاد والنقل السورية، وفيها 16 في المئة من العلويين الذين يسيطرون على الأغلبية الساحقة من الشركات.

الأسباب التراكمية لتفجر الثورة

تمثّل أول الأسباب التراكمية في مفاقمة إصلاحات بشار الأسد الاقتصادية النيوليبرالية المعولمة، وفتْحِه سورية للتحرّر الاقتصادي والرأسمالية المحسوبية (افتتاح البنوك الخاصة وأسواق الأوراق المالية ومناطق التجارة الحرة وخفض الرسوم الجمركية) المشكلاتِ الاقتصاديةَ وتعاسةَ المناطق الريفية الفقيرة، في مقابل مراكمة رأسماليي النظام الأموال عبر القوانين التي سُنّت لمصلحتهم، وخصوصًا أصحاب العقارات، الذين استملكوا بها الأراضي الزراعية في أماكن كثيرة من درعا وريف دمشق وحمص؛ ما أدى إلى استياء شديد من أهلها.

وثاني الأسباب التراكمية خيبة أمل السوريين في النظام الجديد بعد 30 عامًا من قمع حافظ الأسد، بعد تفاؤلهم بقائده الشاب والمنفتح وأملهم في ردعه مكامن القمع والفساد في النظام القديم، لكنهم لم يعايشوا في عهده سوى مزيد من التسلط والقمع والفساد على المستويين السياسي والإداري، والأخير استفحلت فيه الرشوى مقابل الخدمات، حتى وصل التدهور الاقتصادي في سورية إلى درجة تصنيفها من منظمة الشفافية الدولية في عام 2010 الدولةَ الـ 127 عالميًّا والـ 15عربيًّا.

السبب التراكمي الثالث للثورة كان ترافُقَ النموِّ السكاني السريع في سورية مع زيادة البطالة في وسط الشباب الذين يبلغون 26 في المئة من عدد السكان، وهي أعلى بكثير عن مثيلاتها في الدول العربية الأخرى، وكذلك زيادة الفقر والتدهور الاقتصادي والتضخّم وضعف القوة الشرائية.

أما السبب التراكمي الرابع فطبيعي، وهو فترات الجفاف الطويلة ونقص المياه والتآكل الزراعي التي مرت بها سورية؛ ما دفع المزارعين الذين شَحَّ محصولهم ومربّي الماشية الذين فقدوا معظم ماشيتهم إلى هجرة جماعية نحو المدن قُدِّرت (وفق تقرير الأمم المتحدة عام 2010) ما بين مليونين وثلاثة ملايين شخص؛ ما زاد أعباء بنية المدن التحتية المتصدعة أصلًا، لوجود نحو 1.5 مليون لاجئ عراقي، وكل هذه العوامل دفعت جيانلوكا سيرا Gianluca Serra إلى توقع حرب في سورية في مقالة له في مجلة إيكولوجيست Ecologist الإنكليزية بعنوان "الرعي الجائر والتصحر في البادية السورية سببان جذريّان للحرب" "Over-grazing and Desertification in the Syrian Steppe are the Root causes of War".

سلميةٌ قوبلت بقمع

كانت احتجاجات درعا سلميّة بهدف المطالبة ببعض الحريات وإطلاق سراح الصبية المعتقلين، لكن خيار النظام قمعها بالقوة كان العاملَ الأساس في ازدياد أوارها وانتقال التظاهرات إلى بلدات ومدن سورية أخرى، ثم تحولها إلى حمل السلاح؛ إذ لم تكتفِ قوات الأمن باعتقال المتظاهرين وترهيبهم وتعذيبهم، بل كانت تصوِّب نيران بنادقها عمدًا إلى صدورهم ورؤوسهم بقصد القتل، ثم حاصرت المدن بالدبابات، وبرّر الأسد عنف قواته بأن الاحتجاجات كانت بقيادة عصابات جهادية طائفية بدعم من قوى خارجية، وأن سورية تواجه فتنة؛ ما أجّج وحشية الوحدات العسكرية والأمنية والشبيحة (وهم حثالات المجتمع) للاعتداء الجسدي والجنسي على المتظاهرين والمتظاهرات، وذبح بعضهم، واختطاف آخرين، وإخفاء أناس لا يزال مصيرهم مجهولًا حتى اليوم؛ ما طوّر الصراع بسرعة إلى حرب أهلية. والمضحك أن الدولة كانت تتنصّل على الدوام من أعمال هؤلاء، لكنها اضطرت أخيرًا إلى الإفراج عن ألف شخص ممن اعتقلهم الشبيحة بعد أن أدركت أن الثورة ماضية ومن الصعوبة إيقافها، وكان منهم إسلاميون أصبحوا قادة فصائل بعدها، مثل أبي محمد الجولاني، وزهران علوش، وعيسى الشيخ، وأبي علي البريدي. وأراد الأسد بالإفراج عنهم إقناع الغرب بإرهاب المعارضة التي تنتفض عليه.

ثم انشق الجيش السوري وتمّ تشكيل "الجيش السوري الحر" الذي بلغ عدده 10 آلاف عنصر في عام 2012، وظهرت تزامنًا تشكيلات عسكرية إسلامية انتشرت في أكثر المحافظات وحظيت بدعم قوى إقليمية ودولية، وسيطرت على وسط سورية والحدود الشمالية الشرقية. وفي تلك الأثناء لم تفلح جهود الغرب في خلخلة أسس النظام السوري في مجلس الأمن، بالرغم من الوهن الشديد الذي وصل إليه، لوقوف روسيا والصين إلى جانبه، فاكتفت الولايات المتحدة الأميركية والبلدان الغربية بحصاره اقتصاديًّا ومنع بيعه الأسلحة والتعاون مع تركيا في منع تدفق أي سلاح إليه عبر حدودها، لكن عوّضته إيران وروسيا بما يحتاجه. ولأجل محاربة نفوذ "القاعدة" في سورية دعمت الولايات المتحدة في عام 2015 القوات الكردية، ودرّبت مقاتلي المعارضة، كما أرسلت إيران وروسيا قوات إلى الأسد شنت مئات الضربات الجوية؛ ما انعكس سلبيًا على الصراع وتأجيجه. يقول الكاتب البريطاني كريستوفر فيليبس Christopher Phillips في كتابه المعركة حول سورية: التنافس الدولي في الشرق الأوسط الجديد The Battle for Syria: International Rivalry in the New Middle East إن تدخل الجهات الخارجية، كلٍّ بأجندة خاصة، كان أداةً لإطالة أمد الحرب السورية، بسبب ازدياد صعوبة التفاوض معها.

ظهور "داعش" وتأثيره

قصم ظهور داعش ظهر الثورة السورية؛ إذ حوّل مجرى الصراع من مصلحة المعارضة إلى ضدها، فقد أغرق داعش البلاد في أزمة عنف طائفي مستفيدًا من عاملين: خطابه المتطرف، وسذاجة أتباعه وجهلهم دينيًّا؛ ما مكَّن التنظيمَ من تحويل وجهتهم من قتال النظام إلى قتال فصائل المعارضة، فسيطر بين عامَي 2014 و2015 على مساحة كبيرة من الأرض السورية، وأعلن قيام الخلافة الإسلامية، وأعدم عددًا كبيرًا من معارضيه، وعذّب كثيرين منهم، ثم اتجه إلى تنفيذ هجمات إرهابية في الغرب، مدَّعيًا أنها رد على التدخل الغربي في سورية؛ ما جعل الغرب يعدّل استراتيجيته في سورية، ويركّز على هزيمة داعش أكثر من تركيزه على إسقاط نظام الأسد.

من جهة أخرى، دفعت تصرفات داعش النظام إلى اعتماد خطاب تخويف الأقليات الدينية من التشدد الديني لدفعها للوقوف إلى جانبه، وهو خطاب وصل أثره إلى المستوى الدولي، فعبّرت دول عدة عن قلقها من انتشار الإسلاموفوبيا إزاء المسيحيين والدروز وغيرهما.

تعريف النزوح وآثاره

تطرق الكتاب بتوسع إلى مسألة كبرى هي من أهم إفرازات الحرب الأهلية السورية، وهي "النزوح"، فقسّمت العنف ضد المدنيين في الحروب الأهلية ثلاثة أقسام: الانتقائي (ينطبق على ما كان يقوم به النظام السوري من انتقاء مناطق معينة بالقصف)، والعشوائي (الاستهداف الموضعي بغض النظر عن سلوك المستهدَفين وهويتهم)، والجماعي (يستهدف مجموعات بأكملها تكون ذات خصائص موحدة)، وينشأ عنها جميعًا "النزوح القسري"، الذي لم يمارسه النظام السوري فحسب، بل بعض الميليشيات الطائفية والإثنية الأخرى، وأصبح من أكثر القضايا الملحّة التي تواجه العالم.

ويعرَّف النزوح في اتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951 بعبور مواطنين الحدود الوطنية لتعرضهم للاضطهاد وعدم استطاعتهم العودة إلى أوطانهم خشيةً على حياتهم. وتعرِّفه المحكمة الجنائية الدولية بالترحيل القسري من بلد أو منطقة ما إلى أخرى. وقد تسبّبت غارات قوات النظام الجوية وقصفها الأهداف المدنية في فصل السكان عن المعارضة المسلحة تمهيدًا للتخلص الناجح منها، فكانت 65 في المئة من الخسائر في الأرواح، واستخدمت الأقسام الثلاثة السالفة الذكر من النزوح، وركزت على ما يسمى "النزوح الاستراتيجي"، وهو ثلاثة أنواع: التطهير Cleansing (الاستهداف لفرض النزوح الدائم)، وإخلاء السكان أو تقليص عددهم Depopulation (الاستهداف لفرض نزوح مؤقت)، والترحيل أو إعادة التوطين القسري Enforcement Reallocation (توجيه الناس وحصرهم في نقطة ما). وذلك كله أودى بسورية، وفق الأمم المتحدة، إلى "أكبر" أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.

وقد أدّت الحرب السورية إلى عاصفة من التغييرات الديموغرافية في النسب السكانية (87 في المئة من العرب، 7 في المئة من الكرد، 6 في المئة من التركمان والأرمن؛ منهم 74 في المئة من السنّة، 13 في المئة من الشيعة والعلويين، 3 في المئة من الدروز، 10 في المئة من المسيحيين)، فـ 13.5 مليون نسمة من عدد السكان الأصلي، وهو 24 مليونًا، تحولوا على مدار 12 عامًا إلى مشردين (6.8 ملايين لاجئ و6.9 ملايين نازح). وأشارت لجنة مستقلة تابعة للأمم المتحدة إلى أن التهجير القسري الذي نفذته القوات الحكومية يشكّل "جريمة ضد الإنسانية و/ أو جريمة حرب".

هدف الكتاب

يتناول هذا الكتاب التغييرات التي حصلت على الخريطة السورية خلال الحرب الأهلية، وتحلّل ظاهرة التهجير القسري والنزوح التي ألقت بظلها على دول المنطقة والعالم حتى أضحت ورقة مساومة لدى بعض الحكومات، وأداة مؤثرة في نتائج انتخابات، وتشكيل حكومات، وصعود قوى سياسية جديدة، ونسج تحالفات، كما تبيِّن أن إدلب كانت الوجهة الأساسية للنازحين داخليًّا لأسباب تمَّ تفصيلها.

وحول أساليب النظام في فرض التهجير القسري، ذكر الكتاب أولًا القصف العشوائي (إلقاء قوات النظام 82 ألف برميل متفجر على ريف دمشق وحلب ودرعا وإدلب وريف حلب الشمالي)، وثانيًا الحصار (الجزئي أو الكلي) الذي تشكل قيوده أهم العوامل الطاردة للسكان، وذكرت المنظمات الدولية أن عدد الذين عاشوا تحت الحصار خلال الحرب السورية بلغ 10 في المئة من السكان (25 حالة حصار، قام داعش باثنتين منها في دير الزور والرقة، وقامت المعارضة المسلحة بواحدة في كفريا والفوعة، وقامت قوات النظام بالبقية في حمص القديمة وشرق حلب والغوطة الشرقية). وثالثًا التجويع، بإغلاق المعابر كافة إلى المناطق المحاصَرة (تجويع النظام ريف دمشق والزبداني ومضايا وحمص، وتجويع المعارضة المسلحة كفريا والفوعة في إدلب). ورابعًا المذابح على أساس طائفي أو إثني أو غيرها (ذبح الميليشيات التابعة للجيش السوري السكان السنّة في قرى الجيوب السنّية في محافظتَي طرطوس واللاذقية ومدينة حمص والحولة والقبير وحماة وبانياس والسكان الإيزيديين في الحسكة، وذبح جبهة النصرة سكان القرى العلوية في شمال اللاذقية وريف جسر الشغور). وخامسًا الحرمان من العودة، عبر تدمير الممتلكات (حمص وريف دمشق) وتغيير مستنداتها (مخيم اليرموك) واستصدار قوانين لمنع التصرف بها، تبيح حجزها ومصادرتها ونقل ملكيتها إلى الدولة (قانون 19 لمكافحة الإرهاب لعام 2012، وقانون استهداف أسر الإرهابيين رقم 22 لعام 2012، ومرسوم حق وزارة المالية في حجز ممتلكات المواطنين رقم 23 لعام 2012، القانونان 66 و40 لعام 2012 القاضيان بإزالة الأبنية المخالفة القديمة، وقانون المخالفات الجماعية رقم 23 لعام 2015 القاضي بإزالة الممتلكات وحرمان المالكين من التعويض العادل وتسهيل تملكيها للأجانب).

الجزء الثاني: المنطقة الشمالية الشرقية والمنطقة الشمالية الغربية من سوريا

يسلط الجزء الثاني من الكتابُ الضوءَ على الصراع الداخلي بين أطراف الحرب الأهلية، وعلى علاقات المد والجزر بين الدولة الأم وسلطات الأمر الواقع، كما يركز على بحث أسباب خسارة التنظيمات المسلحة في المنطقتَين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية الأراضيَ الواسعة التي كانت سيطرت عليها، واستعادة النظام أجزاء منها. وجاء الجزء الثاني في 424 صفحة.

إن من أهمِّ نظريات العلاقات الدولية في عالم الواقعية النموذجيةِ علاقةَ الدولة بالحرب، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها محور هذه النظريات، فهي تَعتبر الصراع من أجل السيطرة وتشكيل الدولة خاصية طبيعية لجميع البشر. في المنطقتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سوريا، وفي نظرة إلى نماذج تجاذب القوى التي هيمنت عليهما، تظهر لنا بوضوح فرضية تشارلز تيلي Charles Tilly في بناء الدولة، التي تقول: إن "الحرب تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب". ويُعرِّف ماكس فيبر Max Weber الدولة بأنها "رابطة حاكمة تدّعي احتكار القوة المشروعة لتنفيذ القوانين"، وهو تعريف مهم؛ إذ يُظهر أولوية الدولة في ممارسة الحرب باحتكار القوة. وفي السياق نفسه يقول كارل كلاوزفيتس Carl Clausewitz: إن "الحرب استمرار للسياسة، ولتهديد الفاعلين الدوليين بالحرب تأثير كبير في المعارك السياسية لضمان استمرارية الحكم والسلطة". وحدّد غيورغ يلينيك Georg Jellinekعدة عوامل نظرية للوفاء بمعايير الدولة واستمراريتها؛ هي: السكان والإقليم المحدد والسلطة والقدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى. أما جايمس كير-ليندسي James Ker-Lindsay فناقش تغيير قادة سلطة الأمر الواقع سياساتِهم تجاه الدولة الأم، ومشاركتهم إياها دون مستوى الاعتراف، والتفاعل الدولي مع هذه السلطة، وتعامل الدولة الأم والأطراف الثالثة معها، مع تركيز أقل على كيفية نظر الفاعلين السياسيين إلى المشاركة داخل حكومات سلطة الأمر الواقع. ويسلط غاريث ستانسفيلد Gareth Stansfield ونينا كاسبرسن Nina Caspersen الضوء على الدعم الذي تتلقاه سلطة الأمر الواقع من الدولة الراعية، وعلاقات القوة والشرعية الداخلية، وأنه إذا لم يكن لدى سلطة الأمر الواقع دعم دولة راعية أو دعم دولي، فإنها تحتاج إلى المناورة مع عدة دول لضمان بقائها، فإذا لم يكن ثمة دعم أو كان هناك تهديد بهزيمة عسكرية، فستبدأ بالنظر في التخلي عن هدف الاستقلال الكامل وفي حلول وسط تحافظ على وجودها "الرمزي" وتمنع اندماجها القسري بالدولة الأم. ويُستنتَج من ذلك أن الدعم الأقل يعني مزيدًا من الاستعداد لتنازلات من سلطة الأمر الواقع، وأن نسبة هذا الدعم تؤثر طردًا في موقفها.

54456

الهيمنة على محافظات الدراسة وأثرها

أحدثت سلطات الأمر الواقع في محافظات الدراسة جماعات أو تنظيمات، تغييرات بنيوية وسكانية، ودخلت في تحالفات محلية وإقليمية وشبه دولية ساهمت في استمرار بعضها إلى حين، وبعضها لا يزال قائمًا. ويشهد الواقع أن الأبحاث التي تنظّر للصراع بين الدول هي أكثر من دراسات التنافس بين الفاعلين المسلحين داخل الدول، ومن الأخيرة دراسات فوتيني كريستيا Fotini Christia المعنونة: تشكيل التحالفات في الحروب الأهلية Alliance Formation in Civil Wars، وعبد القادر سنو المسمّاة: تنظيمات الحرب في أفغانستان وخارجها Organizations at War in Afghanistan and Beyond، ومقالة إيميلي غايد Emily Gade ومايكل غاباي Michael Gabbay ومحمد حافظ في مجلة أبحاث السلام Journal of Peace Research المعنونة: "قتل الإخوة في الحركات المتمردة: تحليل شبكة الاقتتال الداخلي بين المسلحين السوريين" Fratricide in Rebel Movements: A Network Analysis of Syrian Militant Infighting، وهي قلة تدل على أن النزاعات والصراعات بين الجهات الفاعلة المسلحة لا تزال غير مدروسة كما ينبغي.

التغييرات على الأرض

بعد طرد قوات النظام من معظم محافظات الشمال الشرقي والشمال الغربي، وتشكُّل مجموعات إسلامية جهادية وإثنية، وقع التنافس بين مجموعات معارضة كثيرة. ولإلقاء الضوء على التغيير الذي مرت به هذه المناطق خلال التنافس المسلح بين هذه القوى، كشف هذا الكتاب ما خلفته الصراعات من زعزعة للاستقرار وفرار لملايين البشر إلى مناطق آمنة أو دول أخرى، وفرصة لإعادة النفَس إلى النظام الذي استغل معارك تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" مع الجيش الحر وجبهة "النصرة" وطردهما من مناطق سيطرتهما في الشمال، ومعارك قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مع الفصائل وانتزاعها الأراضي منها، لشنّ قواته هجمات ودخولها أجزاء من محافظات دير الزور والرقة وحلب وإدلب.

ويُثبت الكتاب الفشل الذي منيت به الدولة الأم ممثلةً بالنظام، وسلطات الأمر الواقع ممثلة بداعش وقسد والجيش الحر وهيئة تحرير الشام ... وغيرها، فكلها "دول" فاشلة، سواء تمثلت بمناطق النظام أو بمناطق محافظات الشمال الشرقي والشمال الغربي، كمناطق الإدارة الكردية ودرع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام.

وباستيلاء الإسلاميين الجهاديين وتنظيمات إثنية أخرى على قسم كبير من المنطقَتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية، شهدت هاتان المنطقتان على مدار عقد من الزمن تغييرات مجالية وسكانية كبيرة ومصيرية وتكاد تكون جذرية، كما أنها مهّدت الطريق للتدخل الأجنبي، خاصة مع ظهور داعش وإعلانه الرقة عاصمة دول الخلافة.

هدف الجزء الثاني من الكتاب

بالإضافة إلى توثيق أحداث محافظات الشمال ومجريات الصراع بين قوات النظام والفصائل المسيطرة على الأرض وكيفية تغيير موازين القوى بينها، عمد هذا الجزء من الكتاب إلى توثيق عمليات التهجير والنزوح، بما فيها من أنواع العنف؛ من القصف المنظم والعشوائي إلى الحصار ثم التجويع فالمذابح، وقوانين استملاك الأراضي والعقارات ومنع الأهالي من العودة إلى ديارهم.

ولهذا الجزء أهمية خاصة، بسبب تسليطه الضوء على جميع مجريات الحرب السورية في المنطقتَين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية، وتغير ميزان دعم القوى على المستويَين المحلي والإقليمي، وقد كان لاستخدام الفصائل والميليشيات الطائفية والعرقية استراتيجيات التهجير القسري والتطهير العرقي والطائفي والطرد المنظم بحق أفراد الجماعات العرقية والدينية ومجموعات الهوية الأخرى، ولجوئها إلى مختلف أنواع التهجير الاستراتيجي حيّزًا كبيرًا فيه. وبناء على هذا، توصّل الكتاب إلى نتيجة مؤدّاها أن التغييرات التي حدثت في المنطقتين مثّلت "قنبلة" ديموغرافية بشرية سياسية يهدد انفجارها بتشظيات في المنطقتين لا تُحمد عقباها.