التراث السوري بين الحماية والسرقات

2020.09.26 | 00:01 دمشق

_81241_s3.jpg
+A
حجم الخط
-A

إننا نعاني من أزمة تطوّر حضاري، ولا بد لناـ للخروج من هذه الأزمة من أن نبدأ أوّلاً بوضع المعايير الصحيحة لمفاهيمنا بعد أن نتفحّص إمكاناتنا من خلال معرفة ما نحن مؤهّلون له حقّاً، حتى لا نُحدث خلخلة بين ما نريد وما نفعل. ومن إحدى مآزق الفكر العربي مشكلة التعامل مع التراث.

التراث ليس مشكلة الماضي، وإنما هو مشكلة الحاضر الذي ننطلق منه نحو المستقبل. ولكن ما التراث؟

التراث هو ما أُنجز في الماضي، علمياً وتقنياً وقيمياً، وما يزال حاضراً فينا. إنه ذاكرتنا الثقافية: عربياً وإسلامياً وإنسانياً، سواء أكان ذلك عن طريق الوعي الفكري العاقل، أم كان عن طريق الوعي الأسطوري. أما توظيف التراث في العصر فهو شيء آخر يندرج تحت مقولة تفعيل التراث من صنع الإنسان ونتاجاً للنشاط الإنساني في مراحل تاريخية متعاقبة، فإن تفعيله هو أيضاً من صنع الإنسان ومن اختياره. وإذا كان الانتماء إلى التراث لا اختيار لنا فيه، فإن تفعيله فينا وبنا هو من اختيارنا.

والتراث لا بد أن يُصَبغ بوجهة نظر من يتعامل معه، بشكل ما، لكن على المتعامل معه ألاّ يقسره على لبس ما يفصّله هو فيضيء بعض الجوانب منه، ويحرّف بعضها. بل لئن حاول أن يقرأه موضوعياً، من خلال زاويته الخاصة، لكانت وجهات النظر المختلفة في قراءة التراث ذات فائدة عظيمة.

وذلك لأن التراث مسألة على غاية من الأهمية والحساسية والإشكالية. وهو مهم لأن الاهتمام به يمنحنا طاقة على العمل من خلال رصد منجزات أجدادنا حتى لا نعاود الانطلاق من نقطة الصفر. أما حساسيته فتأتي من كونه مقدّساً عند بعض الناس، مسفّهاً عند آخرين.

لكننا إذا أردنا أن نكف عن التطرف الذي يبعث على التخلف، ينبغي لنا أن نموضع التراث لنتمكن من تذييته بحنو فاعل.

أما وأنه إشكالي فلأن ارتباك الأسئلة المطروحة حوله كثيراً ما يفضي إلى إجابات تفتقر إلى الاتّزان. فمثلاً لم يعد وارداً تساؤلنا حول ما نأخذه من التراث وما نهمله منه، فنحن نهتمّ بتراثنا كلّه لعل الاهتمام به يمدّنا بقدرة نرجوها لنهتمّ بتأصيل فكر نقدي، بدءاً من الجذور، وانتهاءً بالتطلّعات، لنحلّ إشكالية التعارض المصطنع بين الأصالة والمعاصرة لصالح الإنسان، الذي تتوزع عوامل قهره بين تقديس قيم الأجداد، والانبهار بقيم الغرب، الذي تمثّل أميركا منتهاه. وإذا أردنا أن نكف عن مغازلة أحلامنا، ينبغي لنا أن نفكّر جدّياً بالتشكيك في مقولة إن التراث هو مستودع الحقائق، وأن نرفض في الوقت عينه الرؤى الحداثوية المتطرفة التي تسمّي الإبداع خلقاً من عدم فتنزلق بنا إلى هوّة توهّم شجب التراث والبدء من جديد.

ولم يعد مجدياً تساؤلنا: كيف نوائم بين الفكر الوافد والتراث بحيث يبقى فكرنا أصيلاً ومعاصراً معاً، وذلك لأن المعاصرة هي البنت الشرعية للأصالة، والأصالة هي البذرة الوحيدة التي تثبت حضوراً في الحاضر وتساعد على تأسيس المستقبل.

وكما الأصالة، كذلك المعاصرة ليست شيئاً زمانياً بقدر حالة تواصُل مع الآن.

ولسنا ندري كيف يتمكن الحداثويون من الإجابة عن سؤال: كيف نستلهم تطوّرنا من حداثة الغرب، من غير أن نستلهمه أيضاً من تراثنا؟

مع أن الحداثة الغربية، كالتراث، شيء يعبّر عن الآخر لا عنّي أنا...

وإذا كان عليّ أن أستوعبه فليس عليَّ أن أتنبأ كل ما فيه.

التراث غير المادي هو كل العناصر الثقافية الموروثة عن الأسلاف ما عدا الآثار والأوابد والتحف والمخطوطات باعتبارها تراثا ماديا. وهو يتضمن جميع المهارات البشرية والعادات والتقاليد واللغة المحكية وما تحمله من معان وقيم ومفاهيم وأغان وأمثال ومواويل وغيرها..

إن حماية التراث الثقافي المادي واللامادي، يشكل موضوعا استراتيجيا مهما بالنسبة لسوريا نظرا لدورها المهم في إنتاج التراث العالمي والحضارة الإنسانية، ولابد أن نوليه الاهتمام الكبير، ونخصه بما يحتاجه من مال وجهد وتخطيط، لأنه يشكل هويتها المتميزة وذاكرتها الوطنية.

وفي الوقت ذاته لا بدّ من التوضيح بأن الاهتمام بحماية التراث الثقافي للأمة لا يقتضي العودة إلى الماضي الجميل للانغلاق عليه، بل يقتضي بناء الإصلاح والتطوير والنهضة الحديثة على ذلك الصرح  الكبير الذي كونته الأجيال المتعاقبة عبر العصور من مختلف الثقافات والحضارات التي مرت على بلادنا، فخرج

يسعى المستعمر عبر التاريخ إلى طمس الهوية الثقافية للشعوب الأخرى فيتعمد تدمير التراث الثقافي للبلد المعادي ليعزل الشعب عن ماضيه وعن ارتباطه بالأرض وبهويته الوطنية

مزيجا حضاريا وثقافيا متميزا وبناء متماسكا ذا أساسات متينة، كما لا يقتضي الانعزال عن الشعوب بل التقرب منها لإغناء الحضارات المختلفة عن طريق الحوار لا عن طريق الصدام الذي يمحو الهوية والخصوصية، ويهدف إلى أمركة العالم أكثر من عولمته وذلك بفرض النموذج الثقافي الأميركي الشامل (من كولا وهمبرغر وجينز وغيرها) على الشعوب بديلا عن تراثها الثقافي.

يسعى المستعمر عبر التاريخ إلى طمس الهوية الثقافية للشعوب الأخرى فيتعمد تدمير التراث الثقافي للبلد المعادي ليعزل الشعب عن ماضيه وعن ارتباطه بالأرض وبهويته الوطنية، فيسهل ذلك عليه تثبيت احتلاله وإضعاف روح المقاومة عنده.

إن المتاحف في برلين ولندن وباريس وكوبنهاغن تعرض العديد من التحف السورية، ونشير إلى أن واجهة متحف حلب (معبد تل حلف الآرامي) ليست أصلية لأن القطع الأصلية موجودة في برلين.

لقد استخدم بعض قناصل الدول في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين الحقائب الدبلوماسية في إخراج القطع الأثرية التي اشتروها وكان تجار الآثار يشترون القطع الأثرية من حائزيها الجهلة بأبخس الأسعار ويصدرونها دون قيد حتى ثلاثينيات القرن العشرين، لذلك بقيت القطع التي أخرجت قبل ذلك التاريخ بيد حائزيها خارج البلاد.

لم تستطع سوريا أن تضبط العديد من التنقيبات العشوائية السرية، وما زلنا نسمع بين الفينة والأخرى عن ضبط الإنتربول لعمليات تهريب الآثار من سوريا.

 ومنذ عدة سنوات اكتشفت الجمارك الكندية سرقة 54 قطعة من المنمنمات ولوحات الموزاييك اقتلعت من سقوف وأرضيات الكنائس وبعض الأبنية الأثرية في حلب، وقد تم استرجاع معظمها.

كما كشفت السلطات اللبنانية سرقات أثرية وتمكنت من استرداد 15 ألف قطعة، قسم كبير منها سوري المنشأ، ولما كانت الدولة اللبنانية قد انضمت مؤخرا إلى معاهدة اليونسكو لعام 1972، لذلك يمكن المطالبة باستردادها.

إن اليهود الذين هاجروا سرا من حلب ادعوا بأن أقدم مخطوطة توراة في العالم المعروفة باسم (توراة حلب) وتعود إلى القرن العاشر الميلادي ومكتوبة في طبريا، كانت موجودة في كنيسهم في حلب واحترقت عند إحراقه، ثم تبين بأنها لم تحترق بل نقلت إلى إسرائيل تهريباً.

إن للفولكلور الشعبي جوانبه المضيئة من موعظة وحكمة وعبرة كما لبعضه جوانبه القاتمة التي تظهر الجهل وسيطرة الخرافة، ورغم ذلك فقد حرصت الشعوب على أدبها الشعبي بجانبيه المضيء والقاتم ولم تتنكر له لأنه جزء من ماضيها الذي انقرض أو هو في طريقه إلى الانقراض. ثم استعرض المنظمات الدولية والعربية والمحلية المعنية بحماية التراث الثقافي. كما أسست في معظم البلاد العربية، جمعيات مماثلة، كجمعية أصدقاء الآثار في الأردن وجمعية الحفاظ على التراث في مصر.

لقد ساهمت جمعية العاديات في حلب في الحفاظ على التراث، وهي من أقدم جمعيات المحافظة على التراث في العالم العربي فقد أسست هذه الجمعية عام 1924 كرد فعل على حادث سرقة أحد الضباط الفرنسيين في حلب، المحراب الخشبي لجامع الخليل في القلعة، العائد لعصر نورالدين الزنكي في القرن الثاني عشر، وقام بنقله جهارا إلى فرنسا، فتنادى بعض أعلام البلد إلى تشكيل جمعية لحماية القلعة وآثارها واسترداد المحراب، سميت جمعية أصدقاء القلعة وعملت على استصدار مرسوم بإحداث متحف في حلب، وعند إحداثه عدلت اسمها إلى جمعية أصدقاء القلعة والمتحف، وفي عام 1930 أصبح اسمها "جمعية العاديات" ومركزها الرئيسي في حلب ولها 15 فرعا في معظم المدن السورية. وهي أقدم جمعية تهتم بحماية التراث الثقافي في العالم العربي.

لكن المشكلة الكبرى أن السلطة القائمة في سوريا، ساهمت في نهب التراث المادي، وهرّبت قسماً كبيراً منه من خلال بيعه بالسوق السوداء، ومالم تتمكن من الحصول عليه، قامت بتدميره بحجة محاربة الإرهاب. كما أنها تعمل على طمس التراث غير المادي لتمييع الهوية السورية باستقبالها عدداً كبيراً من الدخلاء الذين منحتهم الهوية السورية من غير السوريين، الذين تضمن ولاءهم لتحارب بهم السوريين الأصلاء الذين لم يلتفتوا إلى المسألة الطائفية التي تشيعها السلطة في البلاد.