البروباغندا السياسية في سوريا

2022.08.01 | 06:38 دمشق

البروباغندا السياسية في سوريا
+A
حجم الخط
-A

العلاقة بين الكذب والسياسة علاقة قديمة وأصيلة، تعود إلى ظهور ما يسمَّى الدولة أو المدينة، على اعتبار أنَّ السياسة هي فنُّ الممكنات، وعلى اعتبار أنَّ الكذب كما يذهب جاك دريدا في كتابه (تاريخ الكذب) هو فعل مبني على القصدية؛ أي أنَّ الكذب هو ممارسة لفعل الخداع بنية الإيقاع بالآخرين، بغضِّ النظر عن أيِّ اعتبارات أخلاقية، ومن المؤكَّد أنَّ اتجاه الأنظمة الشمولية في الوقت الحالي إلى الكذب بشكل فجٍّ وواضح تخدمه وسائل الإعلام لإخفاء الحقيقة التي هي في الواقع الوجه المقابل والمناقض للكذب، إنَّنا الآن نعيش في عصر العولمة الذي تداخل فيه الواقع بالخيال بفضل تطوُّر أنظمة الصورة المفبركة القادرة على تشويه السمعة السياسية لأيِّ نظام سياسي وإحداث البلبلة حوله، لذلك أصبح من الصعب إقناع العالم بالحقيقة التي تمَّ مسخها وتغيير معالمها.

مع بداية الثورة في سوريا عام 2011م أعلن بشار الأسد في خطابه الذي ألقاه في آذار من العام نفسه عن مجموعة من الإصلاحات، وقد استخدم بشار بروباغندا سياسية تقوم على تضليل الشعب عن مطالبه من خلال تركيز الحديث عن المؤامرات الخارجية، وتتالت الوعود في خطاباته اللاحقة، إلا أنَّها كانت وعوداً كاذبة، ونقول كاذبة انطلاقاً من تحديد أوغسطين للفرق بين الكذب والخطأ، فبشار الأسد عندما كان يقدِّم وعوده المجَّانية للشعب السوري لم يكن مخطئاً، فلو كان مخطئاً كنَّا سنفترض عن حسن نية أنَّ ما يقوله صحيح من حيث إنَّه كان صادق النية، وهذا ما لم يكن بشار قد أضمره في نفسه طبعاً، إذ كان يتعمَّد خداع الشعب وإلحاق الأذى بهم عن سبق إصرار وترصُّد.

قسماً كبيراً من الشعب لم تنطلِ عليه تلك الحيل السياسية؛ لأنَّهم كانوا على يقين بأنَّ ما يقدَّم له من وعود هي وعود كاذبة، وبشار أيضاً كان في داخله يعرف ذلك؛ لأنَّه من المستحيل أن يكذب المرء على نفسه

إنَّ السياسة بوصفها ممارسة للفعل السياسي ضمن الفضاء العمومي تعدُّ بيئة خصبة لممارسة الكذب من قِبَل الأنظمة الشمولية على الشعب من جهة، وعلى الرأي العام من جهة أخرى، فالامتناع عن قول الحقيقة كاملة هو نوع من الكذب السياسي الذي كان سائداً في الماضي، وتكمن المشكلة في القدرة الهائلة على إقناع القائد الديماغوجي الشعوب بأنصاف الحقائق وجعلهم يقفون في صفَّه، وهذا بحدِّ ذاته يعد استهانة بعقول الشعب واستخفافاً بذكائهم، لكنَّ قسماً كبيراً من الشعب لم تنطلِ عليه تلك الحيل السياسية؛ لأنَّهم كانوا على يقين بأنَّ ما يقدَّم له من وعود هي وعود كاذبة، وبشار أيضاً كان في داخله يعرف ذلك؛ لأنَّه من المستحيل أن يكذب المرء على نفسه، فما كان من وسيلة لمواجهة هذه البروباغندا إلا بالثورة عليها جملة وتفصيلاً، فكان ثمن هذه المواجهة التي استهدفت نظاماً كاملاً قائماً على الكذب والخداع حرباً دموية ومجزرة إنسانية لن ينساها التاريخ.

وفي الخطاب الذي ألقاه بشار الأسد أمام مجلس الشعب 2011م بعد قيام الثورة، تحدَّث عن أنَّ خصومه يزيفون الحقائق ويشوشون على الشعب وعلى السلطة، وردَّد العبارة النازية الشهيرة "اكذب اكذب حتى تصدق فيصدقون" هذه العبارة في الحقيقة لا تصف إلا البروباغندا السياسية لبشار الأسد في تعامله مع الثورة الشعبية المطالبة بالحرية. وكما يرتدي الذئب ثوب الحمل ظهر بشار الأسد في مقابلة على قناة BBC NEWS عام 2015م أمام العالم بأكمله منكراً الحقائق التي تجري على أرض سوريا من قتل وتدمير وسفك للدماء بشكل يدعو إلى الدهشة حين سأله محاوره عن البراميل التي يتمُّ رميها على السوريين، واقترح عليه أن يكفَّ النظام عن استخدام مثل هذه الأسلحة على الشعب الأعزل، لقد أجاب بشار الذي تلطخت يداه بدماء آلاف الضحايا المدنيين الذين قضوا تحت أنقاض بيوتهم المدمرة ببراميله محلية الصنع بحجة أنَّه استخدام مشروع للقوة قائلاً: "ليست لدينا براميل!!" ضارباً الحقيقة بعرض الحائط، ومتمسكاً بحجته بأنَّ الجيش يحارب الإرهابيين، وأنَّ مهمته هي الدفاع عن الوطن والمواطنين من المخربين.

لقد وصل بشار الأسد إلى ولاية دستورية رابعة بعد الانتخابات التي أجريت عام 2021م بالقوة والمراوغة معاً، فالأغلبية المطلقة التي حصل عليها من الأصوات والتي بلغت 95.1% من أصوات السوريين لا تمثِّل كلَّ السوريين

لقد تمَّ التواطؤ بين السلطة وبين وسائل الإعلام في سوريا لتزييف الحقائق، بل وهدم الحقيقة من أساسها، لذلك انطبق عليها قول ميكافللي: "في السياسة لا يُنتصر فقط بالقوة، بل أيضاً بالحيلة والمراوغة". نعم لقد وصل بشار الأسد إلى ولاية دستورية رابعة بعد الانتخابات التي أجريت عام 2021م بالقوة والمراوغة معاً، فالأغلبية المطلقة التي حصل عليها من الأصوات والتي بلغت 95.1% من أصوات السوريين لا تمثِّل كلَّ السوريين، هذه الانتخابات التي وُصِفت بأنَّها غير نزيهة وغير عادلة لا تمثَّل سوى مؤيدي النظام وشبيحته وبقية أفراد الشعب المغلوبين على أمرهم، وبالتالي فهم برمِّتهم لن يصلوا إلى ثلاثة عشر مليون مواطن كما زعم التقرير.

في الواقع لم تكن حنة آرندت تقصد الكذب المطلق الذي وصل إليه الساسة الديماغوجيون عندما تحدثت عن إمكانية استخدام الكذب في السياسة، وعدته واحداً من الوسائل الضرورية والمشروعة لكلِّ من يمتهن السياسية والحكم، فقد تنامى لديهم الكذب وتضخَّم حتَّى لم يعد بالإمكان السيطرة عليه، ولم يعد الكذب يقتصر على إخفاء الحقيقة، كما لم يعد ملحاً للسياسة بل أصبح الكذب في زمننا هو السياسة بعينها.