icon
التغطية الحية

الباسوطة في ريف عفرين.. طبيعة ساحرة بلا خدمات ولا مصطافين

2023.08.05 | 06:26 دمشق

1
+A
حجم الخط
-A

تفضل الاستثمارات السياحية الآخذة بالنمو في مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا التوسع داخل المدن والبلدات المستقرة والأكثر أمناً مقارنة بغيرها، والغريب في الأمر أنها لا تعتمد في توزعها الجغرافي على توفر مجموعة العوامل الطبيعية اللازمة (المناخ والغطاء النباتي والينابيع والبحيرات والأودية والمرتفعات الجبلية) والتي من المفترض أن تؤمن أرضية خصبة لهذا النوع من الاستثمارات التي تجذب عادة المصطافين ومحبي التأمل والهدوء وسط الطبيعة، وتعمل في الوقت ذاته على تنمية السياحة المحلية (الشعبية).

ففي الوقت الذي تزداد فيه أعداد المقاهي والمطاعم والمتنزهات ومدن الألعاب في الباب وعفرين واعزاز والدانا وسرمدا وغيرها، تجد مناطق غنية بالمقومات الطبيعية والسياحية كدركوش وميدانكي والنبي هوري والباسوطة والسهول والأودية في جسر الشغور وحارم وغيرها، لكنها تفتقر للاستثمارات السياحية، بل إن بعضها يعاني اليوم من التهميش ونقص الخدمات الأساسية، وتضررت معالمها بفعل الأيدي العابثة في ظل غياب الجهات الرقابية المسؤولة في بعض المناطق، أو لدورها المحدود في مناطق أخرى.

وبرغم تكاثر الاستثمارات السياحية الفاخرة شمالي سوريا فإنها لا تستقطب سوى شريحة صغيرة من الناس، وهم في الغالب من ذوي الدخل الجيد والمرتفع، ومثالهم العاملون في المنظمات الإنسانية ومدرسو الجامعات والموظفون في حكومتي الإنقاذ والمؤقتة والعاملون في المعابر والأشخاص والجماعات المسيطرة على ممرات التهريب وتجار الممنوعات، وعلى رأس مستهلكي الخدمات السياحية الناشئة بطبيعة الحال هم قادة الفصائل من الصفين الأول والثاني.

(تلفزيون سوريا)

وتفضل الشريحة الكبرى من الناس الاستجمام غير المكلف في المناطق المفتوحة هرباً من ضغوطات الحياة المتصاعدة، ومحاولة التنفس بعيداً عن كتل العمران العشوائي الذي بات يتكاثر بشكل غير مدروس في منطقة تشهد زيادة سكانية مستمرة، بينما يفضل الأشخاص متوسطو الدخل والعائلات التي لديها وسيلة نقل التنزه وسط الأحراش وعلى ضفاف الأودية والينابيع والبلدات ذات الطبيعة الخلابة، وعادة ما تحمل العائلات معها المأكولات والمشروبات ولوازم الاستجمام الضرورية، وهذه الرحلات دائماً ما تكون محفوفة بالمخاطر لأسباب تتعلق بالواقع الأمني غير المستقر، وتبعية المناطق لقوى سيطرة وفصائل مختلفة. وكثيرة هي حوادث الاعتداء على الناس التي تقصد المناطق الطبيعية المفتوحة بقصد التنزه.

في 13 تموز، كان الناشط الإعلامي قاسم العمري مع مجموعة من أصدقائه في رحلة استجمام قصيرة إلى بحيرة ميدانكي شمالي عفرين عندما اعترضتهم مجموعة من "فرقة المعتصم" التابعة للجيش الوطني، ومنعتهم من السباحة في البحيرة بحجة أن المنطقة في قطاعهم العسكري وتقع تحت سيطرتهم.

قال العمري لموقع تلفزيون سوريا: "مجموعة من المسلحين بدؤوا بالسباب وإطلاق الشتائم والتلفظ بألفاظ الكفر، بعد وصولنا إلى بحيرة ميدانكي لغرض التنزه، وأجبرونا على الرحيل بعدما أطلقوا الرصاص لتخويفنا"، ويضيف: "انسحبنا من المكان بهدوء، خشينا أن يصعدوا أكثر لأن معنا أطفالاً صغاراً".

الباسوطة مثالاً

زار موقع تلفزيون سوريا بلدة الباسوطة البعيدة عن مركز مدينة عفرين إلى الجنوب مسافة 11 كيلومتراً، وتجاوز عدد سكان بلدة الباسوطة 6000 نسمة، نصفهم من المهجرين القادمين من الجنوب والوسط والشرق السوري، ويفصلها عن عفرين عدد من الحواجز العسكرية، أهمها الواقع عند مدخل البلدة جهة الشمال، ويتبع المقاتلون المتمركزون على الحاجز لفصيل فرقة الحمزة التابع للجيش الوطني.

حركة المرور كانت سلسلة، وليس هذا حالها دائماً، فغالباً ما يدقق عناصر الحواجز العسكرية على البطاقات الشخصية للمارة ولوحات السيارات التي تقلهم، وفي بعض الأحيان يشتكي الناس من المعاملة السيئة التي يلقونها على الحواجز، بسبب أو من دون سبب، لكن ما يميز بداية الرحلة إلى الباسوطة هو طريقها الذي بدا سهلاً وقليل الحفر بخلاف الطرقات الأخرى الخارجة من مركز مدينة عفرين باتجاه الضواحي.

تتوسط الباسوطة الساحرة سهلاً خصباً تحفه كتل جبلية بارتفاعات متفاوتة، أهمها مرتفع جبل الأحلام المطل على البلدة وبساتينها، ويعتبر وجهة محببة للزوار والمتنزهين، ويقدم الجبل إطلالات رائعة على بلدة الباسوطة والمناظر الطبيعية المحيطة بها. يمكنك الاستمتاع بإطلالة بانورامية تشمل السهول الخضراء والحقول الزراعية وأشجار الفاكهة، ويعتبر وجهة مشهورة لمحبي التصوير الفوتوغرافي، حيث يمكن التقاط صور رائعة للسهل الخصب من مكان مرتفع.

ويحوي السهل ينابيع مياه عذبة بدت آثارها واضحة على بساتينه الغناء، تتمتع البلدة بوفرة الأراضي الزراعية والتربة الغنية، مما يجعلها ملائمة لزراعة مجموعة متنوعة من الخضراوات والأشجار المثمرة. وكان لوقوع البلدة بين مرتفعات جبلية ولكثافة أشجارها من الرمان والمشمش والدراق والزيتون واللوز والإجاص والكرز وغيرها من الأشجار المثمرة التي تخيم على السهل وتملأ الأنفاس بعبقها العطري، دور في تلطيف وتبريد طقسها، ولكثافتها، تكاد أرتال الأشجار تتعانق على جنبات الطرق لتحولها إلى ما يشبه الأنفاق الخضراء التي تغري الزوار والمصطافين، فهي فرصة قل ما تتكرر للتواصل مع الطبيعة والاسترخاء والترفيه والاستمتاع بالهواء النقي، كما أنها توفر زوايا ومساحات رؤية قل نظيرها، تجذب عادة المتأملين ومحبي التصوير بأنواعه.

التقى موقع تلفزيون سوريا رشيد محمد (مهجر مقيم في البلدة) الذي قال: "المكان جميل والعيش فيه يريح النفس، بساتين على مد النظر، مياه عذبة وطقس لطيف، لكن الباسوطة تفتقر للاستثمارات السياحية التي كانت ستوفر فرص عمل وتنشط الأسواق، العيش هنا لا يطعم الخبز".

(تلفزيون سوريا)

ويضيف: "الباسوطة مثلها مثل البلدات الأخرى في ريف منطقة عفرين، تتحكم الفصائل بهوائها ومائها وبساتينها، الظروف الأمنية وتحكم الفصائل بمختلف مفاصل الحياة في البلدة يخيف الناس الراغبين في القدوم إلى البلدة والتمتع بطبيعتها، وهذا يؤثر بطبيعة الحال على الاستثمار في البلدة، فمن المؤكد أن أحداً لا يقدم على المخاطرة وافتتاح مشروع سياحي هنا في هذه الظروف".

تعد الباسوطة مقصداً سياحياً شعبياً منذ ثمانينيات القرن الماضي، حينئذ تأسس أول مطعم ومنتزه (منتزه رأس النبعة) على أطراف البلدة وما يزال قائماً حتى اليوم بجوار نبع الباسوطة، النبع المميز بمياهه العذبة وشديدة البرودة، وازدادت في ما بعدد المتنزهات، ومنها منتزه رمان الباسوطة ومنتزه جبل الأحلام وغيرها، ومع دخول فصائل المعارضة إلى المنطقة في العام 2018 أغلقت جميع المتنزهات والمطاعم أبوابها في البلدة، معظم المواقع تحولت إلى مقار عسكرية وأخرى مهجورة، ووحده مطعم ومنتزه رأس النبعة واصل عمله بعد توقفه لشهرين فقط.

يقدم منتزه رأس النبعة أنواعاً شهية من الطعام، من خلال تركيزه على المأكولات المحلية والمأكولات السورية التقليدية، يقدم تشكيلة متنوعة من الأطباق المشوية، والمقبلات الطازجة، والأطباق الرئيسية المميزة التي تعتمد على استخدام المكونات الطازجة والمحلية، كما يتميز بأجوائه الجميلة وديكوره العريق، مما يخلق تجربة تناول طعام مريحة وممتعة. ويعتبر وجهة شهيرة للسكان المحليين والزوار الذين يبحثون عن تذوق المأكولات اللذيذة والاستمتاع بالجو الرائع في بلدة الباسوطة.

وفي المنتزه تكلف وجبة غداء ومقبلات وشاي لأربعة أشخاص نحو 550 ليرة تركية (تساوي 20 دولاراً تقريباً)، وما يميز طبق المشاوي الذي يشتهر به، أنه يقدم مع كمية لا بأس بها من "دبس الرمان" و"المخللات" بأنواعها، وهي إنتاج وتصنيع محلي بحت، فالبلدة مشهورة برمانها اللذيذ، والذي برع أهالي البلدة في تصنيعه كشراب ودبس يضاف إلى المأكولات في كل فصول العام.

يبدو المتنزه الوحيد في الباسوطة بحاجة إلى عمليات ترميم وإعادة تأهيل، وهذا ما يخطط له المالك، لكن الإقبال ضعيف على المتنزه، والأرباح التي يحققها حالياً بالكاد تكفي لتغطية المصاريف والأجور الشهرية للعاملين.

يقول الشيف جمعة خليل (يعمل في المتنزه منذ 24 عاماً) إن "أسعار المأكولات والخدمات التي يقدمها المتنزه منافسة، ولا يمكن أن يجدها الباحثون عن المتعة والاستجمام في المطاعم المنتشرة في عفرين وباقي المدن، وبرغم ذلك يبدو الإقبال على المتنزه منخفضاً، ويرجع ذلك إلى الظروف الأمنية في المنطقة، وخشية الناس من الخروج إلى أماكن بعيدة".

وأضاف خليل لموقع تلفزيون سوريا أن "الباسوطة غنية بالمقومات الطبيعة التي تجعل منها منطقة جاذبة لمصطافين ووجهة مفضلة للسياحة الداخلية، لكنها فقيرة جداً بالخدمات والبنى التحتية وتعاني من إهمال الجهات الرسمية المسؤولة عن المنطقة، والتي لا تفكر أبداً في تنمية هذا القطاع الذي سينهض حتماً باقتصاد البلدة فيما لو أولي اهتماماً ولو بالحد الأدنى، الاهتمام بالباسوطة كوجهة سياحية سيخلق فرصة لتشغيل الأيدي العاملة، وسيؤثر إيجاباً على كل القطاعات من مربي مواش لمزارعين إلى عاملين في النقل، كذلك سيخلق وجهة سياحية مميزة تؤمن الراحة والتمتع بالطبيعة للناس بتكاليف بسيطة مقارنة بالمنشآت السياحية التي غزت المدن الكبيرة".

ويرجع السبب في تراجع السياحة المحلية وانخفاض أعداد المصطافين الذين يقصدون الباسوطة إلى عدة عوامل أهمها:

  • الفوضى الأمنية وتحكم الفصائل ما يثير المخاوف ويقلل من اهتمام الناس بزيارة الباسوطة. كذلك يخيف المستثمرين من وضع أموالهم في مشاريع سياحية في المنطقة.
  • البنية التحتية والخدمات تكاد تكون معدومة في بلدة الباسوطة، هناك حاجة لتطوير الطرق والمرافق العامة ومنع التجاوزات على الأملاك العامة والخاصة والحد من انتهاكات الفصائل.
  • النقص في جهود التسويق والترويج لبلدة الباسوطة وعدم اهتمام الجهات المحلية بالقطاع السياحي والخدمي والجاذب للاستثمارات.
  • غياب النقل العام لتسهيل وصول الزوار إلى المنطقة.
  • التلوث، وخاصة مع تحول مجرى نهر عفرين الذي يقطع سهل الباسوطة من الجهة الغربية إلى مجرى للصرف الصحي بعد قطع مياه النهر في سد ميدانكي.
  • تعتبر الفصائل العسكرية مناطق الاصطياف الطبيعية العامة (أنهار ووديان وأحراش ومرتفعات) أملاكاً خاصة لها يمنع الاقتراب منها. وكثيراً ما تحصل تعديات على العائلات التي تقصدها للتنزه.