الانحطاط الاجتماعي.. الاستبداد والعبودية الطوعية

2023.12.13 | 07:41 دمشق

الانحطاط الاجتماعي.. الاستبداد والعبودية الطوعية
+A
حجم الخط
-A

ما الذي يدفع الناس للخضوع إلى سلطة شخص لا يملك أي صفات مميزة، ولا يتصرف بما تمليه مصلحتهم؟ لا بل يسحقهم ويدمر حياتهم وحياة أبنائهم، وربما تصرفوا بما هو أدهى من الخضوع، وهو أن يقاتلوا بلا رحمة من يحاول إخراجهم من حالة العبودية التي يعيشونها؟

في كتابه "العبودية الطوعية"، يحاول الكاتب الفرنسي "إيتيان دو لا بويسيه" أن يفسر الأسباب التي تجعل هذا الخضوع مألوفا وربما مرغوباً، رغم أن الشخص الذي يخضعون له قد يكون من أضعف الناس وأفشلهم، فيرجِع الأمر إلى "الإرادة العميقة في العبودية"، التي تنشأ نتيجة تعوّد الناس على الطاعة العمياء للحكّام، فيغرقون بمرور الزمن في وحل العبودية، "الناس بعد أن جرى إذلالهم يسقطون بغتة في نسيان عميق جداً للحرية.. وبالتالي فهم لم يفقدوا حريتهم فقط بل فازوا بعبوديتهم"، وبالتالي فإن ثنائية (الطاعة/ السيطرة) هي المتحكم الرئيس في علاقة (الحاكم/ المحكوم) لدى الأمم المنغمسة في وحل العبودية.

يصنف "بويسيه" الطغاة إلى ثلاثة أنواع، فبعضهم يصل إلى السلطة عبر انتخاب الشعب، وبعضهم عبر قوة السلاح، وبعضهم بالوراثة، وفي نموذجنا السوري يمكن القول إن الأنواع الثلاثة تنطبق كلها على "بشار الأسد"، فهو ورث السلطة ويحكم بقوة السلاح، وهو "منتخب" من الشعب، إضافة إلى ما سبق فهو نشأ في حضن الطغيان، ورضعه منذ صغره، وبالتالي فهو "حسب مفهوم بويسيه" ينظر إلى السوريين الخاضعين له نظرته إلى عبيد بالوراثة، ويتصرف بسوريا وفقاً لطبعه الغالب مثلما يتصرف بإرثه.

لا يرى "بويسيه" أن تحرُّر الشعوب من عبوديتها وتحررها من الحكام الفاسدين سهلاً، أو قريباً، خاصة إذا تتالت الأجيال التي تعودت على الخضوع، لأن إطالة زمن الطغيان ينتج ما سماه "المواطن المستقر"، وهو مواطن راض بفسحة الأمان التي يعيشها مهما تكن ضيقة، ومهما كانت مذلّة، ويصبح الخوف من فقدان هذه الفسحة الضيقة من الأمان، رعب هذا المواطن المستقر، وكلّما تناقصت، استمات في التمسك بها.

الكواكبي يمثل نظرة العالم الشرقي لمضامين (الطغيان أو الاستبداد)، وبويسيه ينظر بفكر غربي له حيثياته ومرتكزاته المختلفة حول الموضوع ذاته، وكلاهما يصف ما يمكن تسميته بالانحطاط الاجتماعي

بعد ما يقرب من ثلاثة قرون على مقالة "بويسيه" (العبودية المختارة)، يكتب "عبد الرحمن الكواكبي" في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد) ما ينسجم تماما مع ما كتبه "بويسيه"، رغم فارق الزمن، ورغم اختلاف البيئة، فالكواكبي يمثل نظرة العالم الشرقي لمضامين (الطغيان أو الاستبداد)، وبويسيه ينظر بفكر غربي له حيثياته ومرتكزاته المختلفة حول الموضوع ذاته، وكلاهما يصف ما يمكن تسميته بالانحطاط الاجتماعي، فيقول "بويسيه" مخاطباً الناس إن الطاغية "ليس له سلطة عليكم إلا بكم"، و"لا يملك من القدرة سوى التي تمنحونها"، فكأنكم "أناس لم يولدوا إلا ليسترقوا"، وأنتم "إما مقهورون أو مسحورون"، مضيفاً "يبدو أنكم إذا ترك لكم نصف ممتلكاتكم، ونصف عائلاتكم ونصف حياتكم تعتبرون ذلك سعادة كبرى"، ويقول الكواكبي: "العوام هم قوت المستبد وقوته، يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في صرف أموالهم يعتبرونه كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً".

وأنت تقرأ (العبودية المختارة)، أو (طبائع الاستبداد)، يذهلك مدى تطابق التوصيف لحال المجتمع الذي يتحدث كل منهما عنه مع حال سوريا، لكأنّما استطاع الاستبداد في سوريا أن ينتج كل أوجه الاستبداد التي عرفتها البشرية، أو لكأنّما لم يترك النظام السوري وجهاً من أوجه الاستبداد إلا وأذاق السوريين طعمه، بما في ذلك تلك الأوجه التي يذكرانها على أنها قد تحدث وقد لا تحدث، والصادم أنه كلّما ازداد الاستبداد والفساد والنهب لأموال الناس، وتوقع المراقبون أنه لم يعد هناك أي فسحة للخضوع، وبالتالي فإنه لم يبق هناك إلا المواجهة، تجد هذا الخضوع وقد اكتسب وجهاً جديداً، وأوجد الناس طرقا للتعايش معه.

لعل النقطة الأهم في مقاومة الاستبداد وفق الكواكبي هي في رؤيته لأهمية الإصلاح الديني، وهذه الفكرة لم يهتم بها بويسيه، لا بل يذهب الكواكبي للقول إن "الإصلاح الديني أقرب طريق للإصلاح السياسي"

اتفاق "بويسيه" و"الكواكبي" حول توصيف الاستبداد لم يستمر عند بحثهما في طرق رفضه ومقاومته، فبينما يذهب بويسيه للتركيز على  الحروب وقادتها، وكيف بفوزهم ينقلبون على الطاغية ويميتونه شر ميتة، يذهب الكواكبي باتجاه آخر، فهو لا يؤمن بالتغيير "المسلح"، ولا يرى بديلاً عن بناء نظام أخلاقي في أوساط المجتمعات، يكفل تغير الأحوال نحو الأفضل، ولعل النقطة الأهم  في مقاومة الاستبداد وفق الكواكبي هي في رؤيته لأهمية الإصلاح الديني، وهذه الفكرة لم يهتم بها بويسيه، لا بل يذهب الكواكبي للقول إن "الإصلاح الديني أقرب طريق للإصلاح السياسي".

في الحوارات التي يجريها مركز حرمون للدراسات بين السوريين، حول المواضيع الأكثر سخونة واختلافاً بين السوريين، اعتبر قسم كبير من المتحاورين أن الإصلاح السياسي هو المعبر الوحيد لإنهاء الاستبداد، على عكس الكواكبي، وربما يذهب البعض لرؤية أن ما قاله الكواكبي في هذا المجال قد لا يكون مجدياً في عصرنا الراهن، فهو قد بنى رؤيته على مجتمع تحكمه أسرة حاكمة لها علاقة خاصة بالدين، وبالتالي لا يمكن البناء على رؤيته في ظل شروط مختلفة.

هذا يدفع للسؤال حول فشل السياسة في بلداننا، ولماذا لم تستطع شعوب هذه البلدان أن تنهي الاستبداد أو تضعه على طريق الهزيمة، فهل نقبل بجواب الكواكبي بأن هذا الفشل مرده إلى عدم الذهاب مسبقاً إلى الإصلاح الديني، وبأن غياب الإصلاح الديني سيغلق الباب أمام أي مشروع لإنهاء الاستبداد من حياة هذه الشعوب؟ 

ربما تملك وجهة نظر الكواكبي وجاهتها، حتى في لحظتنا الراهنة، وربما لا يتفق كثير من المثقفين والمفكرين العرب معه فيما ذهب إليه، لكنه أضاف إلى رؤيته بضرورة الإصلاح الديني ثلاث نقاط أساسية أخرى، تستحق أن نتوقف جميعا أمامها:
1- الأمة التي لا يشعر كلّها أو أكثرها بآلام الاستبداد، لا تستحق الحرية.
2- الاستبداد لا يقاوم بالشدّة، إنّما يقاوم باللين والتدرج.
3- يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد.